أسباب عديدة تقف وراء إطالة أمد الصراع في سورية بين النظام السوري وقوى الثورة السورية، لكننا هنا سنتوقف عند الدور الذي يلعبه التدخل الدولي في هذا المجال، وخصوصاً وأن البلاد قد غدت ساحة له. لم ينجح التدخل الدولي في أن يكون عاملاً يدفع باتجاه أن يحسم أحد طرفي الصراع الأمور لصالحه، بل إننا نرى أن طبيعة هذا التدخل والغايات التي تقف وراءه، ساهمت في تثبيت التوازن بين قوى الثورة والنظام. وعلى الرغم من القيود التي فرضت على النظام من قبل خصومه الدوليين، وكذلك العقوبات التي أثرت في قدراته وأدائه إلى حد معين؛ إلا أننا نفترض في الحالة السورية أن التدخل الدولي أعاق إلى حد كبير، الثورة السورية عن التقدم، حيث نرجح أنها كانت تستطيع، بقواها الذاتية، أن تصل لأهدافها أو أن تحدث تغييراً إلى درجة ما في المعادلة السورية التي استقرت البلاد عليها منذ عقود، وكانت تفضي في النهاية إلى تكريس بقاء النظام واستبداده. نستند في حكمنا هذا على واقعتين؛ الأولى هو اصرار أهل الثورة على المضي في ثورتهم حتى إسقاط النظام، على الرغم من العنف المطلق الممارس عليهم من قبل هذا الأخير، والذي تجلى بأشكال متعددة لعل أكثرها قسوة هو العنف المسلح، وهناك أيضاً الحصار الذي يضربه النظام على المناطق الثائرة، والتهجير وغير ذلك. الواقعة الثانية ترتبط بذلك الدعم العسكري والدبلوماسي والاقتصادي المميز الذي يتلقاه النظام من حلفائه الروس والإيرانيين خاصة، بينما لا يزال دعم الثورة من قبل من قدموا أنفسهم على أنهم “أصدقاء الشعب السوري” وخصوم للنظام، دعماً محدوداً وخجولاً ومرتبكاً ولم يتجاوز فرض بعض العقوبات الاقتصادية على النظام السوري، وكذلك ضغوط دبلوماسية تهدف إلى تقييد النظام وعدم إطلاق يده الضاربة. لم يخل الأمر بالطبع من دعم مالي واستخباراتي وعسكري قدمته بعض الدول (السعودية وقطر وتركيا خصوصاً).
لقد استطاع التدخل الدولي في عدة مناطق من العالم أن يحسم الأمور لصالح تغليب طرف على آخر أو تسوية ما، شهدنا هذا في البوسنة حيث وضع حد للحرب الأهلية فيها، وكذلك في كل من العراق 2003 وليبيا مؤخراً، حيث ساهم هذا التدخل بالإطاحة بأنظمة الحكم فيها، ولا ينسى دوره في الضغط على نظام حسني مبارك الذي أدى بهذا الأخير للتنحي. في سوريا كان تأثيره معاكساً، إذ أن اللاحسم هو النتيجة المترتبة حتى الآن على هذا التدخل. المعادلة التي تكمن وراء هذا اللاحسم أن داعمي النظام لن يسمحوا بهزيمته، وخصومه لن يسمحوا بحسم الأمور لصالحه ولكنهم أيضاً، كما يبدو، غير معنيين الآن بإسقاطه، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية التي تلجم بعض حلفائها الراغبين بالخلاص منه، السعودية وقطر. وهذه النقطة الأخيرة تظهر طبيعة الدعم الذي تقدمه هذه الدول التي ادعت “صداقة الشعب السوري”، وحدوده، وبأنه يرتبط بغايات في نفس كل يعقوب منهم، قيل وكتب عنها الكثير. من شرّع الأبواب أمام التدخل الدولي، وأوصل إلى أن يكون الحل للأزمة السورية مرهوناً بتوافق دولي، وأن تكون البلد ساحة لتصفية حسابات هذه الدول مع بعضها البعض، هو النظام ذاته الذي لا يكف عن إعطائنا دروساً في معاني السيادة. والمسؤولية تقع عليه أولاً في تفشي مزاج يطالب بالتدخل والحماية الدوليين في أوساط الثورة السورية، وجدير بالذكر أن جمعة ” الحماية الدولية” كانت في 9 أيلول 2011، أي بعد مرور ستة أشهر تقريباً على بداية الثورة، وبعد أن سد النظام جميع المنافذ لأي حل سياسي وطني، فالبطش كان خياره الوحيد، وما زال. على الضفة الأخرى، دخلت المعارضة السياسية في لعبة الاستقطابات الدولية. نستذكر هنا أولاً المجلس الوطني السوري الذي لاقى ترحيباً واسعاً في الشارع السوري، وعقدت عليه الآمال الكبيرة. دعا المجلس الوطني إلى تدويل المسألة السورية، وتوفير ملاذات آمنة وصولاً إلى التدخل العسكري ودعم “الجيش الحر”. من دون أن يبلور وجهة نظر واضحة حول حدود التدويل والعسكرة وأخطارهما، وبدا وكأنه يضع معظم بيضه في سلة التدويل. ربما أمور عدة دفعته إلى هذا المنحى، منها القناعة بأن هذا النظام لا يمكن إسقاطه إلا بالقوة، وهذه الأخيرة غير متوفرة ولا سبيل إلا بالاستعانة بمن يمتلكها ( وهي قناعة كانت قد بدأت بالرواج في أوساط عديدة بالثورة)، وخصوصاً أن التجربة الليبية كانت قريبة وناجحة في التخلص من القذافي؛ ومنها أيضاً أن الحضور الدولي في سورية أصبح أمراً واقعاً ليس بالإمكان التغاضي عنه. إن فشل المساعي التي راهن عليها المجلس الوطني، تظهر أنه كان بعيداً عن فهم طبيعة التوازنات الاقليمية والدولية، وكذلك طبيعة التدخل الدولي الحاصل في سورية ومراميه، وهو ما انعكس سلبياً على جمهور المجلس الوطني الذي أحبط من أدائه وفاعليته قليلة المردود وذهاب وعوده أدراج الرياح.
أحد مآخذ هيئة التنسيق على المجلس الوطني “ارتهانه” لأطراف خارجية ورهانه عليها، وزايدت عليه بأنها تنطلق من مبادئ تتعلق بصون الاستقلال والسيادة الوطنية ورفض أي تدخل خارجي في الشأن السوري. ولكن إلى أي حد بالفعل استطاعت أن تنأى بنفسها عن المناورات والمعطيات المتاحة بفضل التدويل “للمسألة السورية”، والذي أصبح أحد أهم الوقائع الفاعلة فيها؟ يمكن أن يوفر لنا المؤتمر الأخير لهيئة التنسيق، مؤتمر الإنقاذ، الذي عقد في دمشق، بضمانات روسية وصينية وإيرانية، إجابة ما عن هذا السؤال! ولكنه يطرح اسئلة أخرى في نفس الوقت عن الآليات التي ستترجم ما سيقرره على أرض الواقع؟ وما هو المردود الذي تنتظره الدول الضامنة (وربما النظام أيضاً) منه؟ لأنه يصعب علينا بكل الأحوال، وبعد ثمانية عشر شهراً من عمر الثورة، أن نصدق أن حرصاً مفاجئاً هبط على الدول الداعمة للنظام، كي تسمع كلاماً عن الديمقراطية وإسقاط النظام من قلب العاصمة السورية!
الستاتيك السوري هو بالضبط حالة اللاحسم هذه، ولكنه ستاتيك مشحون بالعنف والألم وسيؤدي في حال طال أمده إلى نتائج مرعبة. الأكثر خطراً في هذا الستاتيك القائم أن أغلبه واقع بسبب حسابات وتوازنات غير معنية بمصالح السوريين، وهو ما يعني أنه قد يستمر إلى أمد غير معلوم إذا لم يصل القائمون عليه إلى تسوية يرضى عنها الجميع. أن ندير ظهرنا للعالم، هذا ممتنع ومستحيل. ولكن أن يدخل هذا العالم في صلب قضيتنا، ويستثمر فيها بما يخدم مصالحه، ويغدو هو الفاعل الأكبر في رسم حدودها ومضمونها، فهذا لن يؤدي بالنهاية إلا إلى موت هذه القضية. وقضيتنا هي الحرية وتحقيق العدالة واستعادة الجمهورية من أيدي من سلبها على امتداد عقود. من هنا، يصبح من الواجب على قوى الثورة أن تعيد تقييم أدائها منذ قيام الثورة، وأن تعمل النقد حول جميع الظواهر السلبية التي تسللت إليها، وهي بكل الأحوال ظواهر يتحمل وزرها عنف النظام والمعركة التي طالت معه. وأن تعمل بشكل جدي على بلورة رؤية لمستقبل البلاد تبعث على الطمأنينة بأن البلاد لن تذهب إلى حيث الفوضى والمزيد من الدمار أو التفكك.
قد تكون الفرصة لا تزال قائمة لكي تعيد المعارضة السياسية بعض حضورها، كل ما عليها أن تدخل في زمن الثورة، وخصوصاً أنها فشلت حتى الآن في أن تلامس روح هذه الثورة، أو أن تبني جسراً مع رموزها الذين جاء أغلبهم من خارج صفوف هذه المعارضة. النظام لن تتغير أساليبه، وبالأحرى طبيعته، وهذا تهديد بمزيد من الغرق، وبالتالي فإن العبء في تحريك المياه الراكدة وإنقاذ البلاد، يقع على قوى الثورة. هذا هو التحدي.