ليس المؤتمر المُزمع عقده في دمشق الأحد القادم أولَ من يحمل عنوان “إنقاذ سوريا”، ويؤسف قول أنه لن يكون الأخير على ما يبدو، ﻻ لجهة تحقيقه الإنقاذ المطلوب، وﻻ من جهة توقّف نزيف مصداقيّة المعارضة السياسيّة السوريّة أمام شعبها أولاً، وأمام العالم أجمع ثانياً. أيّ فرقٍ سنجد بين المؤتمرات التي كانت والمؤتمر الذي سيكون؟ هناك فرق المكان، الخارج في الحالة الأولى، دمشق في الحالة الثانية. لكن، أيّ مفعولٍ سيأتي من عقد مؤتمرٍ لمعارضة الداخل تحت حراب النظام وسطوته؟ ما معنى استمرار استخدام التقسيم الواهي بين “معارضة الداخل” و”معارضة الخارج”، لغوياً وسياسياً؟ ﻻ “معارضة الداخل” داخليّة مكاناً وسياسة فعلاً، وﻻ “معارضة الخارج” تغنّي وحدها وراء البحار دون صدى في الداخل. فوق كل هذا هناك جوهر مشترك في كلا المعارضتين: بؤس الأداء ورداءة المنتوج.

بين الكثير من الإنشاء والقليل من الإيجاز، يصعب على المرء أن يجد عنواناً عريضاً ذا محتوى سياسي ملموس في مناخ المؤتمر والقائمين على تحضيره غير أنه سيُعقد في دمشق، ما قد يبدو وكأنه نكاية بمن ﻻ يستطيع المجئ إلى دمشق أكثر مما هو تحدّ للنظام، ويُرافق هذا العنوان في كثيرٍ من الأحيان بغمزٍ حول أن مكان الانعقاد يمنح المؤتمر ثقلاً وطنياً ﻻ تمتلكه المؤتمرات الأخرى التي انعقدت وتُعقد هنا وهناك، وربما كانت هذه الفكرة حمّالة أوجه في الفترات المبكرة جداً من الثورة السوريّة، حين لم يكن من السريالي بالكامل الحديث عن بصيص أملٍ في أن ينحو النظام باتجاه حلّ سياسي داخلي، لكن هذا ﻻ يصح اليوم، فنظامٌ قتل زهاء ثلاثين ألف شهيد ودمّر العديد من المدن وشرّد سكانها واعتقل عشرات الآلاف لن يسمح بعقدِ مؤتمر معارض تحت سمعه وبصره إن شكّ أنه مناوئ لمصالحه (وﻻ ننطق كفراً بالقول أن مناوءة مصالح النظام يُفترض أن تكون غاية وهدف أيّ معارض)، بل ويمكن الاعتقاد كذلك، بمراجعة طباع وطبائع هذا النظام، أن عقد هكذا مؤتمر لن يتم لو لم يقرأ النظام إمكانيّة اﻻستفادة منه.

تواجه الهيئات المعارِضة المنضوية في هذا المؤتمر إشارة استفهام كبرى: أترضى لنفسها فرز النظام لها بوصفها “عقلانيّة ووطنيّة”، حيث يُسمح لها أن تجتمع وتمارس نشاطاتها بشكل علني، مقابل معارضة “متشددة ومتآمرة ومستقوية بالخارج” تُقمع بقوّة وبشراسة؟ ليست المعضلة فقط في أنك تتقبّل شهادات وطنيّة وعقلانية من طرف يفتقد شرعيّة منحها، ولا أنك ﻻ تمانع في أن تكون عنصراً في معادلة “عقلاني نقبله، متشدد نسحقه” تفضي إلى شرعنة قمع معارضين آخرين (وهنا لا علاقة بالعقلانية وعدمها بالعنف، فالمقابر والسجون مليئة بناشطين معارضين لم يحملوا سلاحاً ضد أحد، وبعضهم لم يخرج حتى في مظاهرة). هناك معضلة سياسيّة بحتة: من المحتم أن يكون هناك خطأُ ما عندما يكون خصمك هو أول مادحيك، خصوصاً حين نتحدث عن خصم يشبه نظاماً استبدادياً كالذي تعانيه سوريا.

ثمة إشارة استفهام كبرى جديدة فيما يخص الرعاية الدوليّة المفترضة للمؤتمر، حيث أن بعض الجهات تحدثت عن غطاء روسي ومباركة صينية لعقد اللقاء في دمشق. على المرء هنا أن يتساءل حول مغزى الغطاء والمباركة من جهتين داعمتين للنظام السوري، ليس فقط من حيث المنفعة السياسية لهما ولشريكهما من إظهار أن هناك، على عكس ما يقوله “المتآمرون”، هامش للعمل السياسي المعارض السلمي، وبالتالي ﻻ معنى لكلّ ما يحدث من مطالبات برحيل نظامٍ ﻻ يقمع، والدليل تسامحه مع المؤتمر، بل أنه يدافع عن بلاده من “عدوان خارجي” أحد عناصره “معارضة خارجية”. ولهذا، ربما، تكثر السياسة والإعلام الروسيين والصينيين من التركيز على الفرق بين معارضة داخلية وخارجية.

لماذا يُقبل غطاء جهاتٍ لم تتدخل لدى النظام السوري حتى لإطلاق سراح المعتقلين؟ إما أنها لم تتدخل لأنها ﻻ تستطيع، وبالتالي يصبح الاعتماد على غطائها السياسي لعقد المؤتمر تعلقاً بأوهام، أو أنها لم تتدخل لأنها ﻻ تريد، وبالتالي يكون الاعتماد عليها عديم الأخلاقيّة، ﻻ سيما حين نتحدّث عن جهاتٍ، كهيئة التنسيق، يكثر فيها المتطوعون لإعطاء دروسٍ في الوطنية والأخلاق للغير.

ليس اتهامُ أحدٍ بشيء هو قصد هذا النقد، ومن المؤسف الاضطرار دوماً للتأكيد على أن نقد الأداء السياسي لهذه الجهة أو تلك ﻻ يعني اتهامها بالعمالة للنظام أو لأي جهة أخرى، لكن المناخ المفروض من قبل هيئة التنسيق وطيفها يحتّم توكيد هذه المسألة، سيما وأن الناطقين باسم الهيئة غير بريئين من اتهام مناوئيهم من المعارضين بالعمالة لجهات خارجيّة، وليس من المعتاد أو من المتعارف عليه أن يمرّ نقدٌ لأدائها دون هجومٍ مضاد أو غمزٍ أو مزاودة وطنيّة. في هذه المسألة ليسوا أسوأ من غيرهم في المعارضة، وهذه هي النقطة تماماً: ليس لديهم أسباب وأسس لإظهار التعالي الذي يمكن استشعاره في نظرتهم لسواهم من المعارضين. هل من الممكن أن يمرّ نقدٌ رافض للمؤتمر الوطني لإنقاذ سوريا دون أن يتم اتهامه بأنه يرفض إنقاذ سوريا؟