أسئلة ضرورية
هل يصح وصف الثورة السورية بالثورة المسلّحة فقط؟ هل تعسكرت الثورة؟ أين سلمية الثورة؟ إلى أين تتجه الثورة بمساراتها العسكرية والسلمية؟ هل هي العسكرة الكاملة؟ هل هناك تناقض أساسي بين سلمية الثورة وعسكرتها؟ هذه أسئلة ملحّة ووجيهة, وسنحاول تلمّس إجابات لها , ضمن قراءة لمفهوم الثورة من جهة, ولواقع الثورة اليوم من جهة أخرى.
بدايةً, مفهوم الثورة ليس مكتملاً, كما أنه ليس واحداً. لا يوجد نموذج واحد لكل الثورات. في ما يخص العسكرة والسلمية, نجد في التاريخ ثورات مسلّحة وثورات سلمية رغم صعوبة تنميط أي من الثورات ضمن هذين التعريفين. لا يعني أن تكون الثورة سلمية أو مسلّحة أنها ليست ثورة, أو أنها غير قادرة على تحقيق أهدافها. لكل ثورة ظروفها الموضوعية الخاصة. بهذا المعنى, الثورة في حراك دائم, ضمن الواقع. قد تنجح, وقد تفشل. ولكن لا يوجد مسار محدد سلفاً لكل الثورات (عسكري- سلمي) بغض النظر عن الواقع. لا يوجد وصفة جاهزة يجب أن تنطبق على الواقع, تحدّد كيف تتحرك الثورة وكيف تنتصر. ليس للثورة تعريف مانع جامع وحيد, نستطيع تطبيقه على كل الثورات. للثورة أهدافها, وهي تغيير الواقع. والواقع العياني هو محرّك الثورة, كما أنه الهدف الذي تسعى لتغييره.
تحول ميدان التحرير لنموذج للثورة السلمية في الربيع العربي الذي مازالت فصوله تتوالى, ولكنه في المقابل ليس النموذج الوحيد، وفعل القياس به يجب أن يكون حذراً وأميناً، فمحاولة الاقتداء بميدان التحرير في دوما ودرعا وحماه وحمص وغيرها لم تنجح, لأن العنف الذي ووجه به المعتصمون كان هائلاً. اضطر السوريون مُرغمون للتخلي عن استراتيجية احتلال الفضاءات العامة والاعتصام فيها حتى سقوط النظام، علماً أنهم لم يدخروا جهداً في سبيل تلك الغاية، التظاهرات وحلقات الاحتفال التي أطلقوها ومازالوا يفعلون كلما وجدوا لذلك سبيلاً، جاءت بالأساس استجابةً لرغبة عارمة مقترنة بوعي فطري لأهمية انتزاع ملكية الفضاءات العامة من سلطة الأبد، لكن الوحشية المفرطة حالت دون تحقق ذلك، حتى اللحظة على الأقل.
لكن ما هو النموذج الذي يناسب الثورة السورية؟ هذا السؤال يتكرر, والإجابة مفتوحة, فمفهوم الثورة مفتوح على احتمالات مختلفة.
أين أصبحت سلمية الثورة اليوم؟
إن نعي سلمية الثورة السورية يبدو مُجحفاً أو مبكراً على أقل تقدير، فالمظاهرات (كمُعبر رئيسي عن المكون السلمي للحراك الشعبي) مازالت تنتظم في كل مكان، حتى في الأماكن التي يشتد فيها القتال أو القصف (وثّقت لجان التنسيق المحلية 540 مظاهرة في يوم الجمعة 21-9-2012). البارز أيضاً أن مناطق باتت خارج سيطرة قوات النظام (باستثناء القصف الجوي ربما) وهي مناطق حاضنة للمقاومة المُسلحة، مازالت تشهد مظاهرات وأشكال تعبير مدني مناهضة النظام، والأمثلة هنا كثيرة، من سراقب وبنش وكفرنبل وغيرها في ريف إدلب إلى بعض مناطق ريف حلب وريف دير الزور وحتى حمص المحاصرة. وحتى في المناطق الساخنة أو تلك التي ترزح تحت قبضة النظام أو في متناولها، مازال الإصرار قوياً على التظاهر وتوزيع المنشورات وبخ الجرافيتي (كان لافتاً مثلاً حجم التظاهرات في عربين بريف دمشق يوم الجمعة 21-9 – 2012 بعد كل ما شهدته وتشهده مناطق الغوطة الشرقية من تنكيل عسكري، فيما تشهد العاصمة دمشق المقطعة بعشرات الحواجز مظاهرات شبه يومية في مناطق ركن الدين وبرزة، وأخرى سريعة في مناطق حساسة في قلب العاصمة كان آخرها على بعد أمتار من مبنى البرلمان السوري). هذا كله يؤكد أن عموم السوريين المنخرطين في الحراك الثوري (وفي البيئات الأكثر احتضاناً للمقاومة المسلحة) مازالوا يؤمنون بأن طرق التعبير السلمية عن مطالبهم هي جزء أساسي ولا يتعارض مع أشكال النضال الأخرى التي اختاروها طواعيةً أو تلك التي فرضت عليهم أحياناً، يأتي هذا أولاً من الإيمان بمشروعية مطالبهم وعدالتها.
من المحق إذاً القول: أن الثورة اليوم تتشكل من مكونات سلمية وعسكرية، وأن ظروفاً موضوعية وواقعية تقضي أن ينسجم المكونان وأن يستفيد كل منهما من الهوامش التي يوفرها الآخر، مع التأكيد أن الجنوح إلى خيار المقاومة المسلحة اقتضته ظروف واضحة، وهو فعل لاحق على المكون السلمي والمدني للثورة. ينتج عن هذا أن الرقابة الواجب ممارستها على المكون العسكري هي تلك التي تسعى لأن ينتفي وجود العسكرة حين تنتفي الحاجة إليها، لا تلك القائمة على استعداء هذا المكون دون ارتكاز إلى قراءة موضوعية للوقائع على الأرض، أو تلك التي تساوي عسكرياً وفي سبب الدمار والأذى بين المقاومة الشعبية المُسلحة (ممثلة بالجيش الحر مع التحفظ على هذه التسمية الاصطلاحية الفضفاضة التي جاءت وبالاً عليه)* وبين قوات النظام بكل عتادها والدعم الموفر لها من الحلفاء المُخلصين.
القراءة الخاطئة: إما سلمية أو مُسلحة؟
من هنا فإن قراءة البعض للثورة على مبدأ إما / أو، إما ثورة مسلّحة أو ثورة سلمية، تبدو قطعية بشكل تعسفي، الواقع يخبرنا أن معظم الثورات هي مزيج من الاثنين. الفارق هو في الدرجة فقط. كان للثورة المصرية السلمية مواجهات عنيفة مع قوى الأمن والبلطجية (لا يمكن مثلاً التكهن بمنحى تصعيد المتظاهرين لدفاعهم عن النفس لو استخدم النظام أساليب أكثر عنفاً من إرسال بلطجيته على الجمال؟). رأينا في الثورة اليمنية, صدامات عسكرية بين المنشقين والجنود النظاميين، وبين أنصار الزعيم صادق الأحمر والحرس الجمهوري، فيما بقيت قطاعات واسعة ممتنعة عن الاحتكام للسلاح، أو أنها لم تضطر إليه في لعبة توازنات دقيقة (الجميع يدرك أن لا أحد ينقصه السلاح) فبقيت المنازلات بين الطرفين في الفضاءات العامة، أنصار الثورة يحتشدون في ميدان وأنصار صالح يحتشدون في آخر. أما الثورة الليبية فاقتضت ظروفها عسكرة الجزء الأكبر منها. الثورة, في النهاية ,هي من صنع البشر. ما يجعل الثورة ثورة, هو رغبة البشر في تغيير الواقع , بكل الأساليب الخلاّقة الممكنة، شرط أن لا ترتد الأمور إلى واقع مشابه. حتى هذا الاحتمال الكارثي، يبقى مرهوناً بمآلات المستقبل، أي أن الانكفاء على واقع رديء خشية الانتقال إلى حال متردية أخرى، هو موقف مضاد للثورة ولحتمية التغيير. الثورة السورية, ككل الثورات, هي خليط من مختلف أشكال المقاومة والرغبة في التغيير, من السلمية والسلاح. بين دعاة السلمية ودعاة العسكرة, هناك مساحة واسعة للاتفاق: الثورة وأهدافها. لا تستثني الثورة أحداً من أبنائها. قراءة إما ثورة عسكرية او ثورة سلمية هي قراءة خاطئة. خاطئة لأنها تتبنى موقف منطقي سابق على رؤية الواقع العياني, سواء تعلّق ذلك بالثورة السورية, أم بالثورات الأخرى, أم بمفهوم الثورة ذاته, وهو المستمد في النهاية, من الثورات على الأرض. كما أن هذه القراءة تنفي قدرة البشر على خلق بدائل للتعاطي مع الواقع, بدائل سلمية وعسكرية تجمع الاثنين في مواجهة القمع.
الثورة ملك لكل من يشارك بها:
أشكال الرقابة وضرورات التكامل في أساليب النضال
في المقابل, لا يجب أن تكون مقاربتنا للمكون العسكري مبنية على المُحاباة أيضاً. إن القول بتفهم الظروف الموضوعية والمقاربة العملية التي تقتضي قبول استخدام أشكال نضال متنوعة ضد استبداد عتيد، لا يجب أن يعني بحال من الأحوال أن نغفل المخاطر المترتبة على وجود مكون عسكري للثورة، ولا على علو صوت السلاح ليطغى على كل الأصوات الأخرى أحياناً. تبقى الرقابة الأكثر قدرة على التقويم هي تلك القريبة من الواقع بل ربما تلك التي تتواجد على الأرض جنباً إلى جنب مع المقاتلين. والرقابة ليست توجيهية, بل هي تفاعلية وتشاركية على كافة الأصعدة. لا نريد أن تتحول القراءة الواقعية للثورة السورية إلى قراءة تبريرية لأي خطأ أو توجّه قد تنحى إليه الثورة. ما نريده هو أن تكون القراءة على تواصل مع البشر, ومع الواقع الذي يعيشونه. هنا أيضاً, لا يوجد وصفة جاهزة. لا يوجد أجوبة سهلة ومباشرة لأسئلة ثورة تعيد تعريف وتوجيه نفسها باستمرار.
يبقى أن للبعض موقف إيديولوجي ثابت من عسكرة الثورة. هذا الموقف الإيديولوجي هو جزء من الثورة وغناها المتنوع, ومن الواجب الإبقاء على الحوار مفتوحاً, دائماً وأبداً, مع من يرى أن خيار العسكرة الذي اضطر له البعض هو خيار خاطئ. أبواب الثورة مشرّعة أمام أصحاب هذا الموقف للمشاركة في الثورة, وتغيير مسارها, إن أمكن. لكن يصح هنا القول أن على أصحاب هذا النداء قبول الاستعداد للتضحية والتعرض للخطر (وقسم منهم بلا شك يفعل)، دون التذرع بأن مجالات النضال السلمي باتت أضيق بسبب اشتداد ذراع المكون العسكري، فهوامش الاحتجاج السلمي للأمانة لم تكن يوماً رحبة في سورية، ولم تكن كلفة التظاهر منذ اندلاع الثورة زهيدة أو مضمونة العواقب على الدوام. وإن صح القول اليوم بزيادة جرعات التنكيل وفترات الاعتقال، فإن هذا لا يغير من حقيقة مفادها أن أشكال النضال السلمي في سوريا تُجترح وتُفرض بكثير من الحنكة الضرورية، وليس بموافقة السلطات عليها أو حتى بالتغاضي عنها. هذا لا يعني بالطبع الدفع بالنفس نحو التهلكة مجاناً، ولا يعني أيضاً إضفاء مزيد من الشاعرية على صراع العين والمخرز. وإنما هو تأكيد جديد بأن سياسات النظام الرعناء والإصرار على النهج الأمني والعسكري في التعامل مع مطالب محقة، هو من وضع عموم السوريين أمام خيارات مُعقدة وباهظة الكلفة في أحيان عديدة.
لا جهة أخرى في سورية تقمع التظاهر السلمي، وتعتقل الناشطين المدنيين والمعارضين المثقفين سوى النظام. لا قوة أخرى في سوريا تُضيق على أشكال التعبير السلمي وترغب باحتكار الرأي ووسائل التعبير عنه وصولاً حتى لاحتكار استخدام القوة سوى النظام. للثوار اليوم في سوريا، وعلى اختلاف الدروب التي اختاروها، خصمٌ موضوعي واحد، هو الذي لا يفرق بينهم أصلاً في البطش حين يجتمعون على المطالبة الصريحة بإزالته ويعملون جدياً في سبيل ذلك. للثوار دروب تفرضها الوقائع على الأرض، وللثورة هدف واحد يمليه التاريخ والتضحيات الجسيمة: سورية حرة ديمقراطية تتسع للجميع.