“إننا أصحاب حق ولن نقبل بأن ينتزع أحد منا السلطة، لأنها تنبع من فوهة البندقية ونحن أصحابها. لقد قمنا بحركات عسكريّة متعددة، ودفعنا دمنا من أجل السلطة”

يعود هذا القول، بما فيه من اقتباس من “الرفيق ماو تسي تونغ”، إلى نيسان عام 2001، وقيل في وجه حراك “ربيع دمشق”. أما قائله فهو وزير دفاع ثلاث من العقود الأربعة للحركة التصحيحيّة، الرجل الثاني في نظام حافظ الأسد وممثل “الحرس القديم” الذي أنجب ممثل “الحرس الجديد” (من يذكر تلك التسميات؟)، وممثل “الحرس الجديد” هذا، ابنه مناف، هو المرشح، على ما يبدو، لتمثيل “الحرس المجدد” لدى بعض الجهات الإقليميّة والدوليّة، والمحلّية أيضاً..

مصطفى طلاس، وزير الدفاع الذي اتهم رئيس أركان جيشه بالعمالة للمخابرات المركزية الأمريكية ولم يُحاكم أيّ منهما، خليل “القائد الخالد” الذي روى، في مذكراته، كيف استدان “رئيسه”، باسم الدولة السوريّة، من دولة أخرى (ليبيا) مئات الملايين من الدولارات كي يدفع لشقيقه رفعت ثمن التنازل عن الصراع على السلطة، الشاعر الذي كتب عهداً بالدم لحافظ الأسد ينضح ديمقراطيّةً، حامل الدكتوراه في العلوم السياسيّة الذي قرر أن الفاتيكان أوعز، بأمر من المخابرات الأمريكية، للمسيحيين السوريين بأن يدعموا رفعت الأسد في صراعه على السلطة مع شقيقه، المعجب بماو تسي تونغ والصديق المقرّب للسوفييت الذي كان يرى الرسل والأولياء الصالحين في أحلامه مناصرين لحافظ الأسد ونهجه، المترصد دوماً لتحركات “طويلي العمر” المشبوهة ودعمهم للشرير “رفعت”.

إنه أبو فراس، الشاب العصامي الذي عنون مرحلة ما قبل رامي مخلوف في ريادة الأعمال والنجاح في اقتناص عقود التعامل مع الدولة ومؤسساتها عن طريق المنافسة النزيهة الشريفة العفيفة، ووالد مناف، الضابط الوسيم الذي لم ينزل السيجار الكوبي من فمه إﻻ ليلبس ثوب الإحرام معتمراً في ضيافة “طويلي العمر” الذين توقفوا، على ما يبدو، عن التآمر على قلعة الممانعة، مستحقين لذلك الغفران الطلاسي.

*****

بعد الظهور على شاشة “العربيّة”، ثم المقابلة الصحفيّة اللطيفة جداً على صفحات “الشرق الأوسط”، ثم صور مناسك العمرة في ضيافة العائلة المالكة، أصبح من الواضح أن مناف طلاس هو خيار يروق للسعودية، وبالتالي يمكن اﻻستثمار في إعادة بناء صورته إعلامياً بانتظار اللحظة الملائمة لمحاولة استلام مكان قيادي مرموق، إن لم يكن الأعلى، داخل جسم المعارضة السوريّة. أي، بتعبير أوضح، مناف طلاس هو خيار “الثورة المضادة”: يمثّل فلول النظام المتهاوي المستعدة لعقد صفقات مع جهات إقليميّة ودوليّة تؤدي إلى تحقيق مصالح هذه الجهات مقابل دعم استلام الفلول للسلطة.

مناف طلاس وأمثاله، ومن يدعمه ويدعم أمثاله، هم مشاريع مشانق للثورة السوريّة إن أمنتهم على ظهرها ولم تواجههم كما تواجه النظام الفاشي.

*****

ثمة ابتزازٍ رخيص يقول أن القسوة على مناف طلاس ومن يشابهه بعد انشقاقهم هو سلوكٌ سيء أخلاقياً وغبي سياسياً، حيث أنه ﻻ يأخذ بعين الاعتبار الندم المُفترض الذي عُبّر عنه بالانشقاق عن النظام، وﻻ يراعي ضرورة إعطاء الأمان لضباط ومسؤولين آخرين كي يتشجعوا على اﻻنشقاق دون خوف من محاسبتهم على ماضيهم، وكأن ما يسري على ضابطٍ أو جندي رفض الامتثال لأوامر إطلاق النار على شعبه، أوامر تصدر عادةً عن من هم من أمثال مناف طلاس، وخاطر بحياته في سبيل هذا الرفض يجب أن يسري على قياديين يقفزون من السفينة الغارقة في ربع الساعة الأخيرة إلى سفينة أخرى ويطالبون بقمرة القبطان دون حتى اعتذار لفظي!

أو، وهذه لعبة لفظية أخرى، يقولون أن مناف طلاس “بريء” لأنه لم يشارك في قمع الثورة. عفواً؟! وبفرض أنه لم يشارك فعلاً، هل قامت الثورة أساساً ضد القمع الذي جرى بعد اندلاعها؟ أم قامت ضد أربعة عقود من الظلم والقهر والاستبداد؟ وإن كان العفو عن مناف طلاس (وما يمثله مناف طلاس كابن سلالة من سلالات الاستبداد الرئيسيّة) مطروحاً فلماذا إذاً ﻻ نعفو عن الجميع، ونوقف الثورة ونجلس بانتظار “الاصلاحات”؟

المذهل أنك تسمع هكذا آراء ممن يدّعون أنهم الأكثر جذريّة ضد النظام!

*****

أن يتذكر النظام الفاجر وزبائنه الساقطون الآن، بعد كلّ هذه السنين الطويلة، أن مناف طلاس وشقيقه فراس هم “فاسدون” هو تعبيرٌ غير مفاجئ ليس فقط عن انعدام أخلاقهم وإنما أيضاً عن مدى استغبائهم للبشر، وأن يحاول بعض “المعارضين”  نسيان (أو تناسي) من هو مناف طلاس ومن أين أتى فهو، كطلاس نفسه، إعادة إنتاج النظام وإن بقبحٍ جديد، وأن يتأستذ مناف طلاس في خطاباته ومقابلاته الصحفيّة متحدثاً عن “حقبة ما بعد الأسد” وباثاً للنصائح والمواعظ هو هزلٌ من ذاك الذي يلازم التراجيديا، والتراجيديا هنا هي أن نسمع استحساناً للغوه ممن يُفترض أنه “معارض”.

*****

إن المراهنة على مناف طلاس كقطب سياسي مقبول في مرحلة الثورة أو ما بعدها هو خيانة لدماء شهداء قمع وبطش واستبداد النظام الفاشي، ولا نتحدّث فقط عن شهداء الثورة السوريّة بل أيضاً عن كل أولئك الذين قضوا في حقبة الثمانينات ضحايا إعداماتٍ تباهى طلاس الأب بأنه كان يوقع على قراراتها بصفته نائب القائد العام للجيش والقوات المسلحة دون أن يكلّف نفسه عناء قراءة أسماء من يحكم عليهم بالموت، وقد نفهم (بقدر ما نحتقر) أن تفكر جهات إقليميّة ودوليّة بمصالحها دون أي إحساسٍ بأولويات وخيارات الشعب السوري، لكن أن نرى وجوهاً يُفترض أنها معارضة بشكل جذري للنظام ترى أن ثمة “براغماتيّة” تسمح بالرهان على أن تضحية الشعب السوري حتى الآن بزهاء عشرين ألف شهيد وعشرات الآلاف من المعتقلين ومئات الآلاف من المهجّرين داخل وخارج البلاد ستأتي بابن مصطفى طلاس بدلاً من ابن حافظ الأسد دون الذوبان خجلاً من الذات، كي ﻻ نقول خجلاً من الدماء، فهذا ما يتجاوز عمى البصر والبصيرة إلى اختلالات بنيوية في العقل، الظاهر منه والباطن.