1

تأسس أول تنظيم كردي خاص في سورية عام 1957، وقت كانت الحمى القومية العربية تبلغ واحدة من أعلى ذراها. قبل ذلك وبعده بربع قرن على الأقل ظلت البيئة الكردية في سورية تنشط سياسيا عبر تنظيمات غير كردية، في الحزب الشيوعي السوري تحديدا، وتنجذب وجدانيا إلى كرد العراق وتحولاتهم.

وفي النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين، وقعت ثلاثة أشياء كان لها أثر بالغ على تسييس الوسط الكردي السوري وتوجهاته العامة. أولها مذبحة حلبجة التي سقط فيها نحو 5000 كردي في يوم واحد قبيل انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، وقبلها ومعها حملة الأنفال التي شنها نظام صدام حسين ضد أكراد العراق وسقط خلالها عشرات الألوف من الكرد. وثانيها تصاعد المقاومة الكردية المسلحة في تركيا بقيادة حزب العمال الكردستاني الذي كان زعيمه عبدالله أوجلان مقيما في دمشق حينها، وكانت تقدر نسبة المقاتلين الكرد السوريين في صفوفها بالثلث من إجمالي المقاتلين. وثالثها تهاوي الشيوعية، دعوة ومعسكراً، وكانت الإطار الفكري السياسي الوحيد الذي جمع عربا وكردا في سورية.

كان من حصائل هذه العمليات الثلاث أن رفعت بحدة من مستوى الوعي الذاتي الكردي، ومن درجة تسييسه، ومن استقلاله الذاتي في تمثيل نفسه سياسيا.

لكن خلال تلك الفترة كانت تعمل ديناميتان أخريان. أولا تكاثر وتخاصم الأحزاب الكردية بجهد دائب من النظام. إثر الانتفاضة الكردية في عام 2004، ينسب إلى محمد منصورة، رئيس جهاز الأمن السياسي في محافظة الحسكة في سنوات سابقة، لومه محافظ المدينة سليم كبول على أنه وحّد الكرد بعدما كان هو فرّقهم بين أحزاب كثيرة متخاصمة. والثانية أثر العلاقات الطيبة بين النظام وبين القيادات الكردية العراقية وخصومة النظام السوري الأسدي العنيفة مع نظام صدام حسين، فضلا عن دعمه لحزب العمال الكردستاني في تركيا، وتسهيل أموره نسبيا في سورية.

لكن في عام 1998 اضطر النظام إلى طرد عبدالله أوجلان تحت الضغط التركي، ما عنى عمليا تسليمه إلى الاعتقال. وفي الفترة ما بين 1998 – 2011 تعرض كثير من ناشطي الحزب من السوريين إلى الاعتقال والمحاكمة بأحكام قاسية أمام محكمة أمن الدولة، أو التسليم إلى السلطات التركية بموجب أحكام اتفاق أضنة 1998.

لكن حتى في أيام أوجلان كان الحزب مثار انقسام، على كل حال، في الساحة الكردية السورية، وكان كثير من الناشطين الكرد على خصام شديد معه لأسباب من بينها أنه ألغى الساحة الكردية السورية وقصر وجود الكرد ومطالبهم القومية على تركيا والعراق وإيران.

كانت النتيجة الإجمالية لهذه العمليات مزيج من التمثيل السياسي الذاتي كما سبق القول، ومن الضعف الجامع. هذا الواقع انتهى بالتدريج بين 1998 و2004.

وفي عامي 2002 و 2003، تطورت مواقف متباينة جدا بين الناشطين العرب والكرد من “غزو” العراق في نظر العرب و”تحريره” في نظر الكرد. ثم بعد نحو عام تفجرت احتجاجات كردية في القامشلي، يسميها الكرد انتفاضة، انتشرت بسرعة إلى كل مناطق التواجد الكردي في سورية، وسقط خلالها نحو 30 شهيدا. وكانت هذه أول مرة في تاريخ الكيان السوري يقع فيها عنف وضحايا من الكرد في احتجاج جماعي. قبل ذلك وعلى الدوام كان يعتقل ناشطون ويتعرض أكثرهم للتعذيب، لكن لم يحصل تمرد كردي، ولم يحمل كرد سوريون السلاح أبدا، ولم يواجهوا بعنف مسلح من جهة السلطات. وهذا خلافا لما هو الحال في أقاليم كردستان العراقية والتركية والإيرانية.

ولعله في هذه الفترة دخل تعبير “كردستان الغربية” التداول لأول مرة، لتسمية مناطق التواجد الكردي في سورية (ويفترض أن كردستان الجنوبية هي في العراق والشمالية في تركيا والشرقية في إيران). ويعادل تعبير كردستان تعبير “الوطن العربي”، ويضمر الحمولة ذاتها من تطلع إلى التوحيد، وتجاوز التقسيم المفترض. ويثير لذلك شعورا يتراوح بين عدم الارتياح وبين الرفض الصريح في أوساط الطيف السوري الناشط الذي يعرض اليوم نزعة وطنية سورية أقوى من أي وقت سبق، وليس نزعة قومية عربية. والمفارقة اللافتة أن التنظيم الذي يتكلم على “كردستان الغربية” أكثر من غيره اليوم، حزب العمال الكردستاني ذاته، هو في آن عضو في “هيئة التنسيق الوطنية” التي تضم قوميين عربا و”يسارا” ممانعا، وهو الأقرب إلى النظام أيضا، ويبدو أن لديه رخصة منه بقمع الناشطين الكرد المعارضين المشاركين في الثورة وبإقامة حواجز في المناطق الكردية. ويتواتر أن يطلق ناشطون كرد تعبير الشبيحة الكرد على أعضاء هذا الحزب. المفارقة الأهم أن هذا الحزب الذي “انتخب” ما يسميه “مجلس شعب غربي كردستان” هو نفسه من أسقط المناطق الكردية في سوريا من خريطة كردستان الكلية، معتبراً كرد سوريا مهاجرين من كردستان تركيا، مرةً على لسان عبد الله أوجلان حين كان مقيماً في دمشق، وثانية على لسان صالح مسلم رئيس الفرع السوري للحزب (PYD) وعضو قيادة هيئة التنسيق الوطنية، في تصريحات له هذا العام.

2

شارك كرد في الثورة السورية منذ البداية. رفعوا لافتات وهتفوا بالكردية والعربية، وشكلت بلدة عامودا في الحسكة أقرب شيء إلى معادل كردي لبلدة “كفرنبل المحتلة” من حيث خفة الدم والتعليقات الساخرة والمأساوية في آن.

وعلى نحو ما كانت الثورة مناسبة لإعادة تشكل واسعة في المعارضة التقليدية السورية، فقد شكلت أيضا مناسبة لإعادة تشكل المجتمع السياسي الكردي السوري، وللعلاقة بينه وبين المعارضة العربية التقليدية. منذ مطلع تسعينات القرن العشرين لم يكن قد بقي تنظيمات مشتركة عربية كردية تقريبا، لكن هذا التحول اقترن بعلاقات أكثر من ذي قبل بين التنظيمات والائتلافات السياسة هنا وهناك، وبقدر أكبر من التفاعلات، وبعلاقات طيبة على المستويين السياسي والإنساني. ولأول مرة في تاريخ سورية المعاصر، صارت مفهومة حساسيات الكرد ومطالبهم في بعض أوساط المعارضة العربية. ومنذ مطلع هذا القرن، ولأول مرة أيضا، سجلت القضية الكردية حضورا مستمرا كبند ثابت من بنود تفكير وعمل المعارضين السوريين.

وبتأثير جملة هذه التحولات والتفاعلات، تشكل ضرب من إجماع غير مستقر على مبدئين: الحقوق الكردية الثقافية والسياسية التي قد يعبر عنها أحيانا بمبدأ حق تقرير المصير، ووحدة سورية أرضا وشعبا. وكان تجنب توضيح الأمر والخوض في تفاصيله هو ما يبقي هذا الإجماع قائما، لكن على قلق.

الزلزل الذي مثلته الثورة فكك هذا الإجماع الهش. المجلس الوطني الكردي الذي تشكل إثر المؤتمر الوطني الكردي الذي وجهت الدعوة إلى انعقاده في شهر آب 2011، لكنه لم ينعقد إلا في أواخر تشرين الأول، كان أبرز وجوه التشكل الجديد للمجتمع السياسي الكردي السوري. المجلس انسحب من اجتماع اسطنبول للمعارضة السورية المنعقد في الأسبوع الأخير من آذار 2012، وقيل إن رفض مناقشة ورقة قدّمها المجلس الوطني الكردي حول حقوق الشعب الكردي في سوريا كان السبب المباشر لهذا الانسحاب. وكان الناشطون الكرد انسحبوا للمرة الأولى من اجتماع معارض في اسطنبول في آب 2011 أطلق عليه “مؤتمر الإنقاذ الوطني”، كان دعا إليه كل من هيثم المالح والشهيد مشعل تمو، والسبب هو اسم الجمهورية العربية السورية الذي يبدو أنه كان جرى الاتفاق على عدم التعامل به في ذلك المؤتمر، لكن يبدو أن الإخوان المسلمين المشاركين فيه أصروا على كتابته في صدر قاعة الاجتماع. وتكرر الأمر في اجتماع القاهرة في الأسبوع الأول من تموز، وقيل إن السبب هذه المرة هو اعتراض بعض المشاركين العرب على تعبير الشعب في وصف الكرد، وعلى مطلب اللامركزية السياسية الذي قدمه المجلس الوطني الكردي.

وبعد كل واحد من هذه الاجتماعات ارتفعت حرارة التعبير عن المواقف، وقيل كلام متوتر كان يستحسن ألا يقال.

لكن وراء هذه الانسحابات المتكررة التي صارت موضع تندر بين الناشطين الكرد أنفسهم مزيج من الحساسية الشديدة ومن تقدير مبالغ فيه على الأرجح لاحتمالات التغير الجيوسياسي التي قد تترتب على الثورة السورية. هناك على الأقل شعور كردي منتشر بأن الثورة وما قد تتمخض عنه من سورية جديدة فرصة لمطالب وتصورات ينبغي ألا تهدر.

تقابله خشية من الجانب العربي من مضاعفات ذلك على كيان البلد ومستقبله.

وهذا وضع مولد لأزمة ثقة متبادلة. يخشى الكرد من أن المعارضين العرب يريدون منهم الدعم اليوم إلى حين إسقاط النظام، ثم يستأنفون حيال الكرد سياسة النظام ذاتها أو نسخة منها محورة تحويرا طفيفا. ويخشى المعارضون العرب أن مطالب الكرد الخاصة بالاعتراف الدستوري بالقومية الكردية وباللامركزية السياسية، وتعابير مثل “الشعب الكردي” و”كردستان الغربية”، تضمر تطلعا “انفصاليا” لا يستطيعون تحمل جريرته التاريخية.

يصدر الكرد عن مظلومية تاريخية يميل كثيرون منهم إلى تحميل “العرب” المسؤولية عنها حتى حين يكون هؤلاء العرب معارضون. وتعبير مثل “عقلية عفلقية” يبدو سيفا مسلطا على أي ناشط عربي لا يجاري الناشطين الكرد في كل مطالبهم. وهو ما يشكل إهانة لمن كانوا على الدوام معارضين للنظام البعثي ومن يحترمون الكرد ولا ينكرون حقوقهم. المظلومية الكردية حقيقة وكبيرة ولايحوز أي ناشط أو سياسي كردي شرعية من دون بناء سياسته عليها. لكن أن يعتبر العربي مضطهدا أو قاهرا لمجرد كونه عربياً فهذا غير عادل، وغير مثمر سياسيا.

هذا فضلا عن اعتبارات مهمة من نوع أن العرب المشاركين في أية مؤتمرات تعقد اليوم للمعارضة لا يملكون من الشرعية ما يبيح لهم القبول بمطالب كردية من نوع اللامركزية السياسية أو الإقرار الدستوري بحقوق قومية للشعب الكردي، على غموض التعبيرين. ليس الأمر أنهم يعترفون أو لا يعترفون بالحقوق الكردية، أو أنهم مصابون بـ”العقلية العفلقية” على ما يقول ناشطون كرد، بل إنه لا يحق لهم التصرف، لا يملكون التفويض للإقرار بما يزيد على مبدأ المساواة والاحترام المتساوي.

ووراء هذه التعارضات مسارات تاريخية مختلفة ومتقاطعة بين القطاعات الناشطة في البيئتين العربية والكردية. أكثرية الناشطين والمثقفين السوريين اليوم لا يعرفون ذاتهم بدلالة القومية العربية، بل بدلالة وطنية سورية غير واضحة المعالم وقلما جرى الشغل عليها. بالمقابل، يسجل الحس القومي أعلى ذراه عند أكثرية الناشطين والمثقفين الكرد. هذا تعميم، يغفل حالات كثيرة غير مطابقة. هناك معارضون عرب قوميون ومتشددون في قوميتهم، وهناك كرد ليسوا قوميين كردستانيين، بل وطنيون سوريون. لكن كميل عام يبدو أنه بينما يذهب الكرد إلى القومية، يعود منها العرب. وتبدو سورية مساحة تقاطع عارضة بين هذين المسارين.

ويبدو أيضا أن هذا أحد منابع التوترات المتكررة وعدم ثقة بين الطرفين. العرب يزدادون سورية، لكن لغاتهم في التعبير عن سوريتهم ليست واضحة دوما، أو أنها تقول أشياء متعارضة، فكيف يمكن أن يُجمِع الكرد على الهوية السورية بينما لم يجمع عليها العرب، وهم من يشكلون أكثرية في الكيان السوري؟ وإذا كانت سورية جزءا من الوطن العربي على ما تقول إحدى وثائق اجتماع القاهرة الأخير، فلماذا لا تكون المناطق الكردية جزءا من الوطن الكردي، كردستان؟

لكن، بالمقابل، هل يمتنع التوافق على الوطنية السورية إلا بتخليين متقابلين: عربي عن الرابطة العربية، وكردي عن الرابطة الكردستانية التي هي مشروع وحلم أيضا؟

لا ينبغي أن يكون الأمر كذلك. فوق أنه ممتنع، وأن من غير الممكن أن يدير الكردي السوري ظهره لكرد العراق وتركيا وإيران ولا يعمل على تنمية روابطه معهم، ومن غير الممكن وغير المعقول أن يدير العربي السوري ظهره لعالم عربي تجمعه به روابط متنوعة، فوق ذلك فإن هذا لا ينبغي أن يكون مرغوبا، وليس تقدميا بحال.

ربما هناك عرب لا يريدون ارتباطا بالعالم العربي. لكن لا يمكن بناء إجماع بين السوريين العرب على هذا التفضيل. وقد يكون هناك كرد لا ينشدون إلى كردستان، لكن يستحيل أن يتشكل إجماع كردي على ذلك.

وسنناقش في الفقرة الختامية ما نراه خيارا ديمقراطيا منفتحا على الازدواج الثقافي.

هناك بالطبع خيار الانفصال الكردي. وليس هناك أرضية أخلاقية متسقة للاعتراض على مبدئه، وإن كان الدخول في التفاصيل يفتح الباب لشياطين كثيرة. وعلى كل حال لا يبدو أن العائق الأكبر أمام هذا هو الاعتراض المؤكد لأكثرية السوريين، وإنما هو مفعول النظامين الإقليمي والدولي، بالنظر إلى أن الأمر سيقتضي إعادة تشكل واسعة للإقليم ككل. وهو ما يثير تساؤلا عما إذا كان ممكنا معالجة المسألة الكردية في بلد واحد من البلدان الأربعة التي يتوزع عليها الكرد.

لكن هذا الترابط ذاته يعني أن الانفصال الكردي ممكن في حالة وقوع تغيرات كبرى في النظامين الإقليمي والدولي، حرب كبرى مثلا، على شاكلة الحرب العالمية الأولى التي أتت على حياة السلطنة العثمانية واصطنعت الدول الإقليمية الحديثة، أو مثل الحرب العالمية الثانية التي تمخضت عن استقلال بلداننا، وعن نشوء الكيان الإسرائيلي. وقد ينفتح باب أو أكثر للسير نحوه عند وقوع تغير إقليمي مهم مثل الغزو الأميركي للعراق الذي تمخض عن أول كيان فيدرالي كردي في شمال العراق، أو حتى ثورة شعبية كبيرة كتلك المندلعة في سوريا اليوم، ومن المحتمل أن تزعزع الستاتيكو القائم في الإقليم زعزعة كبيرة (وسننظر في الأمر بقدر من التفصيل بعد قليل).

ولا يمكن لأحد أن يقطع باستبعاد هذا الاحتمال، وإن لم يكن ملحوظا اليوم. ولا وجه للاعتراض عليه على مستوى المبدأ، كما قلنا. فإذا كان هناك دول للعرب والترك والفرس، فلم لا تكون ثمة دولة أو دول للكرد؟

يبقى خيار قيام إطار سياسي مشترك للجميع: مجال مشرقي مفتوح، أو كومنويلث مشرقي يجمع بين سورية والعراق وتركيا وإيران، ويكون الكرد الحلقة الوسيطة فيها. لكن هذا البديل أكثر عقلانية من أوضاعنا الراهنة. وليس هناك ديناميات ظاهرة اليوم تدفع باتجاهه.

3

شكلت الثورة السورية، بالنسبة لكرد سوريا، مناسبةً لإعادة التفكير في العلاقة بين الوطنية السورية والنزعة القومية الكردستانية. وهناك اليوم ميل متعاظم عند الحركة السياسية الكردية لاستثمار لحظة الثورة إلى الحد الأقصى لتحقيق مطالب كردية خاصة على حساب الوطنية السورية. إنه لمن اللافت أن تلك المطالب التي طالما اقتصرت عموماً على الحقوق الثقافية والاعتراف الدستوري بوجود الشعب الكردي (إضافة إلى رفع المظالم، وأبرزها استعادة الجنسية)، ارتفع سقفها مع تصاعد الثورة إلى ما يقترب من الفيدرالية من غير أن تسمى كذلك. ففي الوقت الذي طالب فيه المجلس الوطني الكردي بـ”اللامركزية السياسية” نظاماً لسوريا المستقبل، يطالب الكثير من الناشطين الكرد المستقلين صراحةً بكيان فيدرالي ضمن إطار وحدة البلاد.

بالنسبة للحركة السياسية الكردية التي اجتمع معظمها في إطار المجلس الوطني الكردي، هناك قراءة للبعدين الإقليمي والدولي لمفاعيل الثورة السورية، لا تستبعد إعادة رسم الخرائط في المنطقة. فالنظام الذي اختار المواجهة العنيفة لانتفاضة الشعب السلمية في بدايتها، يبدو من هذا المنظار أنه لن يغادر الحكم قبل تدمير الكيان السوري وزلزلة المنطقة المحيطة به من لبنان إلى تركيا والعراق.

لكن أليست هذه قراءة مندفعة أو تقديرا مبالغا فيه للتغيرات الجيوسياسية التي قد تترتب على  الثورة السورية، بينما توحي سابقة الاحتلال الأميركي العراق بالذات (وقبله الحرب اللبنانية المديدة)، بصلابة كيانات الدول؟ هذا فضلا عن الفرق الكبير في عملية التغيير. لدينا في سورية ثورة شعبية ضد نظام طغيان يبدو محتوما أنها ستنجح في إسقاطه، وإن بثمن باهظ، ومتن هذه الثورة مكون من عرب، فيما أسقط نظام صدام الأميركيون، الذين كانوا رعوا طوال 12 عاما كيانا شبه مستقل في كردستان العراق. هذا فوق أن نسبة الكرد من السكان في العراق تفوق ضعفي نسبتهم في سورية، والمناطق الكردية منحازة مكانيا هناك فيما تقل المناطق الكردية الصافية في سورية. وفوق ذلك سوابق التاريخ التي ليس فيها صراع عربي كردي مسلح. هذا يزكي تقديرات أكثر حذرا بخصوص حصائل الثورة السورية على مستوى “إعادة رسم الخرائط”.

ما يهم وما نتناوله هنا هو، على كل حال، هو التصورات والتقديرات. وما توحيه التصورات والتقديرات هو أنه كلما طال أمد الثورة وتأخر سقوط النظام، زادت احتمالات اتجاه الصراع نحو نوع من البلقنة الإقليمية، وارتفعت معها رهانات ومخاوف الفاعلين المحليين أو الإقليميين على ذلك ومنه. فقد اشتغل النظام أكثر ما اشتغل على مسارين: العلويون الذين سعى بقوة إلى ربط مصيرهم بمصيره، والكرد الذين دفع بهم نحو الحياد السلبي (أنا كردي مالي علاقة!)، وينسحب التكتيك الأخير على مسيحيي سوريا أيضاً. كان التطبيق العملي لخطة تحييد الكرد ودفعهم نحو الانفصال النفسي عن مناخ الثورة الوطنية، هو بتسليم زمام الأمور في المناطق ذات الغالبية الكردية إلى الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، مقابل التسريب المتعمد لمقاطع فيديو تصور شبيحة علويين يقومون باضطهاد أسرى ثورة الحرية، وتشجيع شبان علويين على ارتكاب مجازر فظيعة بحق سكان سنة فيهم أطفال ونساء، أو الإساءة إلى أماكن العبادة الخاصة بالمسلمين السنة.

ثم أن مصلحة النظام في تحييد الكرد عن الثورة تقاطعت مع الأزمة الوجودية التي يعيشها حزب العمال الكردستاني في السنوات القليلة الماضية، ومع رغبة الحركة السياسية الكردية التقليدية في استعادة زمام المبادرة التي فقدتها إبان انتفاضة 2004.

بالنسبة لحزب العمال الكردستاني ضاقت مساحات المناورة أمامه كثيراً منذ طرد زعيمه عبد الله أوجلان من سوريا، خريف العام 1998، ثم إلقاء القبض عليه بعد أشهر. فهذا التنظيم الستاليني المسلح، والقائم على عبادة الفرد الزعيم إلى حد بعيد، دخل منذ ذلك الحين في مسار انحداري بالمعاني كافة، فحدثت فيه انقسامات وانقطعت موارده اللوجستية والبشرية إلى حد مقلق، بعدما حرَّمَ عليه النظام السوري النشاط في سورية وانطلاقاً منها.

من ناحية أخرى شكل صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي في الفترة نفسها سبباً إضافياً لإضعاف الحزب الكردستاني في تركيا وتضييق مساحة الحركة أمامه. فإذا كانت الحكومات التركية السابقة، سواء من اليسار الأتاتوركي أو اليمين، قد واجهت المطالب الكردية والتمرد الكردي بالقمع الشديد المعمم الذي كانت نتيجته التفاف معظم الكرد حول الحزب الكردستاني، فقد ظهر ضوء الحل السلمي للمشكلة الكردية في نهاية النفق للمرة الأولى في عهد العدالة والتنمية. وإذا كانت حكومات أردوغان المتعاقبة لم تقدم إلى اليوم حلاً مقبولاً للمشكلة الكردية، فقد نجحت بالمقابل في استمالة نصف الكرد تقريباً، وهم يصوتون في الانتخابات لصالح الحزب الحاكم الذي يشكل المنافس الوحيد لحزب أوجلان على الناخب الكردي. هذا ما يفسر ابتعاد هذا الحزب الأخير عن مخاصمة القوى السياسية التركية الأكثر شوفينية، وكذا “الدولة العميقة” (الجيش) وتركيز هجومه على أردوغان والتيار الإسلامي عموماً.

سوف نجد حصائل هذه الخصومة المستجدة في كل من تركيا وسورية الثورة في صيغة “الإدارة الذاتية” التي طرحها أوجلان كأفق سياسي للحل في تركيا، ونسخة مطابقة لها في “كردستان الغربية” أي المناطق ذات الأكثرية الكردية في سوريا، بعد 15 آذار 2011. وتنطوي فكرة الإدارة الذاتية على تكتيك سياسي ينطلق من مصالح حزبية ضيقة أكثر من كونها صيغة قارة لحل المشكلة الكردية. ففي تركيا التي انقسم كردها بين مناصرة حزب العمال الكردستاني وحزب العدالة والتنمية الحاكم وتظهر فيها باطراد تيارات فكرية – سياسية أكثر مدنية وأكثر ميلاً للسلم، أصبح شعار “الإدارة الذاتية” يعني حكم حزب أوجلان للمناطق الكردية في صيغة دكتاتورية الحزب الواحد الستالينية. ويكشف التناقض الحاد بين الفرع السوري للحزب والمجلس الوطني الكردي، عن تنافس مماثل على السلطة في المناطق الكردية.

وعلى المستوى الإقليمي، ترتسم اليوم خطوط انقسام كردي كردي بين زعامتي مسعود البارزاني وعبد الله أوجلان. وفي حين تموضعت “الجبهة البارزانية” في التحالف الإقليمي المعادي للنظام السوري (ويضم السعودية وقطر وتركيا، وقوى 14 آذار في لبنان) تموضعت “الجبهة الأوجلانية” في التحالف الإقليمي المضاد الذي يضم، إلى النظام السوري المتهاوي، كلاً من إيران والقوى الشيعية العراقية وحزب الله اللبناني وحزب العمال الكردستاني.

وفي داخل تركيا نفسها نلاحظ أن المعارضة التركية اليسارية والقومية تشغل، في موقفها من الثورة السورية، موقعا أقرب إلى النظام السوري. ويدعو حزب أوجلان إلى “وحدة قوى اليسار في تركيا” بمناسبة الثورة السورية.

في الأمر ما يريب بأن وراء هذه المواقف اصطفافات وقرابات مذهبية. يشكل العلويون قسما مهما من القاعدة الاجتماعية لليسار التركي، وتضم قيادة حزب العمال الكردستاني عدداً مهماً من العلويين، إضافة إلى أن العلوية هي مذهب ما يقارب نصف كرد تركيا. قد لا يكون هذا وحده عاملا مفسرا، لكن سيكون من قبيل حالة الإنكار نفي تأثيره.

4

الخلاصة هي أن النظام السوري حاول تفعيل زلزال التقسيم عبر الإقليم إلى حد بعيد، سواء فيما يتعلق بالشيعة والعلويين، أو فيما يتعلق بالكرد، وبدرجة أقل المسيحيين في سوريا ولبنان (والعراق الذي تم تهجير معظم مسيحييه قبل اندلاع الثورة السورية بسنوات). وقد يكون في هذا ما من شأنه – كلما تأخر سقوط النظام – أن يطرح على القوى العظمى سيناريو إعادة رسم خرائط “الشرق الأوسط” حلاً لـ”مشكلة الأقليات الدينية والقومية المهددة” بسقوط النظام السوري. أو ما يحفز مجموعات سياسية دينية وإثنية متنوعة على التفكير في هذا الاتجاه. مواقف البطريرك الراعي وميشيل عون دالة جداً في هذا السياق، ولا تقل عنها أهمية نبرة المظلومية الكردية في محافل المعارضة السورية في الخارج. قبل اعتراف بريطانيا بالمجلس الوطني السوري، استقبلت وزارة الخارجية البريطانية وفداً من المجلس الوطني الكردي السوري بقيادة رئيسه حكيم بشار. كما استقبلت وزارة الخارجية الأميركية وفداً مماثلاً و”تفهمت” المطالب الكردية في اللامركزية السياسية في سوريا ما بعد الأسد. وهذا كله معطوف على التوتر السياسي المتفاقم في العراق بين تيار نوري المالكي المساند للنظام السوري ومسعود البارزاني الذي هدد بالانفصال ما لم يتخلَّ المالكي عن طموحاته الدكتاتورية.

الغرب “القلق على مصير الأقليات” يلائمه هذا النوع من المشاهد، في حقبة ما بعد الحادي عشر من أيلول التي استعادت، بطريقة ما، الصراع الحضاري التاريخي بين غرب مسيحي وشرق مسلم. عدم قبول تركيا المسلمة في النادي الأوروبي والنزعة الشوفينية المعادية للإسلام، وقد كانت صاعدة في الغرب (حظر الحجاب في فرنسا والمآذن في سويسرا مثلاً)، وليس هناك أية مؤشرات حاسمة لتراجعها، هما من أبرز الأعراض على انتكاسة الثقافة الغربية عن قيم الحداثة، ومن شأن ذلك أن يلعب دوراً شديد السلبية في تحديد مصائر شعوب الشرق. فما بالك والثورة السورية تقدم كل الإغراءات لاستعادة مناخ الحرب العالمية الأولى، حيث كانت المواجهة بين “الرجل المريض” المسلم وأوروبا الاستعمارية “البيضاء”؟

5

نعود إلى القول، ختاما، إن هناك عدم توافق “زمني” بين ثورات الشعوب العربية الموصوفة بحق بأنها ثورات استقلال ثانٍ (وهذا ينطبق بخاصة على الثورة السورية) وبين المناخ الكردي الساعي إلى استقلاله الأول. لدى العرب أنظمة دكتاتورية أقرب في سلوكها إلى احتلال أجنبي، لكنها تبقى نظرياً من “جلدتها” القومية. في المقابل ليس لدى الكرد أنظمة من جلدتهم تسعى إلى إسقاطها، بل أنظمة “أجنبية” تماماً قد لا يشكل إسقاطها أي منفعة قومية للكرد، بصرف النظر عن المصلحة المشتركة المؤكدة في التحول الديموقراطي.

يعيش العرب والكرد في زمنين مختلفين كما أسلفنا، وبينما يخلق هذا شروطا لعدم الثقة المتبادل بين الطرفين، فإنه في شروط الثورة السورية يخلق أيضا مساحة حد أدنى مشتركة. هناك مصلحة أكيدة للعرب والكرد في سورية ديمقراطية هي التطلع المبدئي للثورة، وعليها يمكن أن يجمعوا اليوم، وفي نطاقها يمكن أن تكون اختلافاتهم مثمرة. من شأن مجال ديمقراطي مفتوح في سورية أن يتيح للسوريين شروطا أفضل للكفاح من أجل مطالبهم الفردية والجمعية. وسيوفر للسوريين جميعا، للعرب والكرد وغيرهم، أطرا شرعية للمداولة العامة والقرار الأصوب.

ما نراه ونقترحه هنا على أرضية سورية الديمقراطية، وما نرى حاجة إلى مزيد من العمل عليه، هو التمييز بين العروبة والكردية كمناط للهوية والانجذاب الثقافي والإنساني (وليس للقومية)، وبين الوطنية كمناط للمواطنة والحقوق المتساوية. الوطنية السورية هي مساحة التفاعل الإيجابية بين كرد وعرب وغيرهم كمواطنين أفراد. ويفترض أن تضمن هذه الوطنية، فوق المساواة الحقوقية بين الأفراد، المساواة الجمعية بين المكونات الثقافية للمجتمع، أي الفرص المتكافئة في تنمية الثقافة الخاصة، والحق المتساوي في الاحترام.

ربما يعترض عرب على أن المساواة الجمعية تتعارض مع كون الكرد 8-10% من السوريين فيما العرب نحو 85%. لكن هذا الواقع سيعكس نفسه على أفضل نحو في شروط الحرية والمساواة، وهو لا يقتضي تنصيصا خاصا عليه، إن في اسم البلد أو في الدستور. بل إن هذا الواقع مسوغ إضافي لقدر من التمييز الإيجابي لمصلحة الكرد، تعويضا عن مظالم سابقة، وتوفيرا لشروط التقارب والثقة المتبادلة.

على أن هذا النموذج الذي يجعل السورية مناطا للمواطنة، ولا يطلب من الكرد والعرب جحد روابطهم الثقافية، غير مستقر في الواقع. فهو عمليا يعني أن العقل سوري، أو أن الرابطة السورية تقوم على المصلحة الواقعية، فيما القلب عربي أو كردي. وهو ما يجرد الوطنية السورية من حرارة العاطفة، ويجعل منها توافقا باردا يذوب كلما سخنت الأوضاع في البلد أو حوله لسبب ما. هذا بينما تبقى الروابط الثقافية الدافئة منعزلة عن عمل العقل التحليلي البارد.

لكننا لا نعرف بديلا واقعيا أفضل.

يمكن لتوافق عقلاني قائم على المساواة في سورية ديمقراطية، ويستمر جيلا أو جيلين، أن يصنع لنفسه قلبا. وبعد جيلين، من يدري ما يحصل؟ كلام الأوطان النهائية حديث خرافة.