لنعلن الحداد العام على تاريخنا المهدور

حلب تحترق وتاريخنا الاسلامي ليس، كما يبدو للمتأمل، إلا رهينة رخيصة ومستهلكة في القتال الدائر في المدينة بين المقاومة المسلحة وقوات النظام. أواه يا سوريا، لا تنظري إلينا بعينيك الجريحتين كيلا لا ينفطر منا القلب المدمى الذي قطعته عذابات الضحايا. ولكنني لا أقف بحضرتك يا أمنا سوريا لأرثي بل لأثور وأدافع وأحمي، ولن تأخذني في الحق لومة لائم. البارحة كتبت بالانجليزية آملة ان يسمعني من يعرفونها منا والذين لايعرفون العربية، ولكنني اليوم أكتب بلغتي الأم لأقول لكم أنا المغتربة التي قضت معظم عمرها بحثاٌ عن حضارة العرب والإسلام الضائعة خصوصاً في بلادنا بأنني اذرف الدموع المريرة وأنا أكتب عن مصيبة حلب بعد مصيبة حمص لأن ما فقدناه من تاريخنا الحقيقي حتى الآن لا يمكن تعويضه وقد ضاع الى الأبد. حلب القديمة تحترق، أريد أن اصرخ عبر الدهور غير لاوية على شيء وقد أصابني مس من الجنون، حلب الخالدة، واحدة من أغنى وأعظم حاضرات العالم العربي الاسلامي تعانق الرماد في سوقها العظيم وتركع متفحمة هامدة وقد تصوح بهاؤها الازلي، فعمرها من عمر الانسانية. حلب التي لم يهزمها المغول والتتر والصليبيون هزمناها نحن، أبناء الأرض، أبناء سوريا. وهكذا سندخل التاريخ الحديث. لنعلن الحداد العام لأننا لا ندرك ولن ندرك ما فقدنا ونحن غارقون في جهلنا رغماً عنا.

يقول بعض المتفائلين سنعيد بناء كل ما فقدناه. نعم يمكننا إعادة بناء الحديث، أما القديم فهو تاريخ وإعادة بنائه تعني بداية تاريخه منذ لحظة بنائه وإلا كان تزييفاً، حتى الترميم يسمى ترميماً وليس تاريخاً. هل تمكن إعادة رسم الموناليزا إذا ما احترقت؟ انه لجهل منا ان نعتقد اننا نستطيع إعادة صنع التاريخ، وإلا لما خلقت المتاحف بموجوداتها التي لا تثمن. ان الشعب الذي لا يدرك اهمية الحفاظ على تاريخه هو، اعذروا التعببر، شعب جاهل. وشعبنا الذي تخرج من مدرسة الاسد والبعث وحرم من تقييم تاريخه والاستهداء به علميا وروحيا ومعرفيا هو شعب جاهل في أغلبيته، الثائر منه وغير الثائر. إن التاريخ الذي ورثه شبابنا ما يزال التاريخ الأسدي المغلف بالتشوهات والأبديات والأسديات السياسية والدعائية والدوغمائية المبتذلة. إن من يصب الحمم والدمار والفناء من السماء فوق مدينة عظيمة عمرها اكثر من 10000 عام جاهل وهدام وبربري ومجرم ولو بالتبعية. قتل تاريخ الناس هو أيضا جريمة مادية وروحية وخطيئة عظمى، والسماح بقتل تاريخنا بدون أخذ جميع الاحتياطات وبذل التضحيات هو مشاركة في هذه الجريمة.

إن تاريخنا يذبح ويدمر وإن تراثنا ليحرق ويتلاشى قبل أن تتاح لنا الفرصة الحقيقية لدراسته بأنفسنا دون الاعتماد علي الغرب. إن مدينة حلب القديمة  بقلعتها وأسواقها وخاناتها وأبوابها وبيوتها ومساجدها وحمامتها وصناعاتها التقليدية العريقة هي درة من درر العمارة الإسلامية العربية، ولهذا فإنني أعتب على مقاتلي الثورة، بل ألومهم، وغالبيتهم ممن يحملون الرموز الإسلامية، ألا يسعون بهمة أعظم للدفاع عن مقدسات الإسلام الحضارية وآثاره الثقافية، وهو الذي يتعرض حاليا لهجوم فكري مجحف من الشرق والغرب. إن حضارتنا بين نارين، نار الجهل والسذاجة والافتقار إلى العلم والثقافة، ونار الوحشية والبربرية والاستهتار الجنوني المرضي المطلق. لقد وقف جنود الأسد وأتباعه يترقبون ويراقبون بدون أن يسمحوا أو يأمروا سيارات الإطفاء بالإسراع لإخماد الحرائق بينما وقف القناصون يتصيدون الأهالي الذين حاولوا إنقاذ سوقهم ومعيشتهم.

 إنه لمن الثابت تقريبا أن من قام بتفجير بوابة قلعة حلب الخارجية هو من الثوار أو من الدخلاء الذين يريدون المساعدة بطريقتهم الخاصة. ومن خلال قراءتي للتقارير الواردة عن حريق أسواق حلب القديمة استنتجت أن الحريق نشأ عن تبادل إطلاق القذائف والنار في مداخله بالاضافة الى القصف من القلعة وليس نتيجة للقصف الجوي لأنه لا توجد فجوات في السقوف. ولقد طلبت من زميلي الأثري على صفحات فيسبوك أن يعطيني تقريرا مبدئيا عن الخسائر المحتملة فكان الجواب: ”بالنسبة لاسواق حلب وصلني خبر إنو تم احتراق كامل لسوق اسطنبول وسوق النسوان وسوق العبي وسوق الزرب …. لكن الشيء الوحيد اللي تاكدت منو حتى الان هو سوق العبي فعلا احترق بشكل كامل و كمان جامع الاسماعيلية شرق القلعة . القبة تبتعو طارت بضربة مدفعية”.

وما لا شك فيه باعتقادي أن احتراق السوق معناه احتراق المباني والبيوت والحمامات والمدارس الاثرية داخل محيطه.

وسؤالي هو، وأوجهه إلى القيادة الثورية الموحدة في حلب: ألا يمكن التحكم بتمركز القتال بحيث يتم تجنب الأحياء التاريخية والمباني الأثرية؟  وذلك من أجل تجنيبها القصف الجوي والبري من قبل مدمري ومخربي الجيش الأسدي؟ ألا يمكن وضع الخطط والاستراتيجيات مسبقا من أجل حماية هذه المعالم التاريخية بشكل غير مباشر*؟ إن حماية تراثنا يقع على كاهل الثورة الآن وهو جزء لا يتجزأ من كفاحنا الثوري من أجل الحرية. إن استعادة تاريخنا بعد أن يستتب السلام جزء من الكفاح الأكبر مستقبلا. ألا يكفي أن الشعب السوري قد أصبح يتيم العالم، فهل سيصبح يتيم التاريخ أيضا؟ هل ستصبح  مهد الحضارات مقبرة الحضارات، خصوصا الإسلامية منها، لأنها الطبقة الأخيرة في سلم الحضارات السورية؟

لقد كتبت البارحة بالانجليزية وكانت قد اجتاحتني نوبة من اليأس العميق والأسى الأعمق فلم أوفر أحدا:

“ان الحقيقة هي أننا لا نستحقك يا سوريتنا.  وأن الحقيقة هي أننا قد أفقرناك يا سيدة العطاء. والحقيقة ايضا هي اننا لانحبك بما فيه الكفاية ولا نقدرك كما يجب او نعزك كما تستحقين.  لقد سمحنا لجهلنا وأميَة عقولنا التي هي إرثنا اللعين من حكم نفى تاريخنا الحقيقي لصالح ثقافة مصطنعة، وضيعة وسوقية، أن ننسى في حمأة المعركة بأن هذا الذي أسبغ عليه الزمان وجهود انسانيتنا المتراكمة عبر مئات السنوات القداسة يجب ألا يعرض للخطر أو الأذى. إن تاريخنا أرض حرام ومعبد حرام، وإن الحياة لا تعني فقط حياة الأفراد بل هي أيضا تتمثل فيما يبدعون ويحققون ويعملون. إن حرائق حلب القديمة تعبر إلى جانب وحشية النظام وجنونه عن قصورنا في أداء واجبنا نحن أيضا، وعن فشل في استراتجيتنا  وفي تخطيطنا، فما فقدناه لا يعَوض ولا يثَمن. إننا نحترق إذ تحترق حلب وتلتهم النيران تاريخنا وميراثنا وعقولنا ووجودنا ووجداننا. لن ينسى لنا التاريخ أننا كنا شركاء في إحراق حلب ولن تغفر لنا سوريا. لقد شببنا عن الطوق فلنتحمل المسؤولية.”