شاءت لي الأقدار أن أدخل إلى بعض المناطق المحررة في سوريا. كانت تجربة روحية و فكرية ملأى بالكثير، قررت أن أرصدها بكلمات و سطور. من نافلة القول التأكيد على أن هذه التجربة “ذاتية” بحتة ولا يستقيم معها التعميم على جميع المناطق وعلى كل الحالات، كما أنها لا تعكس إلا جانباً واحداً من واقع متعدد وثري، لا يمكن رصده من زاوية محددة أو حادّة. إن زيارة المناطق الثائرة تعكس جوانب الثورة نفسها من تنوع فائق يطال كل شيء. إنه الزمن السوري الجديد بكل ما يحمل من تحديات وفضائل، بكل ما يحمل من ألم ومعاناة، بكل ما يحمل من وقائع صادمة وآمال رست على شواطىء لا تخصّها. لا تكفي بضعة أيام للتعرّف على بقعة ثائرة على التراب السوري، إلا أنها كافية تماماً حتى يعرف المرء أن عقارب الزمن لا يمكن إعادتها إلى الوراء.
أتحفظ على ذكر بعض المناطق أو الأسماء الخاصة بالأشخاص أو الكتائب، وذلك لضرورات أمنية وأخرى أخلاقية. كل خطأ أو “خطيئة” وردت بين كلمات هذا النص لا يتحمّل مسؤوليتها إلا كاتب المقال نفسه. فـ”هكذا بدا لي العالم”…..!؟
عن “الجيشالحر” بقضّه وقضيضه
ليس هناك من ظاهرة تستحق النظر كتلك التي تتعلق بالشق العسكري من الثورة، أو كما يدعى “اصطلاحا اعتباطيا” بالجيش الحر. تحركات الرجال المسلحين في المناطق المحررة لا تخطئها عين الزائر ولا تحيد عنها تساؤلات عدّة تمتزج بمشاعر مختلفة يمكن أن تذهب حدّ التناقض أحيانا. خليط ومزيج ذو ملامح مختلفة يندرج من طبيعة النظام العنيف إلى تطورات طرأت على حال الثورة، مرورا بتاريخ المناطق الثائرة وطباع ساكنيها أخرجت جانبا على قدر كبير من التعقيد البنيوي والعملياتي، حمل على عاتقه التصدي لقوة النظام الضاربة بالسلاح، لا بل والشروع في عملية تحرير طويلة الأمد، دامية وقاسية. لم يعد سرا أن غالبية الثائرين الذين يحملون السلاح لم يعودوا من المنشقين العسكريين في الجيش النظامي، إذا لا يشكل هؤلاء إلا ثلث المكون العام على أبعد تقدير. في المناطق المحررة التي استطعت الوصول إليها يشكل أبنائها العمود الفقري لمكونات الهياكل والتنظيمات المسلحة، مع إمكانية ملاحظة وجود أشخاص من مناطق بعيدة من الوطن السوري لأسباب مختلفة، منها ما هو شخصي ومنها ما ينبع من ظروف حتّمت على أصحابها العمل في مناطق بعيدة عن منبعهم الأصلي. فأحد قادة الكتائب التي كان لها شأن كبير في عملية تحرير مدينة أعزاز ينحدر من درعا مثلا، بينما ترى مقاتلين من مناطق حمص وحماه يعملون ضمن كتائب تنشط في ريف إدلب الملتهب، وخاصة فيما يشبه مثلث الرعب سراقب، بنشّ وتفتناز. ضمن هذه الصورة، يشعر المرء وكأن أبناء سوريا أصبحوا “معجونين” بالثورة بكل ما تعنيه الكلمة من “معان”، في حالة تذكّر بنوع من الوحدة “الوطنية- الثورية”، تختلف عن وحدة البعث “الوطنية” القائمة على أركان الاستبداد والعنف المشاع وتقديس القائد “الرمز”.
تختلف هذه التنظيمات والجماعات المسلحة ليس بتسمياتها فحسب، ولكن ببنيتها وتوجهاتها أيضا. فهناك بعض الكتائب التي تتكون من أفراد عسكريين منشقين وبذلك تقترب من الصورة الكلاسيكية للجيش الحر. هم أشخاص تتنوع انتماءاتهم الفكرية والمجتمعية والسلوكية أيضا. يربط أعضائها إحساس ديني هو أقرب للشعبي منه للمؤطر والإيديولوجي. بينما تتشارك كتائب عدّة في بعض العمليات القتالية الهجومية ضد مواقع لأجهزة النظام الأمنية والعسكرية، تتكفل بعض الكتائب بعمليات أخرى هي أقرب إلى اللوجستية والمدنية، خاصة في بعض البقاع المحررة وسط وشمال البلاد. يلاحظ الزائر وجود مسلحين تبدو عليهم أمارات إسلاموية تتخذ من السلفية “التقليدية” جذورها وعناوينها وحتى أعلامها وراياتها، وتجاهر بهويتها المذهبية المرتبط بالسنّة والجماعة، الهوية العابرة للتاريخ والجغرافيا بكل دقائقها وأوهامها. حتى أن بعضها لا يخفي تعاطفا ما مع تنظيم القاعدة ذائع الصيت، مع عدم وجود مؤشرات على ارتباط تنظيمي معين مع التنظيم الأم الذاهب للانقراض، يكمّله جهل فاضح بتاريخ التنظيم وقيمه، بالإضافة إلى مصير أبرز رجالاته عدا ابن لادن وزرقاوي العراق، كما لاحظت من دردشة عابرة مع بعض الأفراد الذين التقيتهم وكانوا مستعدين لحديث جانبي عابر. يحدّثك أمثال هؤلاء عن حلمهم في تطبيق شرع الله الذي “لم يدع لنا شيئا إلا وأعطانا هدى فيه لتدبير أمور الناس” في المجتمع الإسلامي الفاضل، المجتمع الذي “تذوب فيه الفوارق بين الغني والفقير”، المجتمع الذي “تسود فيه قيم العدل بين عباد الله أيا كانت درجاتهم”. فيما يبحر آخرون في الشرح حول درجات “الجهاد” وأنواعه إلى درجة لا يعود المتابع قادرا على التمييز بينها..!!
من المرجح أن يكون أفراد هذه التنظيمات غير حاصلين على تعليم عال عدا بعض الأفراد أو القادة الذين كان لهم نصيب ما من التعليم الشرعي الديني من معاهد وكليات سورية في أغلب الحالات. هذه الجماعات المميّزة لا يؤكدون صراحة على انتمائهم للجيش السوري الحر، لا بل ويجاهرون بتمايزهم عنه فكرا و سلوكا. إلا أن جزءا مهما ممن امتشق السلاح والتحق بكتائب عسكرية حسنة التنظيم هم أولئك المدنيين من أبناء المناطق الذين انخرطوا في نشاطات الثورة سلمية الطابع منذ البداية، ووجدوا أنفسهم مضطرين لحمل السلاح للدفاع عن أملاكهم وحياتهم وحياة عائلاتهم وأطفالهم بعد شيوع وتكرار المجازر الطائفية المتنقلة، كما يحاجج من التقيت به منهم . في هذه التنظيمات يمكنك أن تجد تشكيلة متباينة من الأشخاص مثل ذلك المهندس المدني الذي أصبح قائد كتيبة مسلحة أو منسقا عاما لعدد من الكتائب المقاتلة، أو ذلك الصحفي النشط الذي يغطي نشاطات الكتائب الإعلامية وبياناتها بحرفية عالية، أو ذلك المغترب الذي قفل راجعا إلى منبته الأصلي، مستفيدا من علاقاته التي بناها في الخارج محاولا التأمين اللوجستي لكتائب مختلفة يجمعها حسّها المناطقي العالي. يحدثك المتطوعون المدنيون في الكتائب المسلحة عن أهمية تواجد أمثالهم في “الجيش الحر” حتى لا تبقى الغلبة للإسلاميين الجهاديين، “الغلبة” التي لم أراها بادية على ذلك النحو في المناطق التي زرتها على الأقل. هذه الفئات من الأشخاص لا يضرها إلحاقها ووسمها بكتائب “الجيش الحر”، حتى وإن كانت مرجعيتها لا تمت إلى الذهنية العسكرية بصلة.
يخيل للمرء وبسبب التفاوت الواضح في ملامح وهيكليات، بل وتجهيز الكتائب المسلّحة، أن صراعا دمويا بينها قائم أو قادم لا محالة. ليس هناك ما يدعم هذه الفكرة في الوقت الحالي حتى مع وجود إشكالات أو أزمات قد تتطور إلى اشتباكات محدودة تظهر بين الحين والآخر. العلاقات بين الكتائب المسيطرة على مناطق محددة ليست دائما على ما يرام، ولكن هناك درجة عالية من الاحترام المتبادل، بغض النظر عن التفاوتات والتمايزات الظاهرة والكامنة. مع الإشارة إلى بعض العوامل العائلية والعشائرية والمناطقية التي يمكن أن تسهم في وأد أي صراع أو إشكال على درجة من الخطورة، حالة من “التوازن الاجتماعي” إن صح التعبير، مدعّم بدور إيجابي كبير لما بات يعرف بـ”اللجان الشرعية” التابعة لكل منطقة أو مجال حيوي من الكتائب، والتي يتكون أعضائها من شخصيات دينية وعسكرية ومدنية تحظى باحترام كبير في مجتمعاتها المحلية، وتتدخّل لفض النزاعات حول قضايا معينة من ضمنها كيفية معاقبة بعض الأفراد الذين يقومون بتجاوزات لا يمكن السكوت عليها مثل أعمال السرقة والتشبيح والتعرّض لأملاك الغير، كما حدث و يحدث في بعض الأحيان نتيجة غياب السلطة المركزية أو الهيكلية التنظيمية التي تنصهر من خلالها الوحدات المقاتلة.
تتباين الكتائب والتشكيلات المسلحة في مهامها أيضا. فكتائب الجيش الحر التقليدي من العسكريين والمنشقين تحاول جاهدة القيام بعمليات التأمين اللوجيستي (السلاح خاصة) بالإضافة إلى التخطيط العام والتكتيك المرحلي للعمليات القتالية على الأرض حسب ما تقتضيه المرحلة. بينما تتشارك كتائب الإسلاميين “السلفيين” مع الكتائب الأخرى ذات الصبغة “المدنية” بمهام لا تقل أهمية عن العمليات القتالية من أبرزها تأمين طرق اللاجئين وتوصيل الجرحى من المدنيين والمقاتلين إلى المشافي الميدانية أو إلى المناطق الحدودية التركية في الحالات التي لا يمكن علاجها في الداخل السوري، كذلك تأمين وصول الصحفيين والشخصيات الزائرة القادمة من الخارج، وضمان سلامتهم وتنقلاتهم مع ضلوع الكتائب المدنية المسلحة بشكل أكبر في هذه المهام نوعا ما. ولا داعي للتذكير بأن جلّ هذه المهام يعني التعرّض الدائم لخطر القصف الجوي من طائرات النظام التي لا تكلّ ولا تملّ من التحليق فوق المناطق المحررة. فالمجموعة التي تكفلّت بإيصالي إلى الحدود التركية مثلا تأخرت حوالي الثلاث ساعات وذلك نتيجة التعرّض إلى القصف من طائرة قريبة في وقت كانت تحاول فيه إدخال مساعدات غذائية (مئات من ربطات الخبز) إلى مدينة أريحا التي كانت واقعة تحت حصار خانق وقصف عنيف طيلة أيام عدّة. ورغم اشتراك الكتائب جميعها في العمليات القتالية المعقدة ذات التحضير الجيد (مثل محاولات اقتحام مطار منّغ قرب أعزاز أو مطار تفتناز جنوب إدلب) أو تلك العمليات الاضطرارية أثناء الاقتحامات المفاجئة لقوات النظام، إلا أن أبرز العمليات ضد قوات النظام و أكثرها شجاعة ونوعية هي تلك العمليات التي تقوم بها الكتائب ذات الهوى السلفي، كما يتهامس كثير من الأعضاء الذين ينتمون إلى مشارب واتجاهات شتى.
على غير ما يشاع، هناك نقص حاد في تسليح الكتائب المقاتلة بأنواعها المختلفة، وذلك يعود إلى عوامل عدّة منها ما يتعلق بولاءات مناطقية أو أخرى على علاقة ببيروقراطية قادة الجيش الحر المتواجدين في تركيا، وحتى بآلية عمل المجلس الوطني في هذا الجانب، والتي لا تحسن إلا الارتجال والتوزيع غير العادل والشحيح لما تيسّر من أسلحة (بالقطارة، كما أشار أحد قادة الكتائب). النقص لا يختص بأنواع الأسلحة الخفيفة على الأغلب، وإنما بالذخيرة أيضا. أحد الثوار المسلحين كان أكثر ما يزعجه هو عدم قدرة المشيعين على “الاحتفال” بالشهداء ببعض الطلقات في الهواء، وذلك منعا للهدر من جهة، وتجنبا لاستجرار طيران النظام من جهة أخرى. لا يمكن تعداد الأفراد المقاتلين الذين اضطروا إلى بيع مقتنياتهم الرخيصة والنفيسة في سبيل الحصول على قطعة سلاح (كلاشينكوف أو قاذف أر بي جي) في أوقات وصلت فيه الأسعار إلى أرقام فلكية كما تفيد أحاديثهم اليومية. فهذا باع مصاغ زوجته وأمه، وذاك تخلّى عن ميراثه، وآخر باع قطعة من أرضه لقاء الحصول على ثمن يؤمن من خلاله سلاحا فرديا وذخيرة تصمد بضعة ساعات أو أيام. هذه الحال ما زالت مستمرة حتى وقتنا الحاضر من عمر الثورة.
كأي تنظيم اجتماعي، تضمّ الكتائب المسلحة المنضوية تحت لواء الثورة أفرادا لهم طباع وشخصيات متباينة ومتفرّدة. منهم الطيب والخبيث، منهم عسر المزاج ومنهم دمث الأخلاق وطيّب الكلام. تشعر بتناقض غريب، فاختلافهم يزيد من ارتباطهم، وتفرّدهم يكمّل هويتهم الجمعية. رغم أجواء التوتر “المزمن” إلا أن روح النكتة والمرح تظل حاضرة، وهو ما يذكّر بخصال الشخصية السورية التي تبتعد عن التجهّم والصرامة. قبل رحيلنا بقليل دخل أحد الشباب وكان باديا عليه الانهماك بشي نجهله، سألت الحاضرين إن كان من أحد أفراد الجيش الحر، فقفز “أبو صطيف” الثائر المسلح من مدينة الجسر وقال هازئا: لا هادا من الجيش “الكر”! زلزت الضحكات المتعالية أرجاء الغرفة، قاطعها صوت قذيفة يبدو أنها سقطت بالقرب، بعدها ساد صمت عميق ومطبق…!