منذ أواسط تموز الفائت دخلت الثورة السورية في مرحلة مغايرة عما مرت به خلال 16 شهرا سابقة. اعتمد النظام استراتيجية حرب جديدة، تتوسل الطيران الحربي والقصف البري للأحياء والبلدات الثائرة، واستهداف تجمعات السكان (حملة قصف طوابير المصطفين أمام أفران الخبز في آب الفائت) والإعدامات الميدانية، بغرض تدفيع السكان المدنيين ثمن احتضانهم للمقاومة المسلحة، وكسر الرابطة الوثيقة بين المقاومين وحواضنهم الاجتماعية.
ويبدو أن هذه الاستراتيجية التي نشتبه بدور إيراني قوي في بلورتها حققت أهدافها في بعض المناطق، وقادات إلى تململ بين سكان عدد من المناطق بخصوص انتشار المقاومة المسلحة ونشاطها. هناك كلفة بشرية هائلة، يشكل عدد الشهداء اليومي، وهو لم ينحدر عن المائة طول الشهرين ونصف الماضية، أبسط تمثيل لها. وهناك حالة انكشاف كلي للمناطق المستهدفة بعد أن توسع النظام في استخدام السلاح الجوي. ولأول مرة لا يبدو أن لدى الثورة السورية حلولا لهذا الواقع المستجد الذي يضعها أمام منعطف مصيري. قبل ذلك، كانت “غريزة” الثورة تهتدي إلى سبل الاستمرار عبر تنويع أساليب الكفاح وتوسيع ساحاته. وهو ما ولّد لدى عموم المعارضين يقينا بأن الثورة تتدبر أمرها في كل حال، وأنها سائرة حتما نحو النصر، وإن تعرج الطريق وطال. كانت المقاومة المسلحة بالذات أحد هذه الحلول. لكن عدا أن كل حل يحمل مشكلاته معه، صار يجري اعتماد مفرط على المقاومة المسلحة على حساب أشكال المقاومة الأخرى التي هي جذع الثورة، وتُرِكت المقاومة المسلحة ذاتها دون تنظيم ذاتي، من الناحية السياسية والفكرية بخاصة، وحتى من الناحية الإجرائية أحياناً.
اليوم لا يمكن الركون إلى هذا اليقين القدري الذي استغنى بعدالة قضية الثورة وبانتشارها واتساعها عن بذل عناية خاصة بقضايا التنظيم والكفاءة، وضمان أقصى فاعلية ممكنة لها، واختيار التكتيكات القتالية الأنسب التي توازن بين المكاسب لمصلحة الثورة وتفادى الخسائر على المدنيين. من أجل ذلك لا يكفي الإخلاص ولا تكفي الشجاعة، ولا روح التضحية. ولا يكفي ترك الأمور على “السبحانية”، تسير كما هو مقدر لها. تلزم حلول مبتكرة على المستويين المدني والعسكري، بما يحمي المدنيين بقدر المستطاع من عدوان النظام، ويحسن فاعلية المقاتلين في مواجهة القوات الأسدية، ويقلل من الخسائر في أوساطهم هم أيضاً.
الثورة اليوم في سباق مع الوقت من أجل تدارك مصاعبها واستعادة زمام المبادرة. ليس محتما أن تنتصر قضية عادلة، ولم يكن ينقص الشعب الفلسطيني لا الإخلاص ولا التضحية ولا الشجاعة، لكن غالباً ما افتقر إلى حسن التنظيم والفاعلية، على نحو تواجه مثله القضية السورية اليوم. المشكلة ليست حتى مشكلة “أخطاء”، بل هي مشكلة تنظيم وكفاءة و”عقلانية” على مستوى الأداء. منبع “أخطائنا” هنا، قبل أن يكون في ممارسات مدانة أخلاقياً، أو في أوجه تقصير تكتيكية، يمكن أن تقع فيها حتى قوى منظمة وعقلانية. في هذا أيضا حال السوريين اليوم يذكر بحال الفلسطينيين.
ظروف الثورة السورية بالغة الصعوبة. والشعب السوري ترك مكشوفا أمام نظام احتلالي متطرف في وحشيته ولا وطنيته، تسانده بكل عزم قوى لا تقل عنه توحشاً ولا إنسانية. لكن لعلنا لم نساعد أنفسنا بالقدر الكافي. نعمل بفوضى وانفعال، ولا ننسق جهودنا، ونسارع إلى التخاصم حول صغائر الأمور.
الوقت يضيق، لكنه لم يفت. المهم أن تبدأ القيادات السياسية والميدانية والعسكرية والفكرية الاستنفار الآن بحثاً عن حلول مؤثرة لمشكلات الطور الحالي من الثورة. ليس هناك ثورة بدوام نصفي، ومن يتطلع إلى انتصار الثورة السورية عليه أن يتكرس لها وينخرط في ميادين عملها ويعمل على تشخيص مصاعبها، ويسهم في تطوير المخارج والحلول لمشكلاتها.