مسألة اللاجئين هي بلا شك إحدى أهم تداعيات العنف الشامل الذي حوربت به الثورة السورية وأحد عناوينها الأكثر مدعاة للألم. بل لم تعد حال اللاجئين “مسألة” بقدر تملّكها عناصر المأساة كاملة بلا نقصان. ويبدو أن التفريق بين النازحين واللاجئين لا يعدو عن كونه لعبة “لغوية” ماكرة، لا تعيد الدار ولا تخفّف الإحساس العميق بالمرارة، إلا أن للمناطق “شبه” المحررة سحر “إنساني” ما، يغوي أولئك المكرهين على ترك بيوتهم وبلداتهم ومدنهم بشد الرحال حيث تيسّر، مما خفّ حمله وفاض همّه. “هلق إشو الفرق بين النازح و اللاجئ إزا كلّه بالهوا سوا يا خيو!” يتسائل رب أسرة ردا على سؤال لم يألفه السوريون طوال تاريخهم الحديث بإستثناءات قليلة (كما هي الحال عند مهجري الجولان المحتل مثلا!). رغم ذلك يصر “مهووسو” المصطلحات على إلصاق أولئك الذين غادروا حدود الوطن السوري صفة اللاجئين، بينما ينعم الآخرون داخل “الأسورة” بصفة النازحين، فيما تكفّلت طبائع الاستبداد الشامل بوسم سيئي الحظ التاريخيين بالحسنيين دفعة واحدة “اللاجئين النازحين!” (الفلسطينيون السوريون مثلاً).
ما زالت مسألة اللاجئين في المناطق المحررة (التي وصلتُها على الأقل) تدار بعفوية “منتظمة”، فحتى الآن لا توجد هيئة “مؤسساتية” الطابع تعنى بشؤون العائلات التي آل وضعها إلى النزوح أو اللجوء إلى تلك المناطق، مع بعض المبادرات الفردية والأهلية، دون تفردها بشيء من التنسيق أو التنظيم العالي المستوى. في إحدى البلدات كان هناك ما يشبه جمعية صغيرة تم تأليفها بمبادرة من “خطيب الجامع”، الذي تعرض لحادثة خطف واعتقال على يد شبيحة النظام، نجا فيها من الموت بأعجوبة، بعد اعتقاد “خبراء” الموت أنه قد فارق الحياة. رغم صوته المتهدج وملامحه الوجهية التي طالتها الرضوض العنيفة، يخبر “أبو علي” بأنهم مسؤولون إلى حد كبير عن متابعة أوضاع اللاجئين في البلدة. حيث يعمل معه فريق من المتطوعين يصل عددهم إلى الثمانية عشر، ويتناوبون على المكتب البسيط والمجهز بدفتر للبيانات وكمبيوتر لا بأس به. “إحنا عايشين على الأجاويد يا ابني. الناس ما عم بتقصر بالمساعدة، بس الناس اللي هون نفسهن حالهن عالقد، فكيف إذا كان عندك 600 عائلة زيادة؟! من وين بدك تجيب لهن يا إبني”. يجيب أبو علي ضارباً كفا بكف عن سؤال يتعلق بالإمكانيات المادية والتمويل. يحاول فريق هذا المكتب البسيط تسجيل اللاجئين وتعداد الأطفال لدى العائلات، بالإضافة إلى توثيق لحالات المرض والجرحى التي تستدعي تدخلاً طبياً “غير موجود” على الأغلب. هنا يمكن تزكية الحالات التي يتوجب نقلها إلى المشافي والمراكز الطبية في تركيا، ليصار بعدها بالتعاون مع كتائب الجيش الحر إيصالها إلى تلك المراكز التي تعج بالبؤساء وأنينهم في الغرف والممرات المكتظّة. يصر أبو علي على تسجيل كل شاردة وواردة وخاصة ما يأتيهم وأين يذهب، من أكياس الرز والبرغل وصولا إلى علب السردين و المارتديلا. “هيك أخي أفضل وأضمن، والله السرقة هلكتنا يا جمال”، يعلق أحد الشباب المتواجدين هناك. وبينما كنت أتصفح دفتر التسجيل الكبير، دخل أحد الأشخاص يبدو متقدماً في السن، ومعه كيسان كبيران من الأرز، طلب من أحد الشباب إنزالهم من السيارة. وعندما طلب منه تسجيل اسمه وكمية التبرع رفض بشكل قاطع وصارم “ما عيب نسجل على أهلنا يا إبني”، ثم مضى مسرعاً دون أن يلتفت إلى الوراء والدمع يطفر من عينيه!
في المناطق المحررة يمكن ملاحظة نمطين اثنين من حالات اللجوء.
الأول مرتبط بعلاقات قربى لعدد من العائلات التي نزحت من مناطق بعيدة نوعاً ما، وذلك بعد تفاقم عمليات “التطهير” التي قام ويقوم بها النظام من قصف ومداهمات عنيفة، أتت على كل الجوانب الحياتية بحدودها الدنيا، حتى بات الوجود على قيد الحياة نفسه مهددا إلى حد كبير. ففي بلدة “بنش” مثلاً، كانت مفاجأة بالنسبة لي أن عائلات كثيرة من سكان حي القابون الدمشقي ينحدرون من هذه البلدة. وهكذا بعد أن أضحى الحي هدفاً لاستعراض همجية أذرع النظام العسكرية والأمنية كافة، وبشكل متكرر، وجد هؤلاء في الرجوع مع أطفالهم وعائلاتهم إلى مدينتهم الأصلية ملاذاً آمناً نوعاً ما، رغم المرارة التي تركته في نفوسهم ترك أرزاقهم وبيوتهم المهدمة أو النصف مهدمة أو التي تعرضت للنهب والسرقة كما أُخبرت لاحقاً. “يلعن أبو البيوت يا إبني، ولادنا وعرضنا أهم يا بيي”، هكذا لخصت أم وليد حالها وهي تتذكر بيتها العامر في القابون، وقد اضطرت إلى مغادرته فور وصول أنباء المجازر المتنقّلة التي أصبحت أقرب وأقرب. نفس الحال تقريباً يمكن مشاهدته في مناطق الشمال المحررة حيث العائلات اللاجئة الكثيرة التي تنحدر من ريف حلب والتي كانت تسكن في أحياء المدينة منذ أمد بعيد أو قريب ولأسباب شتى.
أما النمط الثاني من حالات اللجوء فيتمثل بتلك العائلات التي استطاعت الهرب من جحيم المناطق المشتعلة في الجوار، القريب والبعيد، والتي وجدت في المناطق المحررة أماناً ما، خاصة بوجود عدد كبير من النساء والأطفال بينها. يمكن القول بأن أصحاب هذه الحالات من اللجوء هم الأكثر معاناة وذلك بسبب محدودية مواردهم المادية التي “استطاعوا” الإتيان بها من جهة، و بسبب محدودية الإمكانيات العامة لمستقبليهم في هذه المناطق من جهة أخرى.
بشكل أو بآخر يمكن القول بأن مسألة تأمين الغذاء للعائلات اللاجئة المحتاجة وخاصة المواد المتعلقة بالأطفال تقع تحت السيطرة إلى حد ما وتفي بالحد الأدنى من الإحتياجات (بإستثناء الدواء و المواد الطبية)، مع بعض الإستثنائات القليلة التي تنجم عن تأخر توزيع أو حصول عائلة معينة على المعونات التي قد لا تتواجد في كل الأوقات. إلا أنّ المسألة الأكثر صعوبة تتمثل في تأمين السكن لهذه العائلات وخاصة تلك التي لا أقارب لها في هذه المناطق. هناك الكثير من السكان الميسورين قدموا بيوتاً يملكونها بالمجان، وخاصة للعائلات الكبيرة المليئة بالأطفال، فيما قام البعض بتأجير شقق بسيطة التجهيز بمبالغ صغيرة نوعا ما تتراوح حول 5 آلاف ليرة سورية، وقد تصل في بعض الأحيان إلى10 آلاف. وهنا أيضاً تجد من يتبرع بإيجار سكن عائلة معينة لفترة ما، أو تضطر بعض الجمعيات التي أنشئت على عجل لتنظيم عملية التمويل المالي مستفيدة من علاقاتها مع بعض الأشخاص الميسورين في الداخل أو في الخارج. هذا يشير أيضاً إلى غياب الدعم المؤسساتي الممنهج من أطراف من المعارضة بشكل أو بآخر. عند سؤالي أحد الأشخاص العاملين في تأمين السكن للاجئين فيما إذا كان هناك وجودا لتمويل ما من جهة تابعة للمجلس الوطني مثلاً، انفجر غاضبا ومطلقا دفقات من اللعنات و الشتائم، يمنة و شمالاً، منتقدا التقصير الكبير للمجلس ولأعضائه الذين “ما بيتذكروا إنو في ناس تعبانة، ناس جوعانة ومو ملاقية تاكل، بس بييجوا منشان يلاقوا دبابة ويتصورا بجنبها”. هنا يتدخل شاب آخر يتولى توزيع بعض المعونات بجملة “والله إحنا ما منعتبره موجود للمجلس الوطني، إحنا اتكالنا على الله وبس”!
كما هي طبائع الواقع عادة، لا يمكن القول بأن “كل” اللاجئين ينتمون إلى فئة واحدة لها نفس الميزات الاقتصادية- الاجتماعية، إن لم نقل التوجّهات السياسية أيضاً. فبعد سيطرة مقاتلي الجيش الحر على أحياء كثيرة من مدينة حلب مثلاً، واستسهال النظام قصف هذه الأحياء (وغيرها أيضاً) بلا هوادة، اضطر الكثير من العائلات التي تتمتع بأحوال مادية جيدة (وجيدة جداً) إلى الرحيل مع من رحلوا أيضاً. في إحدى المناطق أخبرت عن قصص متواترة عن بعض العائلات الميسورة التي لجأت من مناطق “معينة” من حلب المدينة وجربت “وضعية اللجوء” في المناطق المحررة، ولكن بمواصفات تناسب إمكانياتها ومتطلباتها. مثلاً، بعض العائلات طلبت شققاً سكنية للإيجار لها مواصفات معينة مثل الغرف المتعددة والواسعة، أو ماشابه. في إحدى الحالات حدث أن هناك عائلة كانت تبحث عن شقة فيها بلكون كبير (برندا) من أجل الإستمتاع بتدخين النرجيلة عند المساء مثلاً! “كانوا كتير شايفين حالن معانا” يخبر الشاب يحيى، لابل كان هناك شيء من الوقاحة في التعامل بحسب تعبير يحيى، فبعد أن قام أحد الشباب المتواجدين بالصدفة بالتعليق “إحنا مالنا بالشاطىء الأزرق هون” (منتجع معروف في اللاذقية)، سمع جواباً من رب الأسرة ما زال يتردد صداه في ذاكرته، مثيرا فيه “دفعة من الغضب” لم تفقد قوتها بعد كلما تذكر الحادثة: إحنا جايين بمصراتنا خيو! بعض هذه العائلات لم تطب لها السكنى في المناطق المحررة فقررت التوجه إلى المدن التركية المحاذية، حيث نزلت في فنادق وبيوت مرتفعة الإيجار، وحيث يطلب المرء ما يشاء منتظراً التلبية الفورية، دون تلكؤ ودون الإضطرار إلى سماع مالا تشتهي توقعاته! ليس هناك من شك بأن نسبة لا بأس بها من هذه العائلات لا تكن وداً كبيراً لما يعرف بـ”الجيش الحر”، حتى أن رب عائلة، لم يكن له مانع من التحدث جانبياً، حمّل “الثورة” و”الثوار” مسؤولية الحالة المزرية التي اضطرته هو وعائلته لمعايشتها في مناطق اللجوء، مسترسلاً عن “الرخاء وحسن الحال” الذي كان ينعم به، ومنهيا كلامه بعبارة “إش كان صاير علينا”!
بعض اللاجئين أبت النوائب والمصائب إلا أن تلاحقهم حيثما حلّوا. في إحدى المناطق صادفت شاباً من “اللاجئين” الفلسطينيين ينحدر من إحدى مخيمات مدينة حلب. بعد زواجه، ونزولاً عند رغبة زوجته، قرر أن يسكن في حي صلاح الدين، كي تبقى قريبة من عائلتها الميسورة نوعاً ما. وعند إشتداد المعارك في الحي إضطروا جميعهم إلى المغادرة. “كيف طلعنا تحت القصف والله ما بعرف يا أخي”، يقول جواد، الأب لطفلين صغيرين. منذ فترة حاول جواد الرجوع لوحده إلى الحي لتفقد بيته و بيوت أقرباء الزوجة فلم يجد إلا حطاماً وركاماً. علق بعبارة موجعة “وهلق وين بدنا نروح؟ كم مرة بدنا نلجأ إحنا الفلسطينيين؟” إلا أن لعبة المصائر لم تكشر عن أنيابها بتلك الدرجة من القسوة كما حدث مع عائلتين مع أطفال فرّتا من حلب “المقصوفة” قاصدتين مدينة اعزاز وكان حظهما العاثر أن اتخذتا من المنطقة السكنية التي تم قصفها بسلاح هو الأول من نوعه (قيل أنها قنبلة فراغية). سألت أحد الشباب المرافقين عن مصيرهما وهل يمكن أن نلتقي بأحد منهم. نظر إلي بصمت ثم تلفظ بعبارة واحدة “والله انبادوا”، إذ لم يعثر لهم على أثر!
إن كانت مأساة اللاجئين داخل التراب “شبه” المحرر ما تزال حبيسة بين جدران البيوت الآوية، إلا أن لنفس المأساة على تخوم الوطن السوري أو داخل حدود الجار التركي عناوين أخرى، تستفز الرائي بظهورها المعلن والفاقع. بعد الخروج من وسط سوريا بإتجاه الحدود التركية كان لزاما عليّ التوجه من مدينة “الريحانية” صوب “غازي عنتاب” للمضي في رحلة العودة “الغير محمودة” إلى بلاد الجرمان. شاء حظي العاثر أن أستقل ميكروباص أخذ يشق الجبال والسهول الإسكندرونية ” ببطء السلحفاة وعلى أنغام الأغاني التركية، أبدية النواح و الندب، واقفا عند كل من يلوّح باليد للصعود. في النهاية أخذت الرحلة وقتا كنت وصلت به إلى حدود الصين: سبع ساعات بالكمال والتمام. الميزة الوحيدة في هذه الرحلة المضنية أنني وعند منطقة معينة شاهت بأم العين طوابير من البشر، تمضي على حافة الطريق الخطر مع اتجاه الطريق، بنسائها وأطفالها وكبارها. كان من الملاحظ أن عدداً كبيراً منهم يحمل أمتعة على شكل صرر كبيرة (بُؤج: جمع بُئْجة بالعامية)، حتى أنني رأيت أطفالاً تحمل “بؤجاً” أكبر منها، كان الأطفال وخاصة الإناث منهم يبدون بحِملهم كالشجيرات الصغيرة، بوجوههم المحمرّة التي لفحتها شمس “أنطاكية” اللئيمة. بعد مسير عدة كيلومترات عرفت السبب- الوجهة: مخيم لللاجئين. في هذه الأيام كانت حلب تشتعل قصفاً ومعارك، بعد استراحة قصيرة عند المدخل، قيل لي بأن أغلبهم قد جاء من حلب، وأن بعضهم قد أخذ أياماً مشيا على الأقدام! لفت نظري حالة غريبة من عدم الاكتراث من قبل المسافرين معي، حاولت سؤال البعض عن رأيهم فيما يرون، بعضهم أبدى عدم اهتمامه بالموضوع بالمطلق، أما البعض الآخر فبدأ معي استجوابا بكلمات عربية ركيكة تنتهي بالـ”الكسرة متبوعة بالنون الساكنة”، لا تبدي ودا على الإطلاق!
هناك شعور عام لدى الأنطاكيين، ذوي الأغلبية “العلوية” بالامتعاض والتذمر إزاء كل ما يتصل بموضوع “الإرهابيين” المنتشرين على الحدود، كما عبر لي أحد باعة الدخان مقابل الفندق، مع الحذر من التعميم المفرط. يشعر المرء بعدم وجود حد أدنى من التعاطف مع قضية اللاجئين السوريين هناك، حتى ولو كان إنسانياً، “ريتو الله ما يردهِن” قال أحد من إلتقيت بهم في تعليقه على خبر ورد على الشاشة التركية، كثيرة العناوين. بالإضافة إلى تعاطف “طائفي” جديد مع صاحب “القلب الطيب” بشار الأسد، لم يكن على هذه الدرجة من الوضوح قبل الثورة. يبدو أن هناك شحّاً كبيرا في المعلومات المتوافرة وفي الريبورتاجات التي تنضح بها القنوات التركية عن الوضع السوري لدى الأنطاكيين أيضاً، فضلاً عن تضامن غريب يجمع عتاة “اليساريين” و”اليمينيين القوميين” ضد كل ما تقوم به الحكومة التركية الحالية، التي لا تخفي سعيها لأسلمة ما تيسر. يترافق هذا مع وجود قدر لا بأس من الشعور العام بالإحباط نتيجة نوع من “التمييز” في الخدمات تعاني منه المناطق ذات الأغلبية العربية المتاخمة للحدود الجنوبية الغربية مع سوريا. كل هذه العوامل مجتمعة يبدو أنها دفعت بظلال من الشك لدى المواطن العادي هناك تجاه كل ما يتعلق بالثورة، مما لا يدع مجالاً إلا للترهات والأوهام والدعاية الأسدية التي يبدو أنها فعلت فعلها لدى جمهور “علوي” كبير، أعادت له الأحداث، ربما، أجزاءاً مهمة من هوية مرتبكة تبحث عن مجد أو قضية في بيئة متمايزة، ولو على أنقاض أوهام لا ترتبط بالقضية من وجهة أخلاقية بالضرورة. ليلة السفر أتت أخبار مجزرة داريا الدامية، أحسست بضيق شديد وأردت أن أتنفس قليلاً من الهواء على ضفاف العاصي الأنطاكي. لمحت صاحب الفندق اللطيف والدمث، الذي دعاني إلى فنجان قهوة “عالسريع”، ثم عاجلني بالسؤال الصادم: “حبيبي، إيس بصير ب سورية (بكسر التاء المربوطة)، ليش هيك ميقتلوا العلوية يا إبني”. الأخ جاءته الأنباء على الشكل التالي: مجموعة من الإرهابيين المدعومين من قطر والسعودية هاجموا “العلوية” في مدينة داريا وقاموا بمجزرة رهيبة، ولولا تدخل الجيش السوري لكان القتلى بالآلاف! لأول مرة في حياتي أشعر بوهن كبير وبشلل يجتاح أضلعي وتفكيري، تركت القهوة وذهبت من دون محاولة للإجابة وأنا أردد مقولة والدي المتوفى عند النوائب: اللهم لا أسألك رد القضاء…! في صبيحة اليوم الثاني كان في إنتظاري مظاهرة تأييد تعج بصور تبعث على الضحك للأسد الابن، أزرق العينين، تبدو عليه ملامح البله، مصحوبة برسومات تعود بنا إلى القرن السادس الميلادي للإمام علي (كما قيل لي عند السؤال)، ويظهر فيها وسيما كأحد نجوم هوليود! لم يكن التصوير لواحد غريب مثلي ممكنا في جو مشحون تماماً، ولكن فضولي كان محميا من نظرات وتساؤلات محبي بشار الغاضبين: قبعة على رأسي مكتوب عليها “Germany” تحت علم ألماني واضح!
وماذا بعد:
الصورة أعلاه لا تميط اللثام عن “مسألة اللاجئين” بكامل أبعادها الإنسانية والسياسية، سواء في المناطق المحررة أم في المناطق الحدودية المتاخمة. وإنما هي محاولة لتقصي مصائر أفراد وعائلات وجماعات لم تألف هذه الأوضاع إلا في نشرات الأخبار، حيث الحدث لا يعني بشيء إلا بوصفه خبراً، تفصله مسافات واقعية و”ذهنية” عن متتبعيه. همجية نظام الأسد التي لم تعد الكلمات تسعف في وصفها خلقت أوضاعاً جديدة. لقد انقلب واقع الحال وأصبح من لم تجرؤ مخيلتهم على التفكير به لاجئين ونازحين، مكرهين على العيش في بيئات لم يألفوها ولم يتحضروا لها (من ذا الذي يتحضر ليكون لاجئاً!). لقد أضحى اللجوء بكل ما يعنيه من ألم وفاقة وعجز واقع مرّ لقطاع كبير من السوريين، في سابقة لن تمحى من الذاكرتها الجمعية بسهولة. ليس من السهل على شعب تعوّد على استقبال لاجئي الجوار وغيرهم أن يجد نفسه “مطية” في لعبة القدر الساخرة تلك. كثيراً ما وجدت نفسي وأنا أودع بعض من التقيتهم أتلفظ تلقائياً بعبارة يتناقلها اللاجئون الفلسطينيون، بشيبهم و شبابهم، في مناسبات السراء والضراء عند الوداع: بـ العودة انشاء الله!