رغم الصخب الإعلامي المصاحب للربيع العربي، لم يؤد تغيير الأنظمة في كلٍ من تونس ومصر وليبيا واليمن إلى تبدل في موازين القوى الإقليمية والدولية بين المحاور المتنازعة في المنطقة، مما يفسر ضعف الممانعة الدولية لهذا التغيير، بل وترحيب بعض القوى الدولية به.
المسألة تبدو مختلفة وأكثر تعقيداً في الحالة السورية، فحجم تشابك المصالح للنظام السوري مع دول فاعلة إقليمياً ودولياً، والنفوذ الذي يملكه على قوى وتشكيلات مسلحة تحت دولتية، وما اصطلُح على تسميته بالدور السوري في المنطقة، ينبئ بزلزال في المشهد الإقليمي في حال تغيير النظام.
هذا الدور كان لفترة طويلة إحدى ضمانات بقاء النظام وبديلاً عن شرعيته، فالأنظمة العربية على اختلاف أشكال الحكم فيها امتلكت أصنافاً مختلفة من الشرعية تراوحت بين تطور المشيخات القبلية إلى دول مع الاحتفاظ بذهنية الحكم القبلي، وبين شخصيات وأحزاب قادت عملية الاستقلال عن الاستعمار الخارجي، وبين ضباط كارزميين قاموا بانقلابات عسكرية على أنظمة هشة وامتلكوا شرعية إعادة توزيع الثروة وخطاب العداء لإسرائيل والغرب عموماً.
وبينما حافظ الصنف الأول على عوامل شرعيته، رغم موجتي تصادم مع الفكر القومي العربي ومع الإسلام الجهادي، اضمحلت عوامل شرعية الصنفين الآخرين مع الزمن نتيجة فشلها في تقديم أدنى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، كما فشلت في تقديم صورة الدولة الوطنية تامة السيادة العصية على العدوان، واشتركت كافة الأصناف في تقديم أسوأ نماذج الحكم السلطوي وغياب الحريات السياسية، وإن بتفاوت في الدرجات.
وفي الدول التي شملها الربيع العربي حتى الآن، باستثناء سوريا، كانت أدوار أنظمة الحكم فيها متقزمة. فمن حارس للعلمانية في تونس، إلى وسيط في التفاوض الفلسطيني–الإسرائيلي في مصر، إلى استعراض فارغ في ليبيا، إلى ممانع مشكوك بأمره لتمدد القاعدة في اليمن.
أما النظام السوري، فرغم النكسة التي أصابت دوره الإقليمي بالخروج المهين من لبنان، إلا أنه نجح في التعويض جزئياً بعد حرب تموز عام 2006، بالإضافة إلى نفوذه في الساحتين الفلسطينية والعراقية، وتحالفه الوثيق مع إيران، مما رسّخ دوره الإقليمي مجدداً. هذا الدور شكّل شبكة الأمان التي حمت النظام من التدخل الدولي تحسّباً لمفاجآت غير مستحبة في حال تغييره.
هذا التحدي لم يكن في الحسابات الأولى للثورة السورية، التي طرحت في شعاراتها المختلفة العودة إلى أصول تشكل الأنظمة، وهي الشرعية وليس الدور. الشرعية المطروحة هنا هي صندوق الاقتراع وما ينتج عنه من موازين أكثرية وأقلية سياسييَن، وهي ليست بدعة غير مسبوقة في التاريخ السوري، بل مُمارسة لسنين ما قبل البعث وبين فواصل الانقلابات العسكرية المختلفة. هناك إذاً مرجعية للشرعية الديموقراطية تلك، وهناك حنين غامض لجيل لم يعايش هذه التجربة برموزها كافة، وهذا يُفسر مثلاً استحضار علم الاستقلال ذو النجمات الثلاث كرمز لتلك المرحلة وهذه الشرعية.
مرور الوقت الثقيل للصراع في سوريا بين الثورة والنظام، ونتيجة مواجهتها بآلة بطش وتنكيل لا ترحم، حُوّر الكثير من شعاراتها، وتعددت مراكز الأفكار والنفوذ فيها، وفقدت قدراً من جاذبيتها ونقائها، مما أدى بالبعض من مكونّاتها إلى التجرؤ بالسطو مجدداً على هذه الشرعية بذريعة الدور مرّة أخرى.
والدور المفترض هذا هو المشاركة في النضال من أجل التحرر من النظام الاستبدادي، وظهرت هذه الرغبة مؤخراً في محاولة المعارض السوري هيثم المالح تشكيل حكومة انتقالية كلّفته بها هيئة أمناء الثورة التي يرأسها شخصياً، وأظهرت ردود الفعل المنتقدة لهذه الخطوة من قبل التشكيل السياسي المعارض الأبرز، المجلس الوطني، ومن قبل شخصيات وتشكيلات معارضة أخرى، أن هذا الإعلان من قبل السيد المالح قد جرى من دون تنسيق معها.
وتلا ذلك إصدار القيادة المشتركة للجيش السوري الحر في الداخل لمشروع مرحلة انتقالية يتضمن تشكيل مجلس أعلى للدفاع يتألف من عسكريين حصراً، ويقوم هو بتشكيل مجلس رئاسي وحكومة انتقالية حُدّد أيضاً عدد مقاعدها وتوزيعها ومنها حصّة وازنة له فيها.
وهكذا لم تكتفِ هذه القيادة بالعمل دون تنسيق مع باقي مكوّنات المعارضة، كما فعل السيد المالح، بل زادت على ذلك بالتأسيس لمحاولة هيمنة عسكرية لمجموعة من الضباط المنشقين وبعض قادة الحراك المسلّح على مستقبل السلطة في سوريا، رغم كل ما يمكن أن يثير هذا الفعل من حفيظة عموم السوريين، سواء المدنيين منهم المشاركين في الثورة ضد ما يعتبرونه حكما عسكريا بالأساس، أو المترددين والمبتعدين بأنفسهم عن الحراك الثوري.
يمكن القول طبعاً أن الغرض من هذه المبادرات هو سدّ الفراغ السياسي الذي يمكن أن ينتج عن انهيار فجائي للسلطة الحالية وتقديم البديل الجاهز للمرحلة الانتقالية، وخصوصاً أن كلا المشروعين ظهر بعد دعوة وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس المعارضة السورية لتشكيل حكومة انتقالية، مما يشي بأن هذين المشروعين كانا موجّهين للخارج أكثر مما للداخل.
ورغم وجاهة طرح الحكومة الانتقالية والتعثر السياسي المستمر للمجلس الوطني وباقي التشكيلات في إعلان مبادرة سياسية تطمئن السوريين والعالم حول معالم المرحلة الانتقالية ومستقبل البلد بعد سقوط النظام، إلا أن المشروعين المذكورين افتقرا إلى حد أدنى من الإجماع السياسي والدعم الشعبي، كما افتقرا بشكل أخصّ إلى عامل الشرعية الانتخابية أيضاً.
هنا مرّة جديدة يظهر نموذج بلدة كفرنبل. فهذه البلدة، التي أدهشت السوريين والعالم بمضمون لافتاتها التي ترفعها في المظاهرات، أعلن أهاليها عن التحضير لانتخابات مجلس محلّي يقوم بإدارة الشؤون البلدية لها. ولحقتها بلدة الباب في ريف حلب في نفس التوجه.
هذه الانتخابات العتيدة في كفرنبل والباب قد يتجاهلها أغلب أقطاب المعارضة السورية، وبالتأكيد سيتجاهلها النظام أيضاً ويعتبرها غير شرعية، فشرعيته قائمة على التعيين وليس الانتخاب.
ولكن بمعزل عن التجاهلين، سيعني نجاح انتخاب كهذا إمكانية تعميمه على باقي القرى المحررة والعودة للشرعية التمثيلية القائمة على صندوق الانتخاب الحقيقي، والذي حُرم منه السوريون طويلاً، وسيعني أيضاً التأسيس لسلطة جديدة في البلد التمثيل السياسي فيها قائم على الخيار الحر للناس بين متنافسين بعيداً عن أي دور مهما كانت أهميته.
كفرنبل والباب تنشدان اليوم أغنية العودة إلى الشرعية، وما أحلى شدوهما!