على عكس القاهرة وتونس، لم يحتل المحتجون ضد النظام الأماكن الكبرى في دمشق. إذا كان الرئيس بشار الأسد نفى أن تكون عدوى «الربيع العربي» قد انتقلت إلى سوريا فإنه أرسل الدبابات إلى ضواحي العاصمة منذ شهر نيسان 2011؛ في كانون الثاني وشباط 2012 عرفت بعض الأحياء داخل دمشق عدة مظاهرات. نجح النظام في المحافظة على مركز المدينة ومنع الانفجار العام. سيناريو مثل هذا سيكون قاتلاً بالنسبة له، لأن دمشق هي الحجر الأساسي للنظام السياسي الذي بناه حافظ الأسد بين (1970- 2000)، هي حالة نموذجية لتحليل العلاقة بين الفضاء المديني والسلطة.
دمشق هي واحدة من أقدم المدن الإنسانية التي بقيت مأهولة باستمرار. تأسست في الألفية الرابعة قبل الميلاد في سفح الغوطة الواسعة، واحة تشكلت من نهر داخلي يتغذى من نهر بردي الذي ينبع من سفح جبل القلمون، كانت عاصمة مملكة أرمينية صغيرة على هامش الإمبراطوريات الكبرى المصرية، الحثية، الميزوبوتامية والفارسية التي كانت تسيطر على الشرق الأوسط آنذاك. غزاها الإسكندر الأكبر (336-323 قبل الميلاد). سنة 333 قبل الميلاد، عشر سنين بعد وفاة الفاتح، فرضت السيطرة على المركز السياسي الحالي من قبل السلوقيين. كانت إمبراطوريتهم (305-64 قبل الميلاد) الوحيدة التي استقرت في سوريا القديمة لكنها كانت سريعة الزوال. لم تكن دمشق إلا مدينة ثانوية، تغير موقعها تغيراً جذرياً مع الفتوحات العربية سنة 635 بحيث أصبحت عاصمة للأمويين (651-750). بنى الخليفة الوليد الأول (705-715) الجامع العظيم (الأموي) الذي تم الحفاظ عليه بطريقة رائعة منذ أكثر من 13 قرناً. مكان يحج إليه السنة والشيعة على حد سواء. فقدت المدينة من أهميتها سنة 750 مع تحول عاصمة الخلافة إلى بغداد عند قدوم العباسيين (750 -1258). لكن الإمبراطورية لم تعد موحدة كما كانت عليه في الماضي. نأى الأمراء بأنفسهم عن الخلفاء والتفكك قادم عما قريب.
في عيون التاريخ العربي، تعتبر دمشق العصر الذهبي للحضارة الإسلامية العربية، هي رمز للوحدة. حاول نظام حافظ الأسد الاستفادة من هذه الوحدة ليضمن الشرعية الداخلية والخارجية آن ماري بيانكي: «دمشق: مرآة المشرق العربي المحطمة»، أوترومون، 1993. تراجع الخلافة وانقسام أراضيها في الشرق الأوسط ساعد على استقرار الصليبيين في فلسطين وعلى الساحل السوري اللبناني. كانت الحرب الصليبية الأولى ما بين 1195-1199. باءت محاولتهم في احتلال دمشق سنة 1148 بالفشل. أصبحت المدينة مركزاً للمواجهة بقيادة الأيوبي صلاح الدين(1169-1193). سنة 1187، بعد النصر الذي حققه في معركة حطين، حرر القدس التي سقطت في أيدي الصليبيين سنة 1199. إلى اليوم، لا تنفصل دمشق عن صلاح الدين: تمثاله يحتل الصدارة أمام قلعة دمشق، كما يزور الحجاج قبره الذي نصب أمام المسجد الكبير. حاول حافظ الأسد أن يظهر نفسه كخليفة لصلاح الدين: هو من سيعيد تحرير فلسطين من جديد. الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1973 التي يُحتفل بها كانتصار في سوريا بما أن جيشها استطاع أن يتقدم بضع كيلومترات في الجولان المحتل، كانت الفرصة التي استغلها «أسد دمشق» ليبني هذه الأسطورة. إلا أنه ضعف ليصبح صورة كاريكاتورية، نسمع: «أسد في لبنان وأرنب في الجولان». سنة 1516، مع الفتح العثماني في بلاد الشام، منطقة واسعة صحراوية تضم كل من سوريا الحالية، لبنان، فلسطين والأردن، كانت مجرد مقاطعة من مقاطعات الإمبراطورية تحكم من اسطنبول. رغم فقدانها للاستقلال السياسي لمدة أربعة قرون ترافق ذلك مع عودة الأمان الذي أدى إلى تطور التجارة والمدينة. دمشق هي مفترق طرق هام على الطريق شرق-غرب بين الميزوبوتاميا (بلاد الرافدين) والبحر الأبيض المتوسط والطريق شمال-جنوب بين الأناضول، مصر والحجاز. الخانات التي بنيت في هذه الفترة تعكس أهمية تجارة القوافل بالنسبة للمدينة لكن حلب تجاوزتها في هذا المجال، المدينة الثالثة في الإمبراطورية العثمانية، بعد كل من اسطنبول والقاهرة، إنها واحدة من «بوابات المشرق» (بعد الرسالة التي عرفت باتفاقية الاستسلام سنة 1536، تخلى السلطان عن بعض من مهامه القانونية لصالح التجار الفرنسيين في مدن المغرب والمشرق، سميت هذه المدن بـ «بوابات الشرق» بسبب تواجد مجموعات كبيرة من التجار الأجانب مع قنصلياتهم، الأمر الغائب في دمشق المنغلقة على الأوربيين(أنظر الخريطة). اليهود والمسيحيين هم مندوبو التجار الأوربيين المستقرين في كل من بيروت، صيدا وحلب. الازدهار الاقتصادي لهاتين المجموعتين في القرن التاسع عشر مع توطيد العلاقات بالأوربيين تسبب في إحباط المسلمين مما أسفر عن مذابح ضد المسيحيين سنة 1860 ( بين 4000 و 6000 ضحية).
هذا الفصل المريع، ترك أثراً سلبياً في المجتمع المسيحي، مما يساهم في شرح دعم المسيحيين لبشار الأسد حالياً. في منتصف القرن التاسع عشر عُمّرت منحدرات جبل قاسيون: أسّس حي المهاجرين من طرف لاجئين مسلمين طردهم الروس بعد تقدمهم في القوقاز واستقلال أقاليم البلقان عن الخلافة العثمانية. في الأصل، فُصل حي المهاجرين عن باقي المدينة بواسطة حدائق، كان الدمشقيون حذرين من هذا القادم الجديد. لدينا هنا، مثال حي عن الحذر من الغريب كخيار مفروض غير ناتج عن مواجهة فعلية.
العصرنة العمرانية
في بداية القرن العشرين، انتهى التطور العمراني على محور الصالحية بتغطية المساحات التي كانت تفصل بين حي المهاجرين ومدينة دمشق. ظهر البناء الحديث مع التنظيمات ( الإصلاحات العثمانية) في حي المرجة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث تتصدر الأبنية الإدارية المجاورة للقلعة. استولت قوات الاحتلال على هذه الأبنية لتنصيب الوزارات التابعة لدولة سوريا. غطت المباني الأراضي الزراعية بين دمشق وجبل قاسيون: تستقبل ضفاف نهر بردي الجامعة السورية مع مختلف المباني العامة المعروفة إلى اليوم بأسطحها المغطاة بالقرميد الأحمر. بني حي أبو رمانة سنة 1950 تبنت البلدية المخطط العمراني الذي أنشأه ميشيل إيكوشار سنة 1936 وطبقته بحذافيره سنة 1950 و 1960. فرانك فري «مخططات حلب ودمشق: مصطبة تجارب لعمران الإخوة دانجي (1931-1937)»، مجلة العالم الإسلامي والمتوسطي، العدد 73-74، 1994، على طريق محفوف الجانبين بالنخيل يظهر حي من الحدائق يتكون من مباني بطابقين تحيط بها المساحات الخضراء صممها المخطط الفرنسي ميشيل إيكوشار. منحدرات جبل قاسيون التي تم الاستغناء عنها لصالح اللاجئين في القرن التاسع عشر أصبحت محبوبة كونها مناطق مفتوحة يسودها النسيم في فصل الصيف. لا يزال إلى اليوم حي المالكي الحي الأغلى في دمشق.
مع قدوم حافظ الأسد إلى الحكم سنة 1970 حيث سٌجلت بداية الاستقرار السياسي في سوريا، انطلقت مشاريع بناء كبرى استكمالاً لمخطط إيكوشار سنة 1936. يتعلق الأمر بإعطاء صورة، عن عاصمة عصرية وعن بلد يخطو على مسار التقدم. تم بناء مباني عامة ضخمة بمساعدة تقنية من الدول الاشتراكية للتأكيد على قوة الدولة: مكتبة الأسد، ملعب تشرين، الحرم الجامعي في المزة، مباني مختلف الوزارات، كلها مباني هائلة. المبنى العسكري هو الأفخم، دون أن ننسى القصر الرئاسي. قدرت تكلفة بناء هذا الأخير بـ2 مليار دولار سنة 1980 ما يعني قيمة سنة من المساعدات الخارجية لسوريا.
كان حافظ الأسد يعيش في فيلا على منحدرات قاسيون، لم يكن يلتقي إلا بضيوفه في «قصر الشعب». كانت نيته أن يترك بصمته في دمشق، وأن ترى هذه البصمة في كل دمشق، كان يود أن يعطي انطباعاً عن قوة لا تهزم، يقال: «أسد إلى الأبد».
الأحياء الجديدة كانت بوحي اشتراكي. مباني كبيرة بتدفئة مركزية ومركز تجاري لكل مجموعة. هي مباني موجهة لاستيعاب كوادر الدولة التي تغذي البيروقراطية، وكذلك كوادر الجيش القادمين من الأقاليم وخاصة من المناطق العلوية ( الشمال الغربي للبلاد)، مناطق نفوذ لعشيرة الأسد. أُسكن الموظفون والعسكريون ذوو الرتب الأدنى في الضواحي، في أحياء ومخيمات عسكرية واقعة على الطرق الرئيسية؛ هكذا يستطيعون عزل العاصمة في حالة حدوث تمرد.
بدأت الأحياء غير القانونية تنمو في أراضي الغوطة الزراعية. من أجل الحفاظ على الأراضي الفلاحية تم إطلاق مشروع المدينة الجديدة ( مشروع دمر) في بداية الثمانينات. عرف المشروع تأخراً ملحوظاً كما فشل في اجتذاب السكان بسبب مشكلة النقل، إلا أنه وفي بداية سنة 2000 أصبح واحداً من الأحياء الفخمة في العاصمة بسبب بناياته الوافرة التهوية والباردة في الصيف. لكن هذا لم يغدو ممكناً إلا بعد أن عمّم استعمال السيارة.
مع قدوم بشار الأسد إلى الحكم في يونيو سنة 2000، انفتحت دمشق على الاستثمارات الخارجية في المجال العقاري. منحت تنازلات لشركات عقارية خليجية في وسط المدينة وفي الضواحي: البوابة الثامنة على طريق المطار، مدينة السلام في سفح جبل حرمون – العديد من المشاريع بمليارات الدولارات لم تكتمل أو تم إهمالها حتى قبل بداية الشروع فيها، بسبب الأزمة السياسية في سوريا لكن أيضاً بسبب مشكلة البيروقراطية الدائمة. المشروع العملاق الوحيد هو فندق فور سيزنس الذي بناه الأمير الملياردير السعودي الوليد بن طلال آل سعود في وسط العاصمة. محى المباني الأخرى بحجمه الكبير وأصبح رمزاً لدمشق الجديدة. يركز النظام على هذا النوع من المشاريع العقارية من أجل التفاخر وينسى الأحياء غير الشرعية التي تمتد كبقعة الزيت. تحتل اليوم ما يقارب نصف المساحة المعمّرة وتأوي ثلث سكان المنطقة فابريس بلانش، «السكن غير الشرعي في التجمع السكني في دمشق وتخلي الدولة» مجلة جغرافيا الشرق، الجزء 94/4، 2009.
دمشق المترامية الأطراف
توضح خريطة الامتداد العمراني في دمشق تجمعاً سكنياً على شكل أخطبوطي يضم في أذرعه ما بقي من حدائق الغوطة (أنظر الخريطة). على هذا النحو من التطور المعماري، ستختفي الواحة كلياً سنة 2030. رغم المخططات التي تشجع على التوسع قرب جبل قاسيون من أجل المحافظة على الأراضي الزراعية. تم التعمير بشكل أساسي داخل أراضي الغوطة حيث كان ممنوعاً في السابق. النمو الديموغرافي الاستثنائي هو السبب الأول للتطور العشوائي بما أن عدد السكان يتضاعف كل 15 سنة منذ الاستقلال سنة 1946. تباطأ النمو السكاني مع بداية سنة 2000. تعُدّ دمشق الكبرى رسمياً 3.8 مليون نسمة خلال الإحصائيات الأخيرة سنة 2004 المكتب العام للإحصائيات، التعداد العام للسكان، دمشق 2004 يضاف إليهم مئات الآلاف من اللاجئين العراقيين القادمين بين سنتي 2003 و 2005 الذين لم يتم تعدادهم في الإحصائيات الرسمية سيريل روسيل، «جرمانا، القريبة من دمشق، مستقبل مدينة تستقبل اللاجئين العراقيين» مجلة جغرافيا الشرق ، الجزء 94/4، 2009. بهذا، تحصي دمشق سنة 2012، 5 مليون نسمة من بينهم اللاجئون العراقيون.
السبب الثاني الذي جعل المدينة تفيض على حدائق الغوطة دون حذر هو اعتبار السكن العشوائي كرشوة اجتماعية. لا يملك نظام الأسد الوسائل المادية ليمول السكن مثلما كان الحال في زمن البعث القوي بسبب تحولات الدول البترولية في الخليج بعد الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1973 وحتى سنوات الاصطدام البترولي سنة 1980، تلقت سوريا مساعدات من الدول البترولية في الخليج بلغت 35 % من الناتج المحلي الاجمالي. بالتالي، هو لا يملك خيارا سوى تقديم بعض «التساهل» الإداري. لا تعمل البيروقراطية إلا على دفع الناس إلى الطرق غير الشرعية بما أنها تجني جرار النبيذ عند التغاضي (مثل فرنسي). فيما يخص النظام، فبيده سكين يسلطها على رقاب سكان تلك الأحياء. تسوية العقار، التوصيل بشبكة الكهرباء وشبكات الصرف الصحي…هي فرص لكسب ولاء السكان، وفاءً لتقليد بحت للمحسوبية السياسية السورية. مع أن الظروف المعيشية بقيت صعبة، الحصول على الماء خاصة، مشكل عويص. عندما توجد الشبكة العامة فإنها لا تضخ إلا ساعات قليلة في الأسبوع. يلجأ السكان إلى الشاحنات المهيأة بصهاريج أو إلى حفر الآبار من أجل الحصول على الماء، لكن منسوب المياه الجوفية في انخفاض سريع ومياهها ملوثة وطعمها كريه. يصرح النظام باستمرار أن مشكلة المياه ستنتهي عند اكتمال بناء قنوات تنقل المياه من الفرات أو من الساحل نحو دمشق. الحوار مازال قائماً والأشغال لم تبدأ بعد. كان البلد يأمل – قبل أن تتأثر سوريا بالربيع العربي- الحصول على مساعدات وقروض دولية. على أية حال، هذا لن يحل مطولاً مشكلة الماء في العاصمة. ينبغي في المقدمة، التقليل من الخسائر في الشبكة التي يُستغل أقل من 50% من قدراتها، رفع الأسعار من أجل خفض التبذير وخاصة تسوية الفواتير فابريس بالانش، «نقص المياه في سوريا، التنازلات الجيوسياسية والتوترات الداخلية»، مغرب مشرق، العدد 196، صيف 2008.
التجمع السكاني في دمشق في انجراف
التحكم في التجمعات السكانية في العاصمة يطرح إشكالية. منذ قدومه إلى الحكم، قسم حافظ الأسد دمشق إلى محافظتين : دمشق المدينة ودمشق الريف، تتعلق الأولى بالبلدة والثانية بما كان يسمى حينئذ ريفها الذي يضم الغوطة فابريس بالانش، «البلديات في سوريا البعثية»، مجلة العالم الثالث، العدد 193، يناير- مارس 2008. لكن اليوم، التوسع العمراني لمدن وقرى الضواحي جعل هذا التقسيم بدون معنى. ينبغي دمج المحافظتين وخلق محافظة دمشق الكبرى، مثلما هو الحال في عمان التي نجحت في ضم كل المدن والدوائر التابعة لها.
تصطدم كل عمليات التوسع العمراني بمشاحنة بين السلطات العمومية للمحافظتين ومختلف البلديات. لا يحل المشكل في معظم الأحيان إلا بتدخل الرئاسة عندما يطلب منها أو تجد مآرب لها في ذلك. لماذا لم يحاول بشار الأسد- الذي هو رئيس دولة مركزية لا تأبه أبداً للمجالس المنتخبة أو المعيّنة- أن يخلق مجلساً حقيقياً لدمشق الكبرى ؟ في المقاطعات الكبرى، امتداد المخطط الرئيسي يتماشى مع ضم بلديات الضواحي لتوحيد عمل السلطات. يبدو أن سبب التعقيد الإداري الذي ينمّ عن مشاكل عدّة في القطاع العمراني هو الإستراتيجية الأسدية في التفريق من أجل السيادة. سنة 1970، خلق حافظ الأسد سلطة مضادة لسكان مدينة دمشق تستثمر فيها البرجوازية المتوسطة الوفية لحزب البعث من أهل ريف العاصمة. بما أن موازين القوى هي التي تؤسس للفعالية في مجال التنمية الحضرية فإن احتمال تحسين إدارة التجمع السكني في دمشق ضعيف جداً.
انقسام مناطقي كما هو الحال في كل سوريا
كما كل العواصم، تخلق فوارق الدخل في دمشق اختلافاً قوياً جداً في الفضاء الاجتماعي. بالتأكيد الأحياء الفقيرة أقل فقراً من شبيهتها في القاهرة والأحياء الغنية لا يظهر فيها البذخ كما هو الحال في شبيهاتها في لبنان. رغم ذلك، تظهر الرفاهية جلية منذ انفتاح الاقتصاد سنة 1991يعتبر القانون رقم 10 الذي صدر في شهر مايو سنة 1991، بداية للانفتاح الاقتصادي. أنهى دوامة اقتصاد توجيهي بوحي اشتراكي كان قد بدأ منذ استيلاء حزب البعث على السلطة سنة 1963 بينما اختفت مساعدات الدولة تدريجياً. خلقت هذه الحالة شرخاً في المجتمع السوري، خاصة في ضواحي دمشق حيث يصعب تقبل الفقر على عكس الحال في القرى. تضاعف عدد الجمعيات الخيرية في السنوات الأخيرة في محاولة لاستدراك تخاذل السلطات. تستجيب هذه الجمعيات للاحتياجات الاجتماعية لكنها أيضاً تستغل هذا للترويج للتجار وبعض رجال الدين. فهم النظام مؤخراً هذا الخطر ومنع، سنة 2008، رجال الدين من الانتماء إلى مجالس إدارة هذه الجمعيات لورا رويز إلفيرا، «الدولة السورية في امتحان المنظمات غير الحكومية منذ قدوم بشار الأسد إلى السلطة» مغرب مشرق، العدد 203، ربيع 2010.
لكنه تدخل متأخراً ولم يكن يملك لا الإرادة ولا الوسائل لدعم هذه الأحياء عن طريق المؤسسات العامة. مما سيتيح بناء حركة معارضة على الميدان، محلية وغير منسقة على المستوى الوطني، لكنها وجدت أحد تعبيراتها اليوم في لجان التنسيق المحلية التي تنظم المظاهرات. في ضاحية دمشق، هم أقوياء في الأحياء السنية المتجذرين فيها على عكس الأحياء التي تأوي القادمين الجدد. بهذا، أحياء دوما وداريا المعروفة بصرامتها وانغلاقها على الأغراب حتى وإن كانوا من الطائفة السنية، هي مناطق معادية للنظام.
الضواحي العلوية، الدرزية والمسيحية، لم تعرف تقريباً أي مظاهرة ضد الأسد بل على العكس عرفت مظاهرات مناصرة له. رغم أن وضعها الاقتصادي مشابه لوضع الضواحي السنية مع فارق أن سكانها متأصلون أكثر في دوائر السلطة. مما يسهل عليهم إيجاد فرص عمل في القطاع العمومي وفي الجيش. البلدات الدرزية المسيحية في الغوطة- جديدة عرطوز، جرمانا، صحنايا – كانت بمثابة الجسر الذي سيعبر عليه الوافدين ( الدروز، المسيحيين، العلويين والإسماعيليين) إلى العاصمة. يتقاسم هؤلاء نفس نمط الحياة وليس باستطاعتهم أبداً الاستقرار في أحياء الضواحي مثل دوما وداريا. مدينة مثل جرمانا، بهوية درزية واضحة تجذب أيضاً كل من يريد الهروب من الصرامة الإسلامية. البلدات الثلاثة المسيحية الدرزية القديمة تحوي كل منها اليوم أكثر من 100000 نسمة، عرفت انفجاراً عمرانياً بدءاً من سنة 2003 مع قدوم اللاجئين العراقيين، خاصة المسيحيين، العراقيون كما السوريون، استقروا في مناطق مختلفة من التجمع السكني حسب إمكانياتهم المادية، نمط معيشتهم وتبعاً لطوائفهم أيضاً: الست زينب، مكان يحج إليه الشيعة، أصبح اليوم الضاحية الشيعية العراقية الجديدة في دمشق.
من يمسك بدمشق يمسك بسوريا
العاصمة دمشق هي مثال لسوريا: فسيفساء طائفية واجتماعية، منظمة حسب خطة أمنية دقيقة تفرض نفسها على المشروع العمراني. يحيط بوسط المدينة شارع عريض بدوره محاط بشوارع واسعة تصنع تقطعات في فضاء المدينة. لا يتعلق الأمر بتسهيل حركة المرور، عندما تم تطبيق المشروع في سنوات 1970- 1980 كان القليل من السوريين يملكون السيارة، ولم تكن غاية القائمين على المشروع التهيئة لزمن تصبح فيه السيارة في متناول الكثير من السوريين. في الواقع، يتعلق الأمر بتعمير أمني كلاسيكي، مهيأ للسماح بمرور الآليات العسكرية المصفحة ومنظم من أجل إحباط كل حركة احتجاجية غرضها التوسع. دمشق القديمة كانت ضحية لهذه الإستراتيجية في نهاية سنوات 1970 بما أن جزءاً من أسواقها مُسح ليترك مكاناً لحي تجاري بشوارع عريضة تتقاطع في زوايا قائمة. خطأ النظام يكمن في غضه النظر عن تكاثر الضواحي العشوائية دون تنظيم. سمح بذلك، ببناء ضواحي صعبة المراقبة، مما سهل فيما بعد عملية تنظيم الاحتجاجات فيها.
تحاط دمشق بمخيمات عسكرية أغلبية ساكنيها من العلويين، تقوم بمراقبة المحاور الرئيسية المؤدية إلى خارج العاصمة وهي مستعدة للتدخل في حالة الثورة، مثلما هو الحال الآن. المدينة أيضاً مراقبة من طرف جيش من المخبرين يشكلون شبكة منظمة ملقاة على المدينة. شركاء للنظام أو انتهازيون يستفيدون من عطايا النظام الذي يسمح لهم بالتجارة دون رخص، ببناء طابق أخير غير مطابق لقواعد البناء، شغل الأماكن العامة، إلخ. في الأشهر الأولى من الثورة، المستمرة منذ مارس 2011، ترك النظام البناء العشوائي ينمو ظناً منه أن هذا سيحد من حالة الاستياء العام. لكن كيف له أن يأمل حل المشاكل الكبيرة للمدينة التي تتراكم منذ عقود و لم يجلب سوى الحل الأمني القصير المدى؟