فجّرت مشاهد إعدام الزعيم العشائري الحلبي “زينو بري” (والموصوف كأحد زعماء “اللجان الشعبيّة” في وسائل الإعلام الموالية) جدلاً كبيراً سبق وأن كان يجري بوتيرةٍ أخف، أو بطريقة أقلّ مباشرةً، سيما وأنه وثيق اﻻرتباط بالنقاش الجوهري حول التسلّح والسلميّة: ما هي مرجعية السلاح، القانونيّة والسياسيّة والأخلاقيّة، وحتّى الوطنيّة؟ ما هي الضوابط التي تضمن فعاليّة هذه المرجعية؟

هناك من فرح واحتفل بإعدام برّي، حيث أنه، وجماعته، يُحسبون على تجارة السلاح والمخدرات والبلطجة والقفز فوق القوانين في حلب وما حولها منذ سنين طويلة، وله، على ما يبدو، دور مشؤوم في القمع والتشبيح الذي جرى في حلب ضد كل مظاهر مناهضة السلطة. هناك، في موقع متوسّط، مَن لم يتوقف طويلاً عند أحقيّة الإعدام من عدمه، ولو أنه انتقد طريقة التنفيذ، وهناك، في المقابل، من رفض الإعدام، والبعض منهم أدانه، حتى لو كان “زينو برّي” أحد زعماء الشبيحة وكابوساً جاثماً على صدور قطاع واسع من أهالي حلب.

هذا بما يخص ما جرى بالأمس، لكن الجدل لم يتركز عند هذه المجريات فقط.

ثمة نقاشات مركّبة فوق بعضها البعض تجري بخصوص إعدام برّي، فهناك أولاً ما يخص الموقف من الإعدام إجمالاً، بغضّ النظر المكان والزمان والظرف. نقاشٌ آخر مختلف يأتي حول سلوك كتائب الجيش الحر إجمالاً، وخصوصيّة أثر بعض السلوكيات سياسياً وإعلامياً. أما ما يخص المنحى المسلّح للثورة السورية مقابل خيارات الكفاح السلمي فهو أحد النقاشات المُلازمة لمسيرة الثورة. المستوى الأخير، وهو حول الموقف من الثورة السوريّة أصلاً، لم يعد “نقاشاً” منذ وقتٍ بعيد. وتتميّز كل طبقات النقاش هذه، خلال مناخ التوتر والعنف السائد حالياً، بالعنف اللفظي المفرط أحياناً في قسوته، ولعل هذه القسوة طبيعية طبقاً لما يعيشه ويعانيه السوريون، وما هو طبيعي ضروري ربما، حتى لو كان مؤلماً.

شخصياً، يخيفني أن يكون قتل إنسانٍ مسألة نسبية وحمالة أوجه وقابلة للجدل، بغض النظر عن الشخص وإجرامه، لكنني أيضاً أرى أن ثمة من شنّ حرباً على شعبه أدّت إلى أن تكون هكذا أمور قابلة للنقاش، بل أدّت إلى أن تكون هذه الأمور هي صُلب الحياة اليومية لآلافٍ وآلاف من السوريين. إن هذا الطاغية هو المسؤول الأخلاقي الأخير (دون تنزيه أحد أو تبرئته مما اقترفت يداه، خصوصاً إن كان باسم ثورة حرّية وكرامة الشعب السوري) عما يجري في سوريا، وسقوطه، عدا عن أنه أكبر قصاص منه، بات منذ أشهر طويلة ضرورة وطنية وإنسانيّة.

لا شيء سهل في الثورات، ولعلّ أصعب جهد فكري وأخلاقي يكمن في تقييم هذه الأحداث واتخاذ المواقف منها.

كيف يمكن اﻻجتهاد من دون السّفسطة على من يقبع تحت الموت ويخوض معركة قاتلٍ أو مقتول؟ كيف يمكن اتخاذ تقييم أخلاقي ملائم لظروف غير أخلاقيّة؟ هل يمكن للمطلقات الأخلاقيّة أن تصبح، ظرفياً، نسبيّة؟ ما هي هذه الظروف؟ ومن يقدر ويصلح لتقييمها؟ ما معنى السمو الأخلاقي وما قيمته العمليّة تحت النار والقصف والموت؟ بالمقابل: أين يقع الحد الفاصل بين تفهّم الظرف والتستّر على خطأ أو جريمة؟ ما مشروعيّة إدانة فعلٍ صادر من طرف إن سُكت عن نفس الفعل حين يصدر من طرف آخر، حتى لو كان الطرفان غير متكافئين في شيء؟

أسئلةٌ ﻻ تنتهي، ويحار الواقف أمامها: أيجلس ليجيب عليها، أم يشعر بالذنب ﻷنه يمتلك ترف الوقت والأمان ليفكر بها أصلاً؟

ما حدث أمس مع زينو برّي، وحدث مع غيره أيضاً، هو سلوك أنثروبولوجي بشري بامتياز. هكذا هم البشر أساساً… يغضبون، ينتقمون، يسعون لإلغاء أعدائهم، خاصّة أولئك الأعداء الوجوديين منهم، ويتشفّون بإلغاء من آذاهم. هكذا هي الثورات أيضاً، حتى تلك التي يتشدق بعشقها الرومانسيون. هل تتخيلون تقريراً لـ”هيومن رايتس ووتش” عن الثورة الفرنسيّة؟ كم “عميلاً” صفّت المقاومة الفرنسيّة ضد النازية؟ وكم “طابوراً خامساً” ثقب رصاص الإعدامات جسده في الحرب الأهليّة الاسبانية؟ كم جندياً “باتستيّاً” وفلاحاً بوليفياً أعدم غيفارا ورفاقه؟ جثة موسوليني معلّقة كالذبيحة، تشاوشسكو صريعاً بعد محاكمةٍ جرت فقط لرؤيته مرعوباً…

ﻻ، ليس تبريراً. هو فقط تذكيرٌ للبعض، المتعالين منهم خصوصاً، بأنه قد ﻻ يكون من المشروع لهم أن يطلبوا من الثوار السوريين أن يكونوا أعلى من البشر وخارج سياق تاريخ البشرية. هذا الطلب ليس مشروعاً للجميع، وﻻ نعرف، وربما لن نعرف، إن كان مشروعاً لأحد أصلاً.

بغض النظر عن التقييم الأخلاقي والقانوني لإعدام برّي، أو لكلّ الإعدامات والتصفيات الأخرى، ما جرى أمس لم يكن إيجابياً للثورة السوريّة، لا على المستوى الإعلامي وﻻ على المستوى السياسي. لقد أظهرت المشاهد، مرّة أخرى، مقاتلي كتائب الجيش الحر كعناصر غير منضبطة وقادرة على أن تفعل ما تشاء بأشخاصٍ هم، بغض النظر عن تقييمهم ومدى طول لوائح جرائمهم، أسرى. وأظهر السلاح كظاهرة عشوائية ﻻ سلطة عليها وﻻ رقابة.

قد يُقال عن هذا الكلام أنه صيدٌ في الماء العكر، أو تشرّط متعالٍ على الثوّار، لكنّ هذا لن يغيّر من واقع سلبيّة المشهد على صورة الثورة السوريّة في العالم. القضيّة الحقّة تحتاج لصورٍ تشهد لها على أحقيتها، وبعيون الكثيرين، ومنهم محايدون أجانب وحتى موالين حقيقيين للثورة، لم تكن صورة مئات الطلقات المنهمرة على ثلاثة أجساد متكئة على جدار مدرسة إحدى تلك الصور.

قد يكون غياب الهيكلية السياسيّة القياديّة الواضحة لكتائب الجيش الحر أحد العوامل التي تُسبب صعوبة هكذا مواقف، فمن شأن هكذا هيكليّة أن تنظّم الإجراءات المتبعة لمثل هذه الحالات بشكل يضمن السلوكيات المسلحة وصورتها أمام الشعب السوري أولاً، والعالم ثانياً. هيئة قانونيّة عسكرية، مثلاً؟

ليس الأمر بيدنا الآن كجمهور، ولعله ليس بيد المتصارعين على “الحكومات الانتقاليّة” المثيرة للشفقة، لكن السؤال مشروع، وضروري، ﻻ بل أنه واجب.

عذراً ممن رأى في هذا النصّ تخبطاً، وطوبى لمن يرى كلّ شيء بوضوحٍ وبسرعة: ﻻ أريد أن أكون مثله.