لم يكن مستغرباً ولا مستهجناً، في دولة حديثة التكوين كسوريا، أن يلعب الجيش دوراً محورياً، في بناء السلطة السياسية. ولاسيما إذا أخذنا بالاعتبار عجز الطبقة السياسية، التي قادت النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، عن الاستجابة الفاعلة لمتطلبات بناء الدولة والاقتصاد. ناهيك عن عجزها تحديد دور وطني للجيش، بعيداً عن التنافس على السلطة، كما هو مفترض في الأنظمة الديموقراطية. على العكس من ذلك، كان العديد من زعماء الأحزاب والكتل السياسية، يستقوى بعضهم على الآخر، بالمؤسسة العسكرية، ويحاول العبث في بنيتها لصالح مشروعه السياسي. ولم يتخلف الجيش في تلك الظروف عن لعب دور مركزي في بناء سلطة الدولة، بل أعلن عن رغبته بالانفراد بالسلطة بشكل صريح عام 1949 .
في ذلك العام اجترحت سوريا أول انقلاب عسكري ناجح في العالم العربي بقيادة حسني الزعيم. منذ ذلك التاريخ أخذ يتنامى دور الجيش في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي كثير من الأحيان، كان أداة لقمع التعددية السياسية، والتضييق على الحريات، وتعديل الخارطة الاجتماعية لصالح البرجوازية المتوسطة الريفية، التي انتمى إليها معظم الكوادر العسكرية. لقد اجتذبت المؤسسة العسكرية في وقت مبكر، من عهد الاستقلال، أبناء الأقليات الدينية والعرقية لاسيما الريفيون الفقراء منهم. فقد وجد هؤلاء فيها فرصة جيدة للارتقاء الاجتماعي. في حين فضل أبناء المدينة أعمال التجارة والمهن. وقد سعت الأحزاب العقائدية، آنذاك إلى الاستثمار السياسي في الجيش عبر تشجيع محازبيها للانخراط في صفوفه. في حين فضلت النخب المدينية المؤلفة، بمعظمها من السنة، التأثير في الحياة السياسية من خارج المؤسسة العسكرية.
من أضاليل الفكر السياسي، التي ظلت سائدة على الأقل حتى هزيمة حزيران 1967 أن الجيش باعتباره المؤسسة الأكثر تنظيماً وانضباطاً وتحديثاً هو المؤهل لقيادة عملية الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وبناء الدولة الحديثة. الى ذلك فهو يمثل الوطنية الجامعة، من خلال الدور الذي يلعبه كلاحم وطني، في بلد متعدد الأعراق والطوائف والمذاهب. وأن فشل السياسيين التقليديين، في إدارة شؤون البلاد، يدعو إلى القبول بحكم عسكري رشيد، قادر على تحقيق التنمية والتحرير والتحديث.
في استراتيجية بناء السلطة الشمولية
صمِّم انقلاب عام 1970 كي يكون آخر الانقلابات العسكرية. في بلد حفل بالانقلابات العسكرية، وعرف جيشه بميله المستحكم للانفراد بالحكم. كما صممت حرب تشرين 1973 كي تكون آخر الحروب مع العدو الاسرائيلي. في بلد احتلت أجزاء من أراضيه، وارتبطت سيرة التنافس على السلطة فيه، بالقضية الوطنية والقومية. من أجل ذلك اقتضى الأمر إعادة صياغة العلاقة بين الجيش ونظام الحكم، وتغيير مهمته المفترضة، من حماية الوطن في مواجهة الأخطار الخارجية، إلى حماية النظام في مواجهة الأخطار الداخلية. على الجيش من ثمَّ أن لا يكون مكاناً لصنع القرار السياسي وتنفيذه كما هو الحال في الدكتاتوريات العسكرية النموذجية، بل يجب أن يكون مجرَّد أداة تنفيذية/ قمعية في خدمة السلطة السياسية المشخصَّة. وعلى قاعدة أن مهمة الجيش الأولى هي الدفاع عن نظام الحكم، فقد تمّ اعتماد جملة من الاستراتيجيات تجاه هذه المؤسسة أبرزها:
1 إضعاف الروح القتالية والاحترافية للجيش، وإفساح المجال لآليات الفساد للاشتغال في مفاصله، وإغراق قادته بالامتيازات، مع تكثيف لعمليات المراقبة والتدجين والتطهير للحيلولة، ليس فقط دون بروز قيادات طامحة بالسلطة، بل أيضاً للحيلولة دون نهوض أي رأي مستقل. وبالفعل تمّ خلق شريحة عسكرية عليا متميزة عن مجتمعها، لها امتيازاتها الاقتصادية والاجتماعية، وتربطها مصالح قوية متبادلة مع البرجوازية التقليدية، وتمتاز بأخلاقياتها الوصولية، وبعدها عن المناقبية، وسعيها الدؤوب للإثراء غير المشروع. ومن تبعات الإثراء غير المشروع أن يدخل أصحابه، في فلك الخوف الدائم من العقاب، ويسهل، من ثمّ التخلص منهم، حال يختل ولاؤهم السياسي، أو تستنفذ أهميتهم المطلوبة لتعزيز مبدأ الولاء الناظم. مع نهاية حرب لبنان عام 1982 كان يمكن الملاحظة بسهولة، أن عسكريي هذه المؤسسة صاروا أقرب إلى الموظفين الإداريين الذين ليس من اهتمامهم إتقان فنون القتال والعلوم العسكرية، بل تحقيق المكاسب والمنافع الشخصية.
2 سياسة التطهير ضمن صفوف الجيش سياسة ثابتة ومستمرة، ويمكن أن تتخذ صوراً مختلفة، بدءاً بأكثرها ليونة: كالنقل، والإحالة على المعاش، والتسريح التعسفي، إلى أكثرها رعباً: كالاعتقال، والسجن، والتصفية الجسدية.
هناك شبكة عنكبوتية من ضباط وعناصر، ملحقة بأجهزة أمنية متخصصة. تحصي على العسكريين أنفاسهم. خاصة القيادات العليا المتوسطة منهم. وتقدم إلى المراجع المختصة تقاريرها الدورية عنهم. وتنشر بهذه الطريقة جواً من الارهاب وعدم اليقين، يستحيل معه التفكير بخرق قواعد الطاعة المتبعة. وترصد هذه الأجهزة في الوقت ذاته، على التحركات العسكرية لجميع القطعات، وأماكن انتشارها، وتدريباتها، وتسليحها، وتمويلها.
3 العقيدة الرسمية للجيش هي عقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي. وقد حظَّر القانون العمل السياسي في صفوفه على أية جهة أخرى. عملياً تحوَّل حزب البعث، إلى جهاز أيديولوجي، يتمفصل مع الجهاز الأمني في مهامه المطلوبة لإحكام السيطرة. في هذا السياق يركّز التوجيه السياسي على أكثر العناصر شوفينية وشمولية في الايديولوجية البعثية، ومن ضمنها تعظيم القائد، ووجوب الانصياع لإرادته المطلقة. وتتطلب إيديولوجيا الولاء، فيما تتطلب، اليقظة والحذر من وجود أعداء محتملين في كل وقت، داخلياً: يمكن أن يرتدي هؤلاء، ألف لبوس ولبوس: يميني، يساري، شيوعي، اسلامي، بعثي مرتد الخ… وخارجياً هناك أعداء دائمون يتربصون بالوطن وسيده، تحدد هوياتهم القيادة “الحكيمة” في كل حين. هذا الضرب من الهيمنة الايديولوجية على المجال العسكري، معروفة لدى الأنظمة الشمولية.
4 إنشاء وحدات عسكرية موازية للجيش النظامي. انتهت لتكون أشبه بجيش خاص ضمن الجيش.هي الأقوى تسليحاً والأفضل تنظيماً وانضباطاً وإعداداً قتالياً. وقبل ذلك كله هي الأعمق ولاء وتعي جيداً دورها، في حماية النظام الحاكم من أي خطر محتمل سواء أتى من الشعب أو من الجيش نفسه. تحظى هذه الوحدات بمعاملة تفضيلية بالنسبة إلى باقي قطعات الجيش، ولرموزها نفوذ واسع وفرص رحبة للثراء. أما من حيث بنيتها الاجتماعية، فينتمي معظم أفرادها إلى أصول اجتماعية ريفية فقيرة هي الأقرب، في هذه الحال، إلى الذهنية العسكرية القائمة على الطاعة. لكن الأخطر في هذا المجال هو غلبة اللون الطائفي الواحد عليها، ضماناً لأقصى حدود الولاء. في هذا السياق تجدر الاشارة إلى أن أهم المواقع الحساسة، أمنياً وعسكرياً وسياسياً، جرى تطييفها. هذا الخيار السلطوي الواعي، يأتي في إطار استراتيجية عميقة هدفها تطييف الطائفة العلوية لصالح النخبة الحاكمة،بما يخدم تأبيد سيطرتها. أو بمعنى أشمل قبول الطائفة للسلطة كمرجعية سياسية لها، في ظل افتقادها لمرجعية دينية رسمية.
5 يمكن القول: أن تاريخ السلطة في سوريا خلال الأربعين عاماً الماضية، كان بحق تاريخ المؤسسة الأمنية. فقد تمّ خلال هذه الفترة تطوير نظام أمني متكامل قادر على المراقبة، والضبط، والتحكم، والقمع، والإرهاب، ويسيطر على مفاصل الحياة المجتمعية كافة. ويحق للسوريين التندر أن نشرات الأحوال الجوية في بلادهم، تخضع لمراقبة الأمن وتعليماته وأن “ما من دابة في الأرض” إلا وعلى الأجهزة الأمنية، مراقبتها، ومساءلتها، والتحكم بمصيرها. تعمل المنظومة الأمنية باستقلال تام عن مؤسسات الدولة، وتتسّيدها. في الواقع إن سيادة هذه المنظومة تعني نزع كلّ سيادة أخرى.
من خصائص هذا النظام الأمني: أنه يتألف من مجموعة من الأجهزة، لكلٍ منها امتداداته في طول البلاد وعرضها. تراقب، فيما تراقب، بعضها البعض. وتتنافس على الولاء والطاعة. وتنتهي خيوطها الرئيسية عند “الشخص” سيد البلاد وما عليها. وعلى الرغم من جبروتها مجتمعة، إلا أنها عاجزة بحكم تعددها وتنافسها، عن العمل بشكل مستقل لحسابها أو لحساب جهة أخرى.
المبدأ الناظم لهذه الأجهزة مبدأ “صفري” يقول: كل من ليس معنا، فهو “بالقوة” أو “بالفعل”ضدنا. وعليه فالمجتمع بسائر فئاته وأفراده، هم أعداء محتملون. ولا شيء يجعلهم تحت السيطرة، ويحول دون تآمرهم، سوى العنف بمختلف صوره. فالعنف هو خالق الأشياء ومسيرها. في هذا النظام الأمني تعثر على الولاء بصفائه الخالص. وباعتباره معياراً لكل شيء في الفلسفة الأمنية، فلا قيمة أو أهمية، لأية كفاءة في أي مجال من مجالات العمل، إن لم تكن مشفوعة، بولاء صاحبها، مهما خلق ذلك من أضرار محتملة. وعلى المسؤولين في الدولة على اختلاف مواقعهم أن يثبتوا ولاءهم “للعقل الأول”، بتوسط أجهزته الأمنية.
قد يقال إن هذا النظام الأمني لا يحتاج إلى قوانين تكون دليلاً له، طالما أنه يقع خارج دائرة المساءلة القانونية فيما يعمل. في الواقع يبدي هذا النظام التزاماً وانضباطاً فيما يخص لوائحه الداخلية. لكنه يحتقر القوانين الوضعية الموجودة. وهو على استعداد دائم لخرقها، والاستهتار بأية عواقب، قد تترتب على المصلحة الوطنية جراء ذلك. على أية حال هناك ترسانة من المراسيم والقوانين الاستثنائية صيغت خلال نصف قرن مضىت شكل دليلاً له. لكنها لا تمنع الاعتباط في الممارسة، حيثما تطلبت المصلحة الأمنية العليا ذلك.
فيما يخص الأصول الاجتماعية، والمكون الطائفي لهذه المؤسسة، لا أريد أن أكرر ما قلته سابقاً، بخصوص الوحدات العسكرية الموازية أو بخصوص الجيش. فقط أود الإشارة إلى أن مستوى أدنى من الولاء ما قبل الوطني، هو الولاء العشائري/الطائفي كان من ضمن الولاءات المعتبرة، عند قسم هام من هذه الأجهزة، لفترة طويلة من الزمن.
الثورة والعسكر
إن نجاح الثورة السورية والربيع العربي عامة، يعني القطع التاريخي الكلي والشامل، مع حكم العسكر. إنه بداية حقبة جديدة في تاريخنا السياسي، تؤسس لعلاقة صحيحة بين الجيش وبين السلطة. الأمر الذي يعني قيام دولة ديموقراطية حديثة ونظام سياسي، يقوم على مبدأ التداول السلمي للسلطة، عبر صناديق الاقتراع. وعلى أساس ضرورة التمييز بين السيادة والسياسة، بين الدولة والسلطة، يمكن القول: أن السياسة في هذا النظام هي حقل للتنافس السلمي المدني على السلطة، لا مدخل للجيش عليه. بينما يعتبر الجيش مؤسسة من مؤسسات الدولة السيادية، لا مدخل للتنافس السياسي عليه. وهو ليس أداة قهر بيد السلطة إنما يمارس مهامه المنصوص عليها في الدستور، والمحددة في الدفاع عن الكيان والدولة، في مواجهة الأخطار الخارجية. هذا التحديد الدقيق لدور الجيش في الدستور، هو شرط لازم لكن غير كافٍ، للحفاظ على مدنية الدولة، وعلى مؤسساتها المنتخبة ديموقراطياً.
لا بد من العمل على استنهاض المجتمع المدني، وبعث الحيوية فيه، وتثقيف الجيش بقيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان عوضاً عن بؤس العقيدة البعثية. وإطلاق حرية العمل الحزبي والنقابي، وصون الحريات، وفصل السلطات، واستقلال القضاء، إلى غير ذلك من مرتكزات الديموقراطية. إن النجاح في كل ذلك هو الضامن لمنع عودة العسكر سيرتهم الاولى، الأمر الذي إذا ما حدث سيعتبر فشلاً ذريعاً للثورة.
ليس النموذج “الكمالي” هو ما تتطلع إليه جمهورية سوريا الديموقراطية. إنها تتطلع، كما قلت، إلى قطع تاريخي مع تدخل العسكر في شؤون الحياة السياسية والمدنية. لا نريد جيشاً حارساً لإيديولوجية الدولة حتى لو كانت علمانية. فالدولة يجب أن تكون حيادية تجاه العقائد والايديولوجيات على اختلافها. لا بد من الاجتهاد في تطوير مؤسسات المجتمع المدني والسياسي، وفي تقوية المؤسسة القضائية والحفاظ على استقلالها، وتعزيز رقابة المجتمع المدني والاعلام الحرّ. حتى الآن ما زال يخيم على الجمهورية التركية شبح الانقلابات العسكرية، وتدخل الجيش في مجمل العملية الديموقراطية. يجب تجنب ذلك.
غداً ربما تسهم ذكرى الصراع الدموي مع المؤسسة العسكرية، في تحررنا السريع من الوهم الايديولوجي حول الدور الوطني للجيش في أنظمة الحكم الشمولي. وفي المساعدة لاحقاً في بناء مؤسسة عسكرية سيادية، في ظل عقد اجتماعي جديد.
آمل أن يتحقق ذلك بشكل ناجز. وتكون جمهوريتنا الديموقراطية الموعودة،جواباً على السؤال: عسكر على مين؟ «عسكر على مين؟ لبنان الجمهورية المفقودة» كتاب للشهيد سمير قصير