لو أن المنطق ينفع في سياق الأوضاع السوريّة لما كان يمكن التفكير في مدينة الرقّة كملجأ للهاربين من مناطق أخرى، فلا هي مدينة كبيرة، وﻻ مقدرتها على الاستيعاب، مادياً وبشرياً، تزيد عن حاجة سكانها أصلاً، لكن تحويلها لملجأ لم يكن ناتجاً عن منطقِ آخر إﻻ النيران، فجميع ما حولها مشتعل، وتفاقم الأوضاع في حلب قد يساهم في سدّ الشريان الاقتصادي الذي يروي مدينة تضخمت حاجاتها أضعافاً فوق عوزها الأصلي.
بدأت أفواج اللاجئين الأولى بالوصول إلى المدينة منذ صيف العام الماضي، حيث كان ﻻجئون من حمص وريفها أوائل الواصلين، تلاهم وافدون من ريف ادلب، ثم ريف حماه، فدمشق وريف اللاذقيّة (الحفّة)، وبعدها دير الزور وحلب وريفهما. وقد قدّر عبد الله الخليل، المحامي والناشط الحقوقي المعروف، عدد اللاجئين في الرّقة وما حولها بداية شهر آب بأربعمئة ألف لاجئ، فيما ذهب “أبو الحارث” (نتحفظ على هويته لأسباب أمنية) وهو ناشط في”الهيئة الإغاثيّة في مدينة الرّقة”، وهي تجمّع ناتج عن توحيد جهود العديد من المجموعات الإغاثية على الأرض وداعميها من أبناء المحافظة المغتربين، ذهب إلى تقدير عدد اللاجئين بأكثر من نصف مليون ﻻجئ بعدها بأقل من عشرة أيام، وأكّد أن العدد يزداد بشكل متسارع مع سوء الأوضاع في دير الزور، ثم في حلب، ويتجاوز هذا التضخّم استطاعة أفراد وهيئات الإغاثة المحلّية، الذين باتوا عاجزين عن تقديم العون بنفس الوتيرة التي ساروا عليها خلال الأشهر الماضية حين تمكنوا، بجهود وموارد ذاتية بالدرجة الأولى، من توفير المأوى والغذاء والدواء للشطر الأكبر من النازحين.
لم تجد الجهات الحكومية نفسها معنيّة بأي جهد تجاه الوافدين إلى المدينة، بل أن سلوك الجهات الأمنية، حسب أبو الحارث، تجاه الناشطين في الإغاثة كان بنفس سوء سلوكهم مع المتظاهرين، وقد تراخت القبضة الأمنيّة نسبياً عن الجهود الإغاثية المحلّية في الآونة الأخيرة بالتوازي مع فتح المدارس ومعسكر طلائع البعث لإيواء الدفعات الأخيرة من اللاجئين، كما يشير عدد من الناشطين باستياء إلى تكاثر محاولات بعض الجهات الرسمية وشبه الرسمية (مسؤولين حزبيين وشخصيات مستفيدة من النظام، على سبيل المثال) لنسب الجهد الإغاثي لأنفسهم واستغلال الإغاثة لتلميع الصورة عن طريق زيارات ومساهمات مادية وعينية أمام الإعلام الموالي.
تعاني الرّقة، أسوة بغيرها من المحافظات، من تضخم سوق تأجير العقارات، فرغم أن جهود ناشطي الإغاثة في المدينة انصبّت من بدايات حركة النزوح نحو توفير سكن مجاني لكل من أمكن إﻻ أن الإقبال على استئجار الشقق المفروشة من قبل الطبقات المقتدرة من النازحين، بالإضافة إلى جشع السماسرة، أدّى إلى تضخم كبير في الإيجارات، خصوصاً بعد وصول دفعات متتالية من النازحين من دير الزور، لكن أزمة الإيجارات ليست الأهم حسب تقدير “أبو الحارث”، ﻻ على الصعيد الاقتصادي وﻻ على الصعيد الاجتماعي، حيث يشكّل الانتشار الهائل للتسوّل في شوارع المدينة آخر التطورات على هذا الصعيد.
يخشى الناشطون الرقيون من أزمة غذائية عميقة في المحافظة، ليس فقط للاجئين وانما حتى لأهل المدينة نفسهم، فما بدأ نقصاناً في مواد معينة مثل حليب الأطفال أو الأدوية بات الآن، مع اشتعال الأوضاع في حلب، وهي الرئة الاقتصاديّة والتجاريّة الوحيدة للرقة فيما يخص الكثير من المستلزمات، أزمةً قد تتولد عنها كارثة إنسانيّة، ﻻ سيما وأنها تتمفصل على انقطاع شبه كامل لأغلب مشتقات البترول عن المدينة. “اﻻستعداد للقادم هو التحدّي الأكبر” يشير أبو الحارث، “حيث أن اقتراب بدء العام الدراسي، فالشتاء بعدها، قد تضعنا أمام وضع إنساني كارثي”.
لم تعد المساعدات الماديّة الموفّرة من قبل تجمعات أبناء الرقة المغتربين تكفي، يقدّر الناشطون في الهيئة الإغاثيّة، فرغم أنها ساهمت خلال الفترة السابقة في تقديم سويّة مقبولة جداً من العون للاجئين، حتى ضمن الوضع اﻻقتصادي للمدينة، السيء في الأساس، إﻻ أن انقطاع الإمدادات أدى إلى فقدان بعض السلع الأساسيّة حتى مع وجود استعداد لشرائها بأسعار متضخّمة جداً، ويؤكد أبو الحارث أن إدخال قوافل معونات عبر الحدود الشماليّة سيكون ضرورة حيويّة في القريب العاجل.
لعلّ ما يحدث في الرقّة اليوم هو مجرد مثال نموذجي عن ما يحدث في مدن وبلداتٍ كثيرة في سوريا.. مناطق يُفترض أن عليها أن تعتبر نفسها محظوظة ﻷنها لم تُقصف بالمدفعيّة والطيران، و”حظها” هذا جعلها مقصداً للذين دُمرت بيوتهم أحياءهم. هؤﻻء جميعاً، بدورهم، “محظوظون” مقارنةً بأغلب من اضطر للجوء خارج البلاد، في تركيا ولبنان والأردن والعراق. الأوضاع الإنسانيّة للاجئين السوريين، داخل وخارج البلاد، هو سؤالٌ مركزيّ للعالم أجمع عموماً، والدول المحيطة بسوريا خصوصاً. سؤالٌ ﻻ يجد إجابةً أفضل من الإجابات على كلّ الأسئلة الخاصة بسوريا خلال الثمانية عشر شهراً الأخيرة.