المسألة الطائفية في النظام السوري
كان حافظ الأسد أول علوي من رموز السلطة الحزبية العسكرية (المتنوعة الأصول الاجتماعية) تجرأ على ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية بينما اكتفى نظيراه محمد عمران وصلاح جديد بالوقوف خلف رئيس سني للدولة. وكان عند حافظ الأسد مشروع انقلابي لديكتاتور واضح في سياق تاريخي متصل مع مشاريع مماثلة متزامنة في أكثر من بلد عربي (العراق والجزائر واليمن..) وتمت هذه الانقلابات بنفس الطريقة (الرجل الثاني يطيح بالرجل الأول كحركة تصحيحية)..ومعظم هذه الأنظمة سارت بنفس الطريق لتصل بالاستبداد والفساد إلى محاولة توريث الجمهورية للعائلة الحاكمة.. ولكن كانت مشكلة حافظ الأسد أنه علوي وأن عائلته ستكون علوية بالضرورة.
لم يتطرق الديكتاتور أبداً بصراحة إلى هذه المشكلة بل تعامل معها دائماً بخبث ودهاء ووظفها سياسياً، فالدستور السوري ينص على أن دين رئيس الدولة الإسلام ولا يحدد الدستور طائفة الرئيس الإسلامية ولكن الرئيس كان كعرف متفق عليه ضمناً أو صراحة دائماً سنياً (كلمة إسلام في اللغة السورية الدارجة تتطابق مع السنة)، وبدل أن يطرح هذه المسألة بشفافية للتداول ناور كعادته حيث سرب لحزب البعث والأحزاب غير الإسلامية القومية واليسارية عن النية بتغيير الدستور كي يتم حذف فقرة دين رئيس الدولة من الدستور كاتجاه علماني! وحدثت أزمة الدستور المعروفة وكان مسرحها حماه وقالها له صراحة بعض مشايخ حماه “أنت ما بتركب رئيس دولة”.. كانت هناك معارك في السر ولكن ما خرج منها للعلن كان مزيفاً كنقاش سياسي وقانوني دستوري، وقد تكررت هذه الازدواجية في التعامل مع قضايا جوهرية في مناسبات كثيرة فيما بعد وهذا ما أتاح الفرصة للكثيرين في النظام والمعارضة للتفسير الطائفي دائماً (وحتى المؤامراتي) لبعض الأحداث واستثمارها سياسياً. حدثت مساومة غير معلنة (وهمية): النظام يبقي على فقرة دين رئيس الدولة في الدستور الجديد مقابل القبول الضمني أن يكون رئيس الدولة علوياً ومن هنا جاء المثل المشهور في سورية عند السنة “فتاها كفتارو” حيث كان عبد الستار السيد وكفتارو (وأتى بعدهم كثيرون) ممن لم يوافقوا فقط على الرئيس بل وافقوا أيضاً على سيطرة عائلة الرئيس نفسها ومهدوا لفكرة التوريث أيضاً.
اغتال النظام محمد عمران في لبنان (ربما أول اغتيال سياسي لنظام الأسد) وسجن صلاح جديد ورفاقه حتى توفوا في السجن.. كان لدى حافظ الأسد مشروع كبير كديكتاتور فكرس في سورية عبادة الشخصية على الطريقة الأوربية الشرقية والكورية الشمالية ومارس سياسة خارجية ماكرة تظهر سورية كقوة رئيسية في المنطقة، ولكن سياسته الداخلية قضت على المجتمع المدني قبل أن تقضي على السياسة وأشاعت الفساد وحولت الدولة السورية إلى دولة فاشلة يحكمها نظام أمني لعله “النجاح” الوحيد له حتى الآن على الأقل..
تلاعب النظام السوري بكل مكونات المجتمع السوري المتنوعة لصالح بقائه واستمراره فقط، فماذا فعل بالطائفة العلوية؟
لم يسمح الأسد أبداً بتشكيل أي تمثيل أهلي للطائفة كمجلس علوي أعلى على غرار المجلس الشيعي الأعلى أو المجلس الإسماعيلي الأعلى، ولا توجد مراجع دينية مطوّبة عند العلويين ولم يكن هذا بسبب علمانية النظام التي يدعيها دائماً بل من أجل ربط الطائفة كلها بالعائلة الحاكمة (أو المالكة)، كما شجع على الانقسام العشائري ضمن الطائفة نفسها حيث سمح بظهور الولاءات العشائرية الضيقة ضمن الطائفة.. شجع هذا النظام على هجرة العلويين من قراهم إلى المدن ليعيشوا براتب محدود كوظيفة مدنية أو عسكرية (وكثيراً ما اقتنع البعض بمنّة بعض المسؤولين عليهم بهذه الوظائف) ويتصور البعض الآن أن انهيار النظام يعني انهيار الدولة وبالتالي انهيارهم اقتصادياً، ولم يتطور الساحل السوري والجبال الساحلية سياحياً لتأمين فرص عمل محلية، وبقيت مظاهر الغنى الحديثة مرتبطة فقط بالضباط الكبار والفاسدين الكبار من المعروفين بالاسم في كل قرية وبلدة ومدينة حالهم حال باقي المناطق في سورية.
لا توجد عند العلويين غرفة خاصة في المحاكم الشرعية بل هم يتعاملون كالسنة في قانون الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والإرث..)، ولا يوجد أي شكل من أشكال التضامن الطائفي الأهلي مثل الصناديق الخيرية الحصرية بهم، وكانت العلاقة بالمسؤولين علاقة شخصية تتبع أشكالاً مختلفة نابعة من المصالح المتبادلة والولاءات العائلية أو العشائرية الضيقة وكثيراً ما يشتكي البعض (على عكس ما يتصور السائد) أن المسؤولين من هذه الطائفة كانوا يساعدون الآخرين من غير طائفتهم أكثر منهم (يحابون من يدفع أكثر مثلاً أو بسبب عدم الرغبة في الدخول في مسائل الرشى مع أقرباء ومعارف قد يتكلمون عليهم). العلويون أكثر طائفة منفتحة اجتماعياً نسبياً كأفراد في سورية وفيها أكثر الزيجات المختلطة دينياً وقومياً. ولذلك كله كان استثمار النظام لها طائفياً معتمداً بشكل كبير على التلاعب بالمزاج الشعبي العمومي بالدعاية والألعاب الأمنية، وقد مورست بهذا الصدد أكثر الألعاب الأمنية والدعائية دهاءً منذ بداية الثورة حتى الآن.
قبل الثورة بكثير تلاعب الأسد الأب بالخيال الشعبي العلوي دائماً فصلاته العلنية كانت صلاة السنة مع أن العلويين إذا أرادوا الصلاة الظاهرية صلوا صلاة الشيعة ولم يقل علناً بوضوح: هل تسنن؟ أم أنه يمارس طقساً واجباً كرئيس للدولة؟ فلماذا لا يصلي بطريقة الشيعة إذن؟..(سئل أحد المشايخ المقربين من عائلة الأسد عن تدين حافظ الأسد فأكد بأنه بعد أن صار رئيساً لم يصل مرة الصلاة العلوية الباطنية)، وقد أظهر رفعت الأسد نفسه دائماً للطائفة على الأقل كعلوي كنوع من توازن مع أخيه، في حين تمشيخ جميل الأسد وأسس جمعية المرتضى واستقطب الزعران من كل الطوائف والقوميات، وبنفس الوقت طلب شيئاً شبيهاً بالمبايعة من مشايخ علويين ولكن الكثير منهم رفض بصمت وكرامة شخصية..كما تم غض الطرف عن ظاهرة الشبيحة من العائلة الأسدية ومن لف حولها قبل الثورة بكثير مع تدخلات مختلفة أحياناً من قبل حافظ أو باسل أو بشار حين تجاوزت الأمور حد السيطرة خصوصاً في قضايا التهريب والفساد المالي كنوع من الضبط. لقد كان واضحاً الاستثمار الطائفي السياسي في سلوك العائلة الحاكمة أو المالكة في المحن الوطنية الكبرى مثل أحداث الثمانينات حين زج رفعت الأسد بسرايا الدفاع (ذات الصبغة الطائفية) في حماه في البداية ولكنها أثبتت فشلها (بعد أن تركت شرخاً طائفياً كان مقصوداً) لتعود الوحدات الخاصة (المختلطة اجتماعياً) وقائدها علي حيدر “فتحسم” الأمر. ومن وقتها برز نجم علي حيدر ودخل في الصراع على السلطة (حين مرض الديكتاتور) بمواجهة رفعت الأسد، ثم أقصي فيما بعد إثر معارضته إعداد باسل للوراثة. وكرر رفعت الأسد فعله المقصود في مجزرة سجن تدمر فبعض الأفعال لا يمكن تنفيذها إلا من قبل أضيق حلقة من الموالين الشخصيين. لقد اختطفت هذه الأحداث الشعور الجمعي عند العلويين ووضعتهم في صورة لا يحسدون عليها، ومن الملاحظ الحجم الكبير للعائلات العلوية التي كانت تسكن مدناً مثل حمص وحماه وحلب وإدلب والتي غيرت إقامتها نهائياً وعادت لتسكن بشكل دائم في الجبال والمدن الساحلية بعد أحداث الثمانينات رغم عدم وجود أي ضغوط خارجية مادية عليها وإنما بسبب مشاعر متوهمة من الشعور بالذنب وعدم الأمان من المستقبل، وهذه إحدى الظواهر التي لم تدرس في التاريخ الحديث لسورية، ويتوقع تكرارها على نطاق أوسع بعد سقوط النظام.
في السنوات الأخيرة من حياة الديكتاتور سمحت الرقابة الصارمة في الدراما التلفزيونية بانتقاد المخابرات السورية في مسلسلات شهيرة مثل مرايا وبقعة ضوء، كما سمحت الرقابة الصارمة بالربط بين اللهجة العلوية وعناصر الأمن في هذه المسلسلات.. لم يتم هذا الأمر من قبل دولة علمانية تؤسس لمجتمع مدني ناضج.. بل تم الأمر من قبل نظام بوجهين يحاول استثمار الطوائف سياسياً بشكل مكشوف ووقح، وقد تم السماح بعروض جماهيرية لأفلام عبد اللطيف عبد الحميد السينمائية التي تتحدث عن الحياة الاجتماعية في القرى الساحلية باللهجة المحلية في حين منعت أفلام مماثلة لأسامة محمد من العروض الجماهيرية بسبب احتوائها على نقد جوهري لطبيعة النظام السياسي المركبة (ولم يمانع النظام المنافق في اشتراك الأفلام الممنوعة في سورية في المهرجانات الدولية كي تحصد الجوائز ليظهر للغير بمظهر النظام المنفتح الديمقراطي!).
لماذا أوصى حافظ الأسد بدفنه في القرداحة بدلاً من دمشق بعد كل السنوات الثلاثين من حكمه وبعد كل ما عمله إعلامه الرسمي الذي أراد تكريسه كقائد قومي فذ لا يتكرر؟ لقد كان يعرف طوال الوقت ما عمل على تكريسه واستثماره في سياسته الداخلية، ولم تكن تساوره الأوهام أبداً في هذا الخصوص بل لا بد أنه أحس في كوابيسه بأن يوماً ما سيأتي مثل أيام الثورة الحالية التي لم ترحم صوره أو تماثيله أو روحه نفسها. كان يعرف أنه ديكتاتور مكروه لألف سبب غير أنه علوي، وعودته ميتاً إلى بلده لم يكن عودة إلى طائفته بقدر ما كان هروباً من أعدائه الكثر، ورغم ذلك كله جرى استثمار ضريحه سياسياً بشكل طائفي من قبل ورثته في لعبة لن تنتهي إلا بقيام نظام جديد مدني ديموقراطي.
تابع بشار الأسد لعبة الأب فقد ظهر ارتباكه في أوائل صلواته “السنية ظاهرياً” المصورة تلفزيونياً وسوّق له دينياً البوطي وأبناء عبد الستار السيد وحسون وحبش والقبيسيات.. وحتى آخر لحظة كان سيتزوج فتاة شيعية ولكنه حسم الأمر بزواجه من سنية هو وأخوه ماهر كذلك في زيجات سياسية واقتصادية واجتماعية محسوبة تماماً على طريقة العائلات المالكة.
منذ بداية المظاهرات بدرعا سارع النظام في إعلامه لبث دعاية عن وقوف دعاة الإمارات الإسلامية والسلفية الجهادية وراءها، كما كانت ومازالت الرواية المسربة الشفهية الموجهة من النظام لمناطق العلويين أن هذه الثورة مذهبية، وجرى تحشيد بعض العلويين في بعض المناطق ضد المتظاهرين بشكل اجتماعي دون بنى حزبية أو نقابية أو منظمات سياسية (كما حدث في الثمانينات) حتى يتم اختطاف بقية الطائفة نفسياً بحيث يشعرون بأنهم بعد سقوط النظام لن يبقى لهم مكان للإقامة في هذه القرى أو البلدات أو المدن، واستمرت اللعبة المزدوجة للنظام في الاستثمار الطائفي السياسي بأشكال مختلفة، وظهر بعض المعارضين الجدد والقدامى أيضاً ليعزفوا على نفس اللحن القديم المتجدد.
هلع بعض العلويين من الإسلاميين السنة
يعيش بعض العلويين عمرهم كله ويموتون دون أن يدخلوا مسجداً للسنة قط، وقد لا يدخلون أيضاً حتى لمساجد العلويين حيث الصلاة الظاهرية على طريقة الشيعة. الكثير منهم لا يعرفون حتى كيفية الصلاة الظاهرية والبعض غير مهتم بكل ديانته الباطنية. المسجد مكان غريب تماماً بالنسبة لهم ويحملون قلقاً تجاهه يشبه الخوف من المجهول.
في تاريخ العلويين وأساطيرهم لا توجد فترة “عزّ” أبداً، فكل سردياتهم تدور حول اضطهاد السنة التاريخي لهم (وهذه قصة مختلفة عن الشيعة تماماً كقوم بالمعنى المجتمعي)، ومشايخهم الكبار في السن والشباب أيضاً يحاججون بأن حجم القمع الذي تعرض له العلويون في تاريخهم لا يقارن بحجم القمع مع أي طائفة إسلامية أخرى ..قصصهم المتداولة مليئة بكل الفظاعات الممكن تخيلها. هم ضحايا أبديون وسلوكهم دائماً هو سلوك ضحايا سواء كسلوك دفاعي سلبي أو كسلوك هجومي إيجابي، ومن المعروف أن عنف الضحية الهجومي الإيجابي الموجه ضد ضحيته نفسها أقسى من عنف من لم يشعر بشعور الضحية. المهاجم (الضحية) في هذا السياق خائف أكثر من ضحيته نفسها.
الكثير من العلويين لا يميزون الفرق بين الإسلاميين السلفيين والصوفيين والتكفيريين والجهاديين، كما لا يعرفون أحزاب الإسلاميين المختلفة مثل الإخوان المسلمين وحزب التحرير والتيار الإسلامي الديموقراطي وجماعة اللاعنف وغيرها. لم يقرؤوا لهم ولا يعرفون تاريخهم ولا يميزون رموزهم.. هم لا يعرفون الفرق بين علي الطنطاوي وحسن حبنكة وكريم راجح وعبد الكريم الرفاعي والبوطي وسعيد حبش وجودت سعيد وعدنان سعد الدين وعصام العطار وسعيد حوى وغيرهم.. ولا يفرقون بين قطب والمودودي والبنا والبيانوني… ولا يعرفون الفرق بين التجربة الإسلامية في السعودية والسودان وباكستان وإيران وطالبان في أفغانستان وتنظيم القاعدة.
لا يعرف هؤلاء ماذا حدث بالضبط في حماه عام 1964 وفي أزمة الدستور بعد الحركة التصحيحية وفي مجرزة حماه عام 1982… تمثل أحداث الثمانينات (حين كان إعلام النظام الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع الوحيد المتاح لهم بكل معنى الكلمة) تمثل تلك الأحداث سردية مطابقة تماماً لما أراد إعلام النظام نشرها. لا يعرفون الفرق بين الإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة.. بالنسبة لهم هم إسلاميون سنة متطرفون تكفيريون حملوا السلاح جميعهم وقاموا بكل أعمال الاغتيال والتفجيرات كما نقلها لهم إعلام النظام وقتها.
لم يقم النظام بأية مراجعة لأحداث الثمانينات (كما فعل الإخوان المسلمون) لذلك كان سهلاً عليه استخدام كل الإرث الثقيل لأحداث الثمانينات حين بدأت الثورة السورية في دعايته النفسية ضد الثوار، خصوصاً مع توريث الجمهورية ضمن العائلة المالكة نفسها مما أدى إلى توريث الدم نفسه (ابن القاتل قد يكون قاتلاً الآن وكذلك ابن المقتول قد يكون مقتولاً الآن.. ينطبق ذلك على الطرفين أحياناً)…
لا يمتلك هؤلاء تأريخاً يومياً أو شهرياً لتطورات نشاط الإسلاميين في الثورة السورية خلال الشهور الطويلة الماضية، فقد صورها النظام لهم منذ البداية كإمارات إسلامية وسلفية جهادية وعصابات مسلحة منذ أول إطلاق نار قام به أمن النظام تجاه أول مظاهرة تخرج من المسجد العمري في درعا. وقد استعاد النظام خلال الثورة بألعاب أمنية مختلفة كل الذاكرة المتخيلة عندهم لأحداث الثمانينات مستفيداً أيضاً من كل الحملة الإعلامية الغربية السابقة على الإسلام بما يدعى “الحرب على الإرهاب”، كما أيقظ فيهم كل الموروث الشعبي المتخيل القديم عنهم كضحايا.
لقد تبين في بداية الثورة وجود فوبيا حقيقية عند بعض العلويين من السنة كهوية، وفوبيا من المساجد ومن كل ما يخرج منها، وكان لافتاً انزعاج الكثيرين من ظاهرة التكبير حتى من بعض من يصفون أنفسهم كعلمانيين أو شيوعيين أو ليبراليين. وقد أظهر هؤلاء الأخيرين في سلوكهم في كثير من الأحيان وتجاه العلمانيين أو الشيوعيين أو الليبراليين السنة نقص حساسية واضح تجاه ما يحترمه هؤلاء أو ما يعتبرونه بديهياً من رموز أو إشارات أو تعبيرات أو تلميحات مختلفة لها علاقة بالإسلام أو بالتدين الشخصي أو بما يسمى بالإسلام الشعبي عموماً.
أظهر الكثير من العلويين فشلاً واضحاً في التعاطف الأخلاقي والإنساني مع ضحايا قمع النظام للثورة الشعبية، كما أظهر هؤلاء سهولة عجيبة في التماهي مع ضحايا قوات النظام من الأمن والشبيحة والجيش. بل أظهروا أيضاً قدرة على التماهي مع المعتدين على الشعب السوري مهما كانوا، وفشلوا بالتماهي مع الجرأة النادرة والشجاعة التي تحلى بها الشعب الثائر.
ولكن الأكثر إدهاشاً كان بعض العلويين من المثقفين الذين يصفون أنفسهم بالعلمانيين أو الليبراليين أو الشيوعيين ممن وقفوا ضد الثورة أو ظلوا منتقدين لها منذ اليوم الأول حتى الآن بحق وبدون حق ولكن بفشل واضح في التعاطف على الأقل مع الثورة وشهدائها ولا أقول الانخراط فيها.
يوجد في السايكولوجي ( علم السلوك ) تعريف لأنواع الذكاءات البشرية ومنها ما يسمى الذكاء الثقافي وهو يدل على قدرة ومهارة الإنسان الاجتماعية على التعامل مع الآخرين من مختلف الثقافات. وفي سورية الطوائف والقوميات المتعددة هي في النهاية ثقافات مختلفة.. فعندما تذهب في سورية الصغيرة من حماه إلى السلمية إلى وادي النصارى أو إلى عامودا أو إلى السويداء أو إلى الريف الساحلي… فكأنك تسافر إلى بلد أجنبي حيث تواجه جماعات بشرية مختلفة العادات والتقاليد والسلوك بشكل عام. الذكاء الثقافي هو مهارة مكتسبة لا يمكن تحصيلها من الكتب فقط بل لابد من تعايش يومي ولمدة طويلة كافية مع الجماعات المختلفة مع رغبة بالتعرف وفضول إنساني حتى تُكتسب هذه المهارة. النظام السوري خلال خمسين سنة لم يبن مجتمعاً مدنياً بل حافظ على المجتمعات الأهلية المختلفة كما هي، ولا يكفي هنا ببساطة أن يجتمع الناس المختلفون في ثقافاتهم في وطنهم نفسه في فترات معينة من حياتهم مثل الدراسة الجامعية والخدمة الإلزامية ومكان العمل أو في تجاورهم في المدن الكبرى وبعض البلدات والقرى حتى ينشأ مجتمع مدني ناضج، فهذه عملية معقدة للدولة دور أساسي فيها كما للمنظمات الوسيطة بين الدولة والمجتمع مثل النقابات والاتحادات والهيئات والجمعيات المختلفة والأحزاب السياسية في ظل نظام ديمقراطي ومدني طبعاً.
ألعاب المخابرات السورية الخطرة: الدعاية النفسية الموجهة إلى العلويين
العلويون غير الشيعة (العلويون والشيعة يكفرون بعضهم البعض) على عكس ما يظن الكثيرون وأرجو هنا نسيان كل ما له علاقة بالخيال الشعبي الشيعي والمزاج النفسي الشيعي، فللعلويين شأن آخر مختلف تماماً..
بداية التظاهرات في المدن الساحلية
لنتذكر أن المدن الساحلية تظاهرت مباشرة بعد درعا وفيها رفع لأول مرة شعار إسقاط النظام قبل أن يرفع في درعا وغيرها فكيف تصرفت المخابرات هنا؟
حجم الألعاب الأمنية التي مورست في المدن الساحلية هو الأكبر منذ تلك الأيام ومازال، ففي اللاذقية وجبلة مثلاً سرعان ما سرت الإشاعات الغريبة عن وجود سيارات غريبة فيها أناس من جنسيات مختلفة تطلق النار على الناس اعتباطاً (خاصة في القرى الساحلية) مع قنص اعتباطي على المارة من الأسطحة في اللاذقية والعجيب أنه لم تتكرر قصة السيارات السياحية هذه في مناطق أخرى (كيف تأكد الناس من الرواية المتداولة؟)، وخلال أيام دب الرعب حتى في قرى العلويين في أعلى جبال العلويين وأصبح السكان يقفلون منازلهم الريفية بالمفتاح وهو أمر مضحك للمراقب الخارجي في منطقة ليس فيها غرباء أبداً وكل ضيعة محاطة بعشرات الضيع المشابهة لها فمن أين سيأتي الخطر المتوهم؟ وفي مدينة اللاذقية أمّ شيخ علوي في مسجد للسنة وشيخ سني في مسجد للعلويين لدرء الفتنة! وهل سمعنا في كل التاريخ أن فتنة طائفية تحصل ويجري وأدها خلال أيام؟! كان واضحاً أن النظام يريد نشر هذا الجو النفسي وإدخال الناس في هذه المزاج.. وسرعان ما نزل الجيش “أسرع مكان نزل فيه الجيش خلال الثورة” وأقيمت الحواجز وظهرت كوميديا اللجان الشعبية.. في أحد الشوارع القصيرة في مدينة اللاذقية كان هناك ثلاثة حواجز للجان الشعبية بمسافة 2 كم فقط وكانت الدوريات الأمنية تشحن الشباب كل ساعة بمرورها عليهم وسؤالهم بإلحاح “شفتو سيارة سكودا سودا نمرتها.. مرقت من هون ديرو بالكن؟” وفي كل مرة تتغير مواصفات السيارة المشبوهة بحيث لا يمر وقت تسترخي فيه أعصاب الناس أبداً.. أكبر مبالغات استخدمها النظام حصلت في اللاذقية. ونتذكر كيف تصرف النظام في الرمل الفلسطيني الصغير الفقير فاستخدم حتى القطع البحرية الكبيرة في استعراض نفسي مذهل وبدل من أي يركز بعض إعلام الثورة على توضيح مغزى ذلك أخذ بغباء أو “ربما يظن البعض أنه دهاء” يدلل بهذه المظاهر على حجم القمع والهمجية في منطقة لا تحتاج أصلاً كل تلك القوات وكل تلك النيران التي كان معظمها موجه للسماء!( لابد لسكان اللاذقية من سماع صوت الرصاص والتفجيرات الصغيرة المتفرقة يومياً في كل الأيام وحتى الآن حسب ألاعيب المخابرات).
ضريح حافظ الأسد في القرداحة: ازدادت الحراسة ليل نهار من قبل الحرس الجمهوري منذ اليوم الأول لتظاهرات المدن الساحلية على الضريح وكانت مثار سخرية لاذعة يومية من شبيحة عائلة الأسد أنفسهم: فما هو الخطر العملي على هذا الضريح؟! ونتذكر خبر المناشير التي ظهرت أمام جامع والدة حافظ الأسد وسط القرداحة والداعية للتظاهر وصدور تحذير رسمي من وزارة الداخلية للتنبيه من خطورة التظاهر! وقد تناقلت الخبر الفضائيات بكل براءة “أو دهاء؟”.. المقصود كان وضع العلويين في حالة نفسية أن هجوماً وشيكاً ممكن الحدوث من جهة السنة في الغاب وحتى إدلب!! (والعجيب فيما بعد أن بعض المحرضين الطائفيين من السنة من داخل وخارج سورية يعدون “الأقلية السنية” “المحاصرة أمنياً واجتماعياً واقتصادياً في جبلة وبانياس مثلاً بنجدات من هذه المناطق ويدعوهم لعدم الخوف )..
طرطوس تعيش على وقع أحداث حمص: كان من الملفت دائماً هنا حرب الإشاعات اليومية التي تقودها المخابرات حول ما يحدث في حمص فعامة العلويين في طرطوس يتابعون أخبار حمص ساعة بساعة ليس كما يتابعها غيرهم عن طريق القنوات الفضائية والإذاعات والإنترنت فقط بل عبر أخبار يومية كل ساعة يتداولها الناس أول بأول ومصدرها الحركة النشيطة المعروفة (قبل الثورة وازدادت بعدها) للناس بين المحافظتين والإشاعات المتداولة.. وفي طرطوس يصدقون كل شيء!! من قصة البارجة الشهيرة في بحر بانياس وحتى ظهور سعد الحريري بنفسه متنكراً في بر بانياس إلى حديث وجهاء حي الخالدية الموجه لوزير الداخلية عندما التقى معهم من شهور بعيدة فقالوا له مطالبهم وهي “نريد خروج كل العلويين من كل حمص”!.. هذه الأخبار في طرطوس لا تسمعها من العوام فقط بل تسمعها من بعض الأطباء وأساتذة الجامعات أيضاً…
لماذا أمكن تمكنت المخابرات من استثارة الذعر ببساطة في الأيام الأولى للثورة عند عامة العلويين؟
ينحصر الخيال الشعبي العلوي في تاريخهم وأساطيرهم وسردياتهم حول الاضطهاد الذي عانى منه أجدادهم من قتل وتهجير واغتصاب (للمقارنة فقط الإسماعيليون يعتزون بالدولة الفاطمية التي دامت 200 سنة، والموحدون كانوا يوما ما أسياد جبل لبنان وكان الموارنة مرابعين عندهم..)، وهذا الخيال الشعبي الموروث هو الذي يعتمد عليه النظام في ألاعيبه الأمنية في مناطق الاحتقان الطائفي ولذلك يبدو على السطح أمر متناقض لا يفهم ببساطة: كيف يستطيع من يبدو الآن بوضوح وكأنه يلعب دور يزيد (النظام القمعي) وضحاياه المتظاهرون هم الحسين.. كيف يستطيع في نفس الوقت استثارة نفسية الضحية ببساطة في جماعات يريد ولاءها ويخاف من تمردها ويرغب بتحييدها على الأقل؟ (لقد حكم حافظ الأسد دمشق بطريقة معاوية لا بطريقة علي ومع ذلك جرى استثمار التطييف الديني مقلوباً بشكل سياسي في الثمانينات في مخيلة العوام عند العلويين والسنة من قبل النظام نفسه وبعض التيارات الدينية حسب الموروث الشعبي الديني). لقد أظهرت المشاهد المصورة المسربة أحياناً من النظام نفسه العنف المفرط في بعض الحوادث التي شاهدها الجميع من قبل الشبيحة أو العناصر الأمنية (والتي يريد إعلام النظام وبعض إعلام الثورة أن يجعلها صورة متطابقة مع العلوي دائماً) تجاه المتظاهر أو المعتقل (الذي نفترضه سنياً دائماً.. ويريدون منا أن نصدق أنه لم يخرج للتظاهر سوى لأنه سني).
سايكولوجية الدعاية الإعلامية للنظام ولبعض قوى المعارضة الموجهة للمشاعر الطائفية
عندما يوجه النظام ألاعيبه الأمنية والإعلامية في الدعاية الطائفية نحو طائفة واحدة فهو يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.. فالطوائف المختلفة “الأقليات”، وإن كانت علاقاتها مع بعضها البعض ليست جيدة حتى من ناحية الاعتراف الديني، تنظر بعين الريبة إلى أي دعاية من قبل المسلمين السنة تجاه أي واحدة منها على أنها تهديد لها أيضاً، ليس حباً بالطائفة المستهدفة بل خوفاً من الآخر. وهذا الأمر أحد أسباب اشتغال النظام على الطائفة العلوية بشكل أساسي بإظهار نفسه كنظام علوي يستهدف الثائرين بصفتهم سنة مما يستدعي الكراهية والحقد من السنة تجاه العلويين وبالتالي إثارة التوجس والخوف من الثائرين عند الطوائف الأخرى، ولا ينفع هنا عدم توجيه السنة كراهيتهم تجاه الطوائف غير العلوية أو طمأنتها بأنها غير مستهدفة.
العكس صحيح أيضاً فالخطاب السني الطائفي عند بعض من يدعي تمثيل الثائرين ممن يهاجمون النظام بصفته علوياً متحالفاً مع الشيعة يثير مخاوف الطوائف الأخرى والمسيحيين أيضاً ليس حباً بالنظام أو حباً بالعلويين بل خوفاً من القادم المتخيل كما تصوره وتضخمه دعاية النظام دون كلل أو ملل.
كيف وصلنا إلى المجازر؟
لا شك أن بعض الشبيحة العلويين ومع مرور الوقت تحولوا إلى قتلة محترفين “قاتل متسلسل” قادرين على ارتكاب الفظائع التي نسمع عنها ونرى نتائجها اليوم.. طبعاً لا “ينجح” الجميع بذلك بسبب طبيعة البشر نفسها، ولا بد أن النظام استخدم قتلة محترفين من منابت متعددة في المجازر المبكرة على الأقل بقصد الردع.. لا يمكن لأي شخص كان مهما بلغت درجة كراهيته وحقده وخوفه أن يقوم بعملية مثل ذبح أطفال صغار أو رجال أو نساء.. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على معظم الأصوات المنادية بالثأر والانتقام من السنة… جرت حوادث متفرقة في الثورة من اعتداءات ذات طابع طائفي من السنة تجاه بعض العلويين الشبيحة أو البريئين، ولكن لم تحدث بعد مجازر جماعية بهذا المعنى، وأظن أن النظام سيحول دون وقوعها بكل ما أوتي من قوة ودهاء لأن ذلك سيضعه في موقف الفاشل في حماية العلويين (وسائر “الأقليات” الأخرى التي يدعي حمايتها)، ونعلم كيف يمارس النظام بدهاء حتى الآن سلوكه التمييزي تجاه “الأقليات” في المعتقلات وحرصه على عدم ممارسة القتل فيهم.. وحتى تمييزهم في توفير متطلبات حياتهم اليومية في المناطق غير المنتفضة التي تضمهم، كما أن هذا النظام مازال يحاول بث الفتنة في بعض المناطق مثل السويداء ودرعا ومناطق الأكراد والعرب في الجزيرة وفي السلمية ومناطق البدو حولها وفي المناطق المسيحية في وادي النصارى ولكن هذه المرة بعيداً عن ثنائية سني – علوي، أما لماذا تحدث المجازر تحديداً في بعضالمناطق السنية التي تحيط بها قرى علوية فسأحاول مقاربته بسياق مختلف.
عندما تمردت مجتمعات مدنية على النظام بكافة أشكال التمرد المعروفة ومنها التمرد المسلح أيضاً كان بإمكان النظام مواجهتها بالاكتفاء بالرد العسكري الغاشم واحتلال مناطق هذه التمردات كما فعل مبكراً في الثورة في مناطق عدة، ولكن عندما طال عمر الثورة وانتشرت التمردات المدنية والعسكرية في كل مكان تقريباً وأصبح من الصعب السيطرة عليها مرة واحدة وبعملية عسكرية واحدة نشأت حالة مهددة للنظام، ففي ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية تشكل في المناطق المتمردة مدنياً والتي تضم مسلحين شيء يشبه سلطة منافسة للدولة التي يمثلها النظام، ونشأ ما يشبه تنظيم مدني للمساعدة في تلبية حاجات الناس اليومية وقد شارك المسلحون أنفسهم في هذه الخدمات أحياناً، ومع مرور الوقت فكر النظام بأن الوضع الجديد قد يصبح مألوفاً للجماعات السكانية المجاورة غير المنتفضة وغير المتجانسة اجتماعياً على صعيد الدين والطائفة والقومية والعشيرة الخ، وقد تعتمد هي نفسها على الخدمات الجديدة اضطراراً على الأقل..لم يكن أمام النظام من حل سوى مشاركة هذه المناطق المحيطة فعلياً بدرجات مختلفة أو بصورة رمزية بأعماله القتالية كأن يضع فيها أسلحته التي تقصف المناطق الثائرة أو يدخل منها شبيحته مع مشاركة شبيحة محليين من هذه المناطق المحيطة.. أكثر ما يهم النظام حالياً عدم قيام تفاهمات اجتماعية بأي شكل من الأشكال بين السكان بمعزل عنه وبشكل مستقل، ولذلك من الضروري للنظام زرع الشك بين هذه المجموعات السكانية بحيث لا تشعر بالثقة أبداً ببعضها البعض.. لم يعد يكفي النظام السيطرة العسكرية على المناطق الثائرة لأن ضحايا عملياته الحربية الذين بقوا أحياء سوف يلجؤون بالضرورة لجيرانهم لتأمين الحد الأدنى من متطلبات معاشهم.. هناك أماكن في سورية غير قريبة للحدود ولا يمكن اللجوء منها ببساطة إلى الدول المجاورة.. هذا هو الأساس المادي لضرورات المجازر ولسماح النظام بحدوثها دون ردع منه.. لا يهم النظام ضرب النسيج المجتمعي السوري، ومتى كان يهمه هذا الأمر عبر عشرات السنين من الحكم الأسدي؟ كل سلوك النظام الأسدي منذ عام 1970 في الجيش والدولة والمجتمع كان يدل على ما يمكن أن يفعله في ظروف ثورة شعبية مثلما يحدث الآن.. وقد سلك في الثمانينات في حماه وحلب وإدلب نفس المسلك أيام حافظ الأسد، وكذلك فعل بشار الأسد في هبّة السويداء عام 2000 وفي انتفاضة الكورد عام 2004.
الخلاصة
عمل النظام السوري منذ بداية حكم الأسد الأب على تحويل العلويين من جماعة أهلية إلى طائفة سياسية. ربط الأسد الأب هذه الطائفة بعائلته تحديداً بطرق مختلفة وتبادل فيها بعض رموز هذه العائلة الأدوار دائماً. لم تسمح هذه العائلة المالكة والحاكمة بنشوء أي تمثيل مذهبي للطائفة العلوية أو بظهور أي مرجعية دينية للطائفة من أي شكل كان، وقد شجعت هذه العائلة التقسيمات العشائرية ضمن الطائفة بأشكال مختلفة وبحيث تكون عائلة الأسد الأب هي مركز الولاء دائماً. لقد أبرز ورعى هذا النظام عبر كبار ضباط الجيش والأمن العلويين طبقة من “الإقطاع العسكري” في مناطق العلويين لها نفوذها المناطقي والعشائري. بنى رموز هذا النظام شبكة مصاهرات معقدة بين بعضها البعض ومع الكثير من عائلات رجال الأعمال من فئات اجتماعية متنوعة عدا عن شراكات أعمال الفساد المنظم عبر سنين طويلة. شجع نظام الأسد العلويين على التطوع في الجيش والأمن بعشرات الألوف مثلما شجع هجرتهم من الريف للمدينة عبر بحثهم عن وظائف مدنية في الدولة، ولم يهتم أبداً بالاستثمار في مناطق تواجدهم كي يبقوا فيها. عمل نظام الأسد على اختطاف الطائفة العلوية بالمعنى السايكولوجي الاجتماعي في أحداث الثمانينات مثلما يفعل الآن، ولكن في الثمانينات جرى تمويه عملية الاختطاف تحت ستار الأيدلوجية والسياسة أما الآن فتجري هذه العملية لأول مرة بشكل اجتماعي مكشوف تحت ستار الخوف من الحرب الأهلية أو الطائفية. لقد استثمر نظام الأسد دماء العلويين التي هدرت في الدفاع عنه بشكل جيد وساعده في ذلك ما حصل من عدم القطع مع ما حدث في الثمانينات، وتوريث الجمهورية الذي حدث وما رافقه من توريث الكثير من عناصر النظام العلوية من الصغار والكبار (الكثير من رموز النظام العلويين من الجيل البعثي الثالث حسب تسمية ياسين الحاج صالح هم أبناء رموز النظام العلويين من الجيل البعثي الثاني).
من الصعب على الثائرين فهم هذه العملية التاريخية التي تتطلب وعياً في علوم الاجتماع والسياسة وغيرها، ومن الطبيعي أن تظهر تصورات حول وجود مؤامرة علوية للاستيلاء على الحكم والاحتقاظ به، وحول وجود حرب علوية على السنة الآن. ومن الصعب أيضاً على نشطاء العلويين في المعارضة والثورة (وعلى النشطاء الآخرين من طوائف أخرى) السلوك كأفراد أو مجموعات بشكل سياسي أو مواطني أو أهلي أو مدني في هذه الظروف خصوصاً مع المحاولات الجارية من بعض القوى السورية والعربية الخليجية على قدم وساق لاختراع طائفة سنية سياسية في سورية والتعبئة في الثورة على أساس أنها ثورة مذهبية عدوها الأول هو الطائفة العلوية. إن غياب الحراك الثوري في مناطق العلويين وغلبة الانتصار للنظام فيها مع وجود مظاهر التشبيح فيها بكل أشكاله اللفظية والنفسية والفعلية والعنيفة في كثير من الأحيان، وصعوبة أن يدعي أحد أي تمثيل اجتماعي أو سياسي في هذه المناطق بشكل مستقل عن النظام، وتجييش النظام للناس طائفياً في هذه المناطق والتجييش الطائفي ضدهم من الجانب المقابل أحياناً..كل ذلك يجعل مسألة فض الاشتباك بين الثورة على النظام برمزه الأسدي عن رمزه الطائفي العلوي مسألة صعبة.. خصوصاً في فترات الاحتقان الطائفي والمجازر والدم المسفوح من الجانبين. نعم ربما يوجد في الطائفة العلوية الآن أكبر عدد من الشبيحة المجرمين من كل لون مدني أوعسكري، ولكن هذا لا يعني الاستنتاج أن العلويين كجماعة أهلية هم المسؤولون عن كل ما يمارسه هؤلاء.. العلويون بهذا المعنى ضحايا أيضاً ويحتاجون من يخلصهم من هذا الشرك التاريخي الذي وقعوا فيه.