أدى العنف الشديد الذي واجه به النظام السوري الانتفاضة الشعبية في أشهرها لأولى، ورفضه العنيد لنصائح أصدقائه الكثر, إقليمياً ودولياً، إلى اضطرار الثورة لحمل السلاح من أجل استمرارها. ورغم أن عسكرة الثورة ما زال يلقى الرفض عند الكثيرين من معارضي النظام، إلا أن واقع الصراع وتحولاته بعد سنة ونصف السنة على اندلاع الثورة، حول هؤلاء المعارضين إلى “طوباويين” لم يعد لموقفهم سند على أرض الصراع, ولا بين جمهور الثورة. وبغض النظرعن صحة فكرتهم الاساسية المستندة على مقارنة “الجدوى الأكثر” للثورة السلمية منها في الثورة المسلحة، من جميع النواحي، إلا أن الجدال حول أحقية الثورة السلمية لم يعد له من معنى، ولم يعد للنقاش فيها من فائدة عملية، فقد أصبحت وراءنا، والثورة السورية تخوض معركتها الآن بالسلاح، وقد حسم الأمر.

منذ انطلاقة الثورة، حتى تشكل ذراعها العسكري، وقبل أن يتحول هذا الذراع الى مكونها الرئيسي الفاعل، كان الجسد الرئيسي المواجه للنظام وأدوات قمعه هو جموع المتظاهرين، وكان خطاب الثورة السائد هو خطابٌ سياسيٌ مدني، ومن إنتاج المتظاهرين أنفسهم، وتجلى في أشكال عديدة أظهرت ابداعات روح الشعب الثائر في رفضه للذل والظلم، وتمحور أساساً حول مطلب الحرية والكرامة والعدالة، وتوجه نحو عموم السوريين للمشاركة في إسقاط الاستبداد ورموزه. وفي هذه المرحلة، كانت الساحة السورية تستغرق كل أطراف الصراع (النظام– الجمهور الثائر– المحايدين)، فلم تكن الثورة قد وضعت على طاولة الصراع الاقليمي والدولي بعد.

باستطالة الصراع، وضعت الثورة السورية في مركز أجندات الدول المتصارعة، وهي الأجندات التي لا يجمعها سوى شيء واحد: ليس أي من تلك الأجندات والمصالح تتوافق مع مطلب الشعب السوري في التغيير الديمقراطي وإسقاط النظام. ليس ذلك فقط، بل أصبحت إطالة هذا الصراع بشكله الحدي المدمر للدولة والمجتمع هو شرط تحقيق تلك الأجندات، بل إن هذا التدمير هو الأجندة ذاتها عند بعض الأطراف (إسرائيل – النظام؟). بذلك تواكب تنقل المسألة السورية عبر الأروقة العربية والدولية مع انتقال مستوى العنف من قتل الأفراد الى قتل الجماعات عبر المجازر المتنقلة.

وإذا كان واضحاً للجميع المصلحة الإسرائيلية– الأمريكية في الوصول إلى سورية مدمرة تدميراً شاملاً، تدميراً يطال الدولة والمؤسسات والمجتمع والاقتصاد والعمران والسياسة وكل شيء تقريباً، وواضحةً أيضاً المصلحة الروسية – الإيرانية – الصينية في بقاء النظام الاستبدادي واستعمال نفوذها في صراعها مع الغرب على الساحة السورية، فليس واضحاً بنفس القدر المصلحة السعودية والخليجية عموما في إنهاء مسلسل الثورات العربية على الساحة السورية. فبالتواطؤ غير المعلن مع الغرب، تحمست الدول الخليجية لنداء الثورة بالتسلح، وبدت كأنها حليف حقيقي لها، على عكس تركيا ودول الغرب، التي بدا نفاقها في تكذيب نفسها بنفسها. وفي تناقض المواقف الدولية وخذلانها للثورة السورية، وقعت المعارضة السياسية في مطب وهم المراهنة على الدعم الغربي– التركي، وأوقعت معها القسم الأكبر من الشعب السوري المنتفض. وإذ أضاعت المعارضة وقتاً طويلاً وثميناً في اللحاق بهذا الوهم، فإن الثورة كشفت بسرعة النفاق الغربي، وهذا ما أدى إلى التعويل أكثر على الجيش الحر، وتعليق الآمال عليه، على إيقاع اشتداد المجازر التي ينفذها النظام، ولم يبق للثورة من حليف سوى من يعطيها السلاح. وقد أعطت دول الخليج السلاح مشروطا بالبرنامج الوهابي: الدين والطائفية.

تشكل الجيش السوري الحر أساساً من الأفراد المنشقين عن جيش النظام، الذين شكلوا الأنوية الاولى التي استقطبت مزيداً من الجنود المنشقين والمتطوعين المدنيين. فهم قد انشقوا عن نظام ترعرعوا في كنفه لأسباب أخلاقية صرفة، ولم يعارضوه بدوافع قناعات سياسية، ولا مصالح شخصية. فهم لم يتلقوا في حياتهم العسكرية – والمدنية أيضاً– سوى دروس الولاء والطاعة للنظام ورموزه, ولم يسمح لهم يوما – كونهم عسكريين– بأي نشاط ثقافي مدني، ولا بالمشاركة أو حتى الاطلاع على أفكار تتعارض مع ذهنية الولاء المطلق للسلطة القائمة وشخوصها المعروفين. فما سيكون خطابهم الثوري ضد هذا النظام ان لم يكن الخطاب الديني؟ وفي غياب مزمن لمعارضة لا تملك خطاباً مقنعاً ولا تواصلاً مع جمهور، ماذا نتوقع أن يكون خطاب شعب ثار ضد ثقافته بالذات؟ أليس الدين هو خطاب جمهور لا يملك خطاب؟ فالشكوى السائدة إذن في صفوف المعارضة الليبرالية واليسارية حول اللغة الدينية السائدة في بيئة الثورة هي شكوى لاتقوم على أساس، بل تظهر نتائج نصف قرن من عجز المعارضة عن تكريس لغة سياسية لا دينية في الوسط الشعبي، وتظهر أيضاً هيمنة ثقافة النظام على المجتمع. وبالفعل، وبمتابعة عشرات المقابلات مع الضباط المنشقين ومئات الفيديوهات على الفايسبوك، يتضح الإفقار السياسي والضحالة الثقافية اللتان يتصفون بهما. وحتى جيل الشباب مصاب قليلا بالإفقار بثقافته السياسية, فبالرغم من وضوح الصراع عندهم, وبالرغم من حسهم الديموقراطي الواضح في سلوكهم وعلاقاتهم وحياتهم اليومية, الا أنهم يلجأون للتعبير الديني عند محاولتهم كتابة شعار أو تحريض أو تبرير موقف.

مما تقدم أعلاه، نستخلص الملاحظات التالية:

أولاً: ليس الخطاب الديني السائد هو المعبر الحقيقي عن إرادة الثورة، موضوعياً وتاريخياً، وإنما طغى هذا الخطاب بالترابط المشروط مع عنف من قبل النظام وصل بشدته ليهدد المجتمع بكامله، وهذا ما أدى إلى تراجع الأشكال السلمية للمقاومة وتراجع لغتها السياسية بالتالي، وتبوء المكون العسكري في صدارة المشهد مع ما يعنيه ذلك من تقدم خطابه الديني، عبر عملية التمويل الخارجي بالمال والسلاح والبرامج السياسية.

ثانياً: الدين هو إيديولوجيا الشعب في جميع الأزمنة، فكيف يكون الحال بشعب مقطوع الوسيلة ويواجه اليأس والموت على مدار سنة ونصف من قبل نظام سفاح، والخيبة المتكررة من أطراف عربية ودولية ساهمت الى حد كبير في ذبحه نتيجة التواطؤ والعداء لثورته؟ أي أن الخطاب الديني السائد حالياً، هي مسألة راهنة وظرفية.

ثالثاً: بغض النظر عن تاريخ المعارضة الأجوف، فهي لم تجهد لتكون قيادة مقنعة للثورة، ولم تعمل على تمثيل الثورة في ساحة الصراع، بل كثفت جهدها في الساحة الخطأ، الساحة الدولية التي لا ترى مصلحتها في انتصار الثورة كثورة ديموقراطية جذرية قد تلهم شعوباً أخرى.

رابعاً: ضرورة الكشف على الخطر القادم من الخليج، فأنظمة الخليج أعداء محتملون للثورة السورية في تغذية الثورة المضادة، وذلك بقدر ما تحمل من آفاق تحررية وديمقراطية.

خامساً: يتضح مما سبق أن مهمة التطوير الثقافي والعقلاني للمجتمع السوري هي مهمة ملحة في سياق إعادة بناء الدولة والمجتمع لمرحلة مابعد الثورة.