لا يمكن الحديث عن الثورة السورية دون التعرّض لما عاناه ويعانيه مئات الآلاف من الأطفال، سواء في المناطق المحررة أو في المناطق التي ما زالت تحت قبضة النظام العنيف. ليس هناك من داع للتذكير بأن المجتمع السوري يعتبر مجتمعاً فتياً كغيره من المجتمعات العربية، حيث تشكّل الفئات العمرية الصغيرة واالشابة (تحت 25 سنة) نسبة كبيرة وحيوية من تشكيلاته. من هنا يمكن القول بأن الأطفال واليافعين هم بحق أكثر من ألمّ و يلمّ به الضرر النفسي والجسدي والمعنوي والاجتماعي، ملحقاً آثارا يُخشى أن تمتد لسنوات وسنوات.
لا يجهد الزائر للبحث عنهم. الأطفال يملؤون الأرض، يتواجدون في كل مكان، في الأزقة والشوارع والزوايا، في المستشفيات الميدانية، في السيارات بسيطة التجهيز التي يطلق عليها “سيارات إسعاف” تيمناً و”رجاءً”، في البيوت الضيقة التي تتسع لعائلات عدّة، على دروب اللجوء الوعرة و المعبّدة، على سيارات نقل الخضار وقد أضحت بيوتاً مؤقتة لعائلات ملأى بالرضّع و الخدّج والنساء المتحلّقات حول صغارهنّ، في طوابير الإنتظار المرير أمام مخابز قد تتعرض للقصف في أية لحظة، في ردهات البيوت الخالية من الإضاءة في مساءات الرعب والتربّص. إلا أن هناك أسباباً أخرى تجعلك تعتقد بأن القرى والبلدات مسكونة بالأطفال وحسب. إنه الغياب القسري لآبائهم ومعيليهم. فجلّ الآباء غائبون أو مغيبون، أسرى ومعتقلون، نشطاء ومقاتلون، أحياءً أو شهداءَ “عند ربهم يرزقون”!
يبدو الأطفال أكثر ودّاً تجاه الغرباء، فتراهم يبدأون بالتجمع حول زائريهم بهدوء وحذر بعد لحظات من المراقبة والتحليل السريع للموقف. لقد تعلّموا الحذر وتقييم المواقف تجاه الغرباء، حتى وإن لم يبد عليهم أنهم من عسس الأسد وأمنه المدججين بالأسلحة. رغم الملامح المتعبة التي ترتسم على وجوههم إلا أن الأطفال هم الوحيدون القادرون على إشاعة أمل ما وإضفاء بهجة مفتقدة في مناخات الحذر الواجب وإصاخة السمع ومراقبة السماء على مدار الساعة. فرغم وجودي في مناطق محررة إلا أن “دبابير” الأسد، ناشرة الهلع والصواريخ، لا تكل ولا تمل عن التحليق ليل نهار؛ مرة لأسباب قد تبدو على علاقة بقصف منطقة قريبة وأخرى على علاقة بقصف مناطق أخرى بعيدة. يخبرك الأطفال عن مسارات الطائرات في السماء، لقد حفظوها عن ظهر قلب. فما أن بدأنا الحديث في شارع مقابل المركز الإعلامي في المدينة حتى بدأنا سماع هدير طائرة يقترب رويداً. حاولت النظر إلى السماء فقام أحد الأطفال بشرح مبسط لي. “لا تخاف “دكتور”، هي مو لعندنا جاية، هي رايحة على مارع!!”. في منطقة أخرى أعطاني طفل آخر “درساً تكتيكياً” عن المسار اليومي للطائرات المغيرة على قرى إدلب الملتهبة، مثل تفتناز، ومعرتمصرين وسراقب. كان يقول وهو يشرح بيديه صوب جهات السماء متخذاً من الشمس ومسارها نقطة ارتكاز له أن “رحلة القصف” قد تستغرق ساعة أو أكثر ثم تعود الطائرة أدراجها حتى تتزود بالصواريخ والوقود! “لكااان!! شو يفيدك الصواريخ إزا ما عندك بانزين!”، يقول محمد، ذو العشر سنوات عن طلعات الطائرات المتكررة جيئة و ذهاباً. أما أكثر ما كان يثير الإنتباه هي قدرة الأطفال على التمييز بين أنواع القذائف والصواريخ رغم سماعها من مناطق تبدو بعيدة أحياناً. قصف المناطق لا يتوقف وبتواتر يبدو محسوباً. أحد الأطفال أعطاني “دورة تثقيفية” سريعة عن أنواع القذائف وكيفية تمييزها، “يعني يا أبو خليل (أنا!) مو حلوة إنك ما تعرف الفرق بين “خبطة” الدبابة والطيارة والصاروخ والهاون”، يبتدىء مصطفي شرحه المبسط. هذا عدا عن “الخبرات المتراكمة” عن مميزات الروسية والكلاشينكوف والأر بي جي، صاحب الصيت الأكثر شعبية لدى الأطفال. يقول أحمد مبدياً إعجابه الشديد بالأر بي جي “لكان شلون بدك توقف دبابة؟ لو بتضربها من هون لبكرة بالرصاص ما بتوقف، ما لك غير الأر بي جي! خالي ضرب دبابة على طريق إدلب وإذا بدك باخدك تتصور عندا”!
نهارات الأطفال تبدو أفضل حالاً من مساءاتهم ولياليهم، وخاصة في ظل انقطاع متوال للكهرباء، يوازيه عدم انقطاع للقصف “المتقطّع”. مساءات الأطفال تبدأ بالترقب والخوف وتنتهي بالأحلام المرعبة والكوابيس المخيفة والالتصاق بالأهل في مضاجعهم. أغلب الأطفال الذين قابلتهم يحدثونك عن نومهم المتقطّع وأحلامهم المهولة. فيما يحدّث الأهل عن تراجع كبير في القدرات المكتسبة، وخاصة تلك المتعلقة بضبط المثانة والخروج. يشكو الأهل كثيراً من بوال أطفالهم ليلاً في السرير، رغم أنهم قد تجاوزوا هذه المرحلة بزمن بعيد. اضطرابات النوم وعدم إنتظام النوم في ليالي القصف والرعب، بالإضافة إلى حالات الفزع الليلي أثناء وبعد سقوط قذيفة أو صاروخ في منطقة قريبة، أحدث نوعاً من النقص الحاد في الكفاية من النوم وهذا بدوره يؤثر سلبياً على فترات اليقظة في النهار وعلى قدرات الأطفال المعرفية مثل عمليات الانتباه والذاكرة ووظائف اللغة. يشكو معظم الأهل من غياب التركيز لدى أطفالهم الذين يبدون مشوشي الأذهان، ينسون أغراضهم وحاجياتهم بشكل دوري. يبدون فظاظة بعض الأحيان وعدائية أحيانا أخرى. بعض الأطفال يظهر نشاطاً حركياً زائداً وملحوظاً، وعلى غير هدف واضح.
ليس هناك ما يدهش في ذلك، فهؤلاء الأطفال فقدوا الناظم الحياتي الذين يحتاجونه كأطفال، وافتقدوا سياق الحياة الطبيعية في ظل عدم وجود المدارس والنشاطات التربوية الترفيهية والرياضية الهادفة. أردت أن أقوم بنشاط جماعي مع مجموعة من الأطفال في مدينة “بنّش”. كان لدينا مشكلة في المكان الذي نود فيه ممارسة النشاط به. أحدهم أشار إلى معمل السجاد. عدلنا عن الفكرة لأن الجميع أكد أنه هدف للقصف! بحثنا عن مدرسة فلم نوفق لأن المدارس هي أيضا أهدافا “دائمة” للقصف. أشار أحد المرافقين علينا بصالة للأفراح يمكن إستئجارها ليومين أو أكثر، فرحنا بالفكرة و ذهبنا إلى صاحبها. بعد التحية و الود اعتذر ووضح عدم إمكانية ذلك لأنه وبسبب ضيق الأحوال قرر تحويل الصالة إلى “مذبح للديوك و الدجاج”! نعم، للمخيلة أن تتصور، بدل أغاني الأفراح في ليالي الأعراس الملاح أصبحت الصالة لا تصدر إلا أنين أضعف مخلوقات الله وهي تستسلم لقدرها المحتوم…!
مأساة الأطفال لا تنحصر في المناطق التي تم تحريرها والتي أضحت عرضة للقصف الإنتقامي في أية لحظة، وإنما تعدتها إلى مأساة الأطفال اللاجئين الذين أتوا مع ما تبقّى من ذويهم من مناطق بعيدة نوعاً ما. في أحد بيوت بنّش كان في استقبالي عدد من الشباب أخبروني بأن المنزل يحوي على 6 عائلات مع عدد كبير من الأطفال أتوا جميعهم من حي القابون الشهير في دمشق. بعد قليل بدأ الأطفال بالتوافد واحداً تلو الآخر. أصغرهم الطفلة براء، المشاغبة ذات السنتين، وأكبرهم عبد القادر صاحب السنوات الإثني عشر. في هذا البيت هناك أكثر من عشرين طفل و طفلة، أتى للقائنا ستة عشرة منهم. كانوا في غاية السعادة وبدأوا يتضاحكون ويتهامسون بكلمات غير مفهومة. أحد الأخوال أخطرني بأن بعضهم كان شاهداً على مجازر مروعة حدثت في الحي و كلهم شهدوا الاقتحامات العنيفة لمقاتلي الأسد فضلاً عن القصف المتواصل بالأسلحة الثقيلة وراجمات الهاون. لم يكن ذلك فحسب، بل إن عملية الخروج من الحي بالإضافة إلى رحلة اللجوء نفسها كانت بحد ذاتها مأساة وتجربة مرعبة، وما كانت لتتم لولا مساعدة أفراد من الجيش الحر الذين أمنوا طرق الهروب الوعرة والمخيفة، كما أخبرت. بشكل مشابه وجدت نفسي أمام “سبعة” عائلات لجأت من حي صلاح الدين في حلب، تسكن شقة لا بأس بها يرتع فيها أطفال من جميع الأعمار، استطعت أن أعد 23 منهم! هذه البيوت المزدحمة أصبحت بدائل الأطفال وملاعبهم ومدارسهم، وسجونهم مغلّقة الأبواب أيضاً. إذا لا يأمن الأهل خروج أطفالهم في أحياء لا يعرفونها والطيران الحربي فوق البيوت يذكر أن هنا “الأسد أو لا أحد”.
لم يترك عنف النظام بألوانه المختلفة و”المبتكرة” ندوباً نفسية واجتماعية عميقة فقط على الأطفال، بل ترك جروحاً غائرة وإصابات جسدية بالغة أيضاً، تشوهات جسمية وأطراف اقتلعتها القذائف من جذورها. قبل إنتهاء شهر رمضان بيوم واحد أمطرت السماء قذائف الصواريخ بعيدة المدى على أحياء سكنية متفرقة في “بنّش”، أحدثت أضراراً كبيرة وإصابات مباشرة كان أكثرها مدعاة للألم حالة تلك الطفلة التي لم تتجاوز الخمس سنوات، حيث إضطر المسعفون في الأراضي التركية إلى بتر يدها وساقها عند الجانب الأيمن في خطوة إسعافية بدائلها تفوقها مرارة. حالات عدّة تم أيضاً تقييدها في بقاع أخرى محررة يطالها القصف ولو بعد حين، في اعزاز مثلاً. عدد كبير من الأطفال بترت أطرافهم العلوية أو السفلية، ولا يعرفون أين ذهبت تلك الأجزاء الحيوية من الجسد وليس لهم القدرة على فهم ذلك. في هذه الحالات يكون الضرر النفسي مضاعف حتماً، إذ تحجز الصدمات النفسية مكانها المحفور في الذاكرة والجسد في آن معاً. أمام حالات مأساوية كهذه، نكون أمام “نقصان” جسمي يكمّل أجزاء مفقودة في لوحة للنظام طافحة بالوحشية المنفلتة، النظام الشرس الذي جرّب ضد أطفال سوريا كل شيء إلاّ الحسنى…!
ولكن في مقابل قتامة الصورة تظهر جوانب مضيئة، وإن بدت خافتة. فإلى جانب عديد الأطفال المكلومين والمشبعين بـ”الصدمة و الذهول”، هناك أطفال آخرين قرروا مواجهة خوفهم بأعتى ما تملك البشرية من بدائل، الغناء والأناشيد! في بيت متواضع ومتشقق وآيل للسقوط أدهشني مجموعة من الأطفال، أسسوا فرقة واستهلوا أعمالهم بنشيد “قاشوش جرجناز” الخالد: ساقط ساقط يا بشار! كانت لحظات هي الأجمل وصوت الأطفال يملأ المكان في صباح شمسي منعش. لفت نظري أن أكثر المقاطع التي أعادها “المغنون الصغار” كانت تلك التي تبتدأ بـ”يا إيراني تاعا تسمع، هوي ساقط بس يتدلّع”، و”نحنا ما نحتاج النيتو”! يبدو أننا لسنا بحاجة إلى خبراء “إستراتيجيين” حتى يعرفوا أيّ نتائج وصلها هؤلاء الصغار. وهكذا، بينما كانت طائرات الأسد ترعد في سماء ليست لها، كانت أناشيد أطفال اللجوء تصدح في سموات الأرض السبعة، ساقط ساقط يا بشار…!