الحركة هادئة على الجهة التركية من نقطة الحدود التركية السورية، وضباط النقطة متسمون بأناقة ”لا بأس بها”، مع تعبيرات وجهية لا ملامح فيها. أما من الجهة السورية فكان عناصر الجيش الحر هم المسيطرين على المعبر تماماً. كانوا ودودين جداً يملؤون المكان صخبا يترافق مع حد أدنى من التنظيم، يتم من خلاله تسيير إجراءات المرور للداخلين إلى سوريا ”الجديدة”، بسلاسة تبدو غريبة في ظل وجود دفتر للتسجيل يرثى له الحال، وبضعة أختام لمّا تزل تعمل، رغم الحبر الفائض على الأطراف، وكمبيوتر ”أوحد” يظهر ”الويندوز العربي” بفجاجة قلّ نظيرها. بعد ذلك تنفتح الأرض على جانبي الطريق على سهول وحقول واسعة، ترتمي عليها أشجار الزيتون بتناسق لبق. ماهي إلا نصف ساعة ونيف حتى تستقبلك شاهدة كتب عليها ”اعزاز مقبرة الدبّابات”، يليها بقليل يجد الزائر نفسه أمام الجامع الأشهر عند مدخل المدينة، حيث مسرح إحدى أكبر المعارك التي خاضها مقاتلو الجيش الحر و أبناء المدينة في موقعة التحرير الشهيرة.
تبدو إعزاز هادئة للزائر، لا تثير كثيرا من الفضول ”السياحي”، وإن بدت أنها تخفي أكثر مما يجب وتحجب أكثر مما يتوقع، بمظهر لا يوحي بأن جهنّم كانت حاضرة هنا منذ عشرة أيام. إذ لم تشهد المدينة صدمة على قدر كبير من العنف كتلك التي شهدتها يوم القصف الرهيب. فبعد ظهر يوم صيفي بقليل، في السابع و العشرين من رمضان، عند انتصاف أغسطس، حدث شيء صاعق مازال حديث الساعة في أطراف المدينة و زواياها. “فجأة صار الهوا يرجّ، بعد هيك سمعنا صوت عالي كتير و قوي، وإجا وراه إنفجار كبير لهلق بعدو الصوت ما راح من وداني!” بهذه الكلمات حدثنا رياض، الذي كان يبعد عن موقع الإنفجار بحوالي كيلومتين، مستعيناً بذاكرته التي أصابها العطب مذّاك. بعد صمت لبرهة أردف قائلًا ”هلق بعدين عرفنا إنو طيارة” و”بلّشت الناس تركض على المنطقة اللي صار فيها الإنفجار”. ورغم الروايات الكثيرة عن ماهية الطريقة التي تم فيها القصف، إلا أن هناك إجماعاً على أنه قبل الفطور بنحو ثلاث ساعات وعند القيلولة المعتادة في أواخر رمضان الحار والقاسي أغارت طائرة ”أسدية” مقاتلة على المدينة وألقت على منطقة سكنية في وسطها قنبلة مدمّرة، قيل أنها تدعى ”بالقنبلة الفراغية”، مخلّفة أضراراً بشرية كبيرة، فضلا عن دمار وهلع بالغين. في البدء كانت الحصيلة 50 قتيلًا و 100 جريح. اليوم يحدثونك عن 115 شهيد و أكثر من 400 جريح، جراح بعضهم خطيرة للغاية. لقد كانت مجزرة بكل ما تعنيه الكلمة، أطفال ونساء وعجّز ”عجنوا” ببعضهم البعض، بيوت كاملة سويت بالأرض. بضع ثوان كانت كافيات كي يرتسم مشهد قيامي مرعب. إن زيارة الموقع تشكل صدمة بحد ذاتها. فأي قوة تلك التي ”طحنت” الحجارة وجعلت الأسقف البيتونية كالورق المقوّى، تتفتت بهشاشة كسرات الخبز!
اعزاز بعد القصف الرهيب ليست هي نفسها قبله. رغم التنذّر المرّ حول ”دعاية” الإعلام الرسمي عن ”الزلزال” الذي ضرب المنطقة، بأنه زلزال ”أضلّ طريقه”، إذ أتى من السماء هذه المرة، كما سخر أحد الناشطين، إلا أن الخوف من تكرار ”هيروشيما” الأسد المصغّرة يعتمل في نفوس الكبار قبل الصغار. يخبر الأهالي أنه في فجر اليوم الثاني قامت طائرة أسدية بـ”مزحة” ثقيلة سمجة وحلقت على علوّ منخفض جداً، خارقةً جدار الصوت دون أن تلقي أية قنبلة أو صاروخ. هرع الجميع بنسائهم و أطفالهم في تلك الساعة المبكرة إلى الفلاة والحقول المجاورة، أخبرني المرافق ”أيسر” بأن بعضهم قرر البقاء هناك حتى اليوم! أما من بقي من السكان في البلدة فيعاني من قلق و ترقب دائم من تكرار الإعتداء الرهيب، فضلاً عن معاناتهم مع الأطفال وخاصة في تلك الأحياء القريبة من الموقع حيث مازال صدى المجزرة يرجع في حنايا الذاكرة وفي آلام الأبدان أيضاً. محمد الصغير يبلغ من العمر ثلاث سنين، قفز من هول الإنفجار ومضى يدور حول نفسه في هياج كبير قبل إن يتلقفه أبوه والرعب يأكل روحه. ”من شدة الضغط صار ينزف من أنفو والله يا جمال، لليوم بينزف ومالنا عارفانين إشو نعمل فيه”، يتحدث أبوه بكلمات متعبة ومثقلة على اللسان. عندما بدأنا بالدخول إلى المنزل البسيط وفنائه الظليل الذي لا يبعد كثيراً عن مكان القصف بدأ الصغير محمد ”فاصلاً” من البكاء والصراخ، واعترته نوبة شديدة من الغضب، لم تستطع كل أساليب ”الرشوة” المحلّاة بالشوكولاه والسكاكر تهدئته، إلى أن أعياه التعب وأغرته وجوه الزوار الغرباء. أما هدى ذات السنوات الخمسة فحالها حال آخر، إذ صودف أن كانت خارج المنزل في لحظة القيامة تلك عند دار جدتها تسبق أهلها إلى الفطور الرمضاني، بعد الإنفجار بساعات تجمعت كالآخرين عند المكان فلم تجد أثراً للمنزل، فصرخت متجهة صوب عمّها ”يا عمو سرقوا بيتنا”، و لمّا تزل هدى تعتقد بأن البيت مسروق حتى هذه اللحظة!
هل كان هناك المخطوفون اللبنانيون يا ”أيسر”؟ سألت مرافقنا على طريق العودة. أظهر عندها ابتسامة لم يكن فيها شيء من الخبث. ”بشرفك بدينك هادا محل منيح لتخبي في مخطوفين متل هيك!!” أجابني بحدة ”ودودة”. وماذا عن الأخبار حول مقتل عدد منهم في الغارة؟ ”و الله يا جمال الناس بتكذب بنيسان، إحنا هون بأعزاز منكذب إيمتا ما بدنا وشقد ما بدنا”، أجابني قبل أن نطلق سوية ضحكات ”إجبارية” فيها من السأم والمرارة ما يكفي. ليس هناك من أسباب واضحة تفسّر إقدام النظام على تلك الفعلة بسلاح يعتبر من ”أسلحة الدمار الشامل” ضد منطقة سكنية ليس فيها مسلّح واحد. البعض أشار إلى خطوة إنتقامية بحتة أتت على إثر تحرير اعزاز وتعبيد الطريق أمام تحرير بقعة استرتيجية يصل مداها إلى الحدود الشمالية، فيما تحدث آخرون عن تهديدات تلقّاها أبناء المدينة لمشاركتهم في معركة حلب القائمة حتى اللحظة. فالرائج أن معركة حلب يديرها أبناء ريف حلب وبلداته المنتفضة، وهكذا تبدو المسألة وكأنها صاع بصاع ودين بدين! بغض النظر عن الأسباب، وهو ليس بحاجة إليها على كل حال، يبدو أن نظام الأسد بما يمثله من عنف ساطع وفاقع يتابع هذياناته بمماثلة الآلهة ولكن بتحوير صغير، إنه ”لا يمهل ولا يهمل”!
أصبح مكان الإنفجار قبلة الزائرين، ومشد رحال العابرين والسيارة أجمعين، الفضوليين منهم والمهتمين. فيما يبدو أن السكان أو من بقي منهم، قد تعودوا على مشاهد الوفود و الأفراد و خاصة رجال الصحافة الغربيين، أولئك ”الثرثارين” المدجّجين بكاميراتهم وملابسهم غير المتكلّفة وأسئلتهم الفجّة. ولكن في بعض الأحيان تتحول النظرات العابرة إلى أسئلة ملومة واستنطاق يعكس مافي نفوس الأهالي من غضب من الجميع. فما أن بدأنا بمغادرة ”مربع” الإبادة وإذ بأحد الرجال في منتصف العمر يجلس على ”دراجة نارية” يتقدم منا، وقام بمبادرتنا بنبرة فيها قليل من العدائية”شو عم تعملوا هون؟ عم بتتاجروا فينا وتروحوا تعملوا برامج وتبيعوهن وكله على حسابنا؟”. وأضاف ”أنا كنت بأوروبا وبعرف الصحفيين شو بيعملوا، إحنا مالنا للتجارة يا عالم، إحنا بشر يا الله!!”. كان يرتفع صوته كلما تقدم في سرد معرفته ”العميقة” بـ”نذالة” الصحفيين فيما كان الشرر يتطاير من عينيه الحادتين، الطافحتين بالدموع. أحسست أنه كان على وشك الإنفجار، فالتفتُّ إليه مبدياً إهتمامي بسماع ما يدلي به، فيما بدأ إثنان من الصحفيين الألمان التملص رويًدا من الموقف والإختباء في السيارة مع بعض ”القذائف” اللغوية بعربية ركيكة ”يلا، يلا”! كان كلام الرجل كله يدور حول نقطة واحدة: أنتم تأتون وتتصورون وتذهبون ونحن لا يأتينا شيء وليس هناك من مساعدات، لا إنسانية ولا غيرها! وفي معرض حججه، روى بأنه شاهد صحفيين من ”قناة الجديد” يقومون بالتصوير في الموقع قبل يوم واحد من القصف، وبدأ يكيل لي السؤال التالي بعدائية واضحة:إش كانوا عمبعملوا هون يا خاي؟”، ”عب تصورونا منشان تقصفونا؟”. كل محاولاتنا لتوضيح أننا لسنا صحفيين وبأن الصحفيين ليست لهم علاقة بالإغاثة قد باءت بالفشل. بعد قليل بدأ التجمهر حول الرجل وبدأت تتعالى الأصوات المنددة بكل زائر في جو مشحون تماًما. عندها حدث شيء ”مثير”، إذ تدخّل صديق لي أتى مرافقا لصحفي ألماني، لديه ميزة لا نملكها: الأخ من درعا…! عندها صاح في وجه الرجل معًاتبا على طريقته في الكلام وفي الشك فينا مع أننا سوريون مثله! وبلهجة ”درعاوية” خالصة، أتمّها بتعريف مختصر و واضح تماما: أخي أني من درعا وجينا ت نزوركو هون!عندها اختلف الموقف 180 درجة، استبدلت الاتهامات والنظرات بأمارات الودّ والترحاب وبدأنا نسمع من الرجل ”المرغي والمزبد” قبل قليل عبارات غاية في التسامح ”إنتو بتمونوا يا خاي”، ”الله محيي درعا وأهل درعا”. فُضّ الموقف في ثوان معدودات وأتت الابتسامات على الوجوه المتعبة، وذهبنا كل في طريقه نحمل شيئاً ما. شعرت وكأن السوريون يقومون بين الفينة والأخرى بإجراء ”بروفات للتعارف الوطني” لا تخطئها عين، يتبادلون من خلالها احتراما جديد ”العناوين” إزاء بعضهم البعض، يختلف عن ”إستراتيجيات المواجهة” الممزوجة بالخوف والتملّق التي ورثوها عن آبائهم في أزمنة ”الأسود” التعيسة!
لا يستقيم شدّ الرحال إلى اعزاز ما لم تتم زيارة مقبرة الشهداء الذين أتت عليهم ”غزوة الأسد” الغادرة. يصطف الشهداء في مثواهم الأخير بترتيب يبدو أنه أُخِذ على عجل بغية إكرامهم أسرع ما يمكن. وصلنا المقبرة ليلًا، أضائت فلاشات الكاميرات اللُّحُود التي ليس لها عناوين. ”والله دفنا رجلين وإيدين وروس ما منعرفن لمين، حطيناهن قدام بعض وعلى الله” حدّثنا أحد الشباب المتواجدين هناك.هنا لا يملك المرء إلا الصمت العميق، بعدها صدحت كلمات الفاتحة بتلقائية وأنهِيَتْ بـ”آمين”. في اليوم التالي كان عليّ المغادرة. بمرافقةٍ من أحد شباب الجيش الحر أخذنا نفس طريق العودة ومررنا ب”متحف” الدبابات المدمّرة، قررت أن أنزل لألمس دبابة للمرة الأولى في حياتي، إقتربت من واحدة محطمة ثم اتجهت صوب مدرعة أخرى متفحّمة إلا بقعة مكتوب عليها عبارة موجزة حدّ البداهة ”حفظ النظام”!
غادرت ”اعزاز” تاركا همّا ومزيجا من صور وذكريات، حطام ودمار وشهداء، أطفال تائهين ومتعبين، وأناس طيبين وأحرار، عازمين على المضي في الطريق الذي اختاروه. أول ما نويت أن أقوم به هو تحسين ”جهلي” بعلوم الفيزياء عامة و”طلاسم” القنبلة الفراغية خاصّةً. وبينما كان يصدح صوت ”القاشوش” في السيارة المسرعة صوب الشمال، كانت تتردد في مسامعي أغنية أخرى تماما، إنها أغنية العراقي ياس خضر الشّجية ”مسافرين… وعيني مشدودة ل دربكم…“