بات المشهد مألوفاً: أبٌّ مع زوجته وأطفالهما يحتلّون حيّزاً على أرصفة أحد الشوارع في دمشق. يُفضّل أن يكون الحيّز بجانب مطعم ما. سيلتفت إليّهم بعض الزبائن: يمنحونهم وجبة طعام، وفي الغالب، بقاياها!
في الحدائق نفس المشهد. يُضاف إليّه عنصرين اثنين: حبال غسيل أعدّتها العائلات النازحة على عجل (ما يزيد عن الستمائة ألف أسرة بحسب الحكومة السوريّة نفسها!)، وسيارات الشرطة التي تحيط بـ”الغرباء” القابعين في حدائق أحياء الطبقات الوسطى والغنيّة.. “الآمنة”!
بات مألوفا، أيضاً، أن يقترب من المارّة شبّانٌ أو رجالٌ يحمل البعض منهم هويّاتهم الشخصيّة. يتوّجهون بطلب الإعانة “لشراء حليب للصغير أو لشراء وجبة للعائلة”. يشيرون، عبر هوّياتهم، إلى مكان الإقامة: الحجر الأسود. التضامن. القابون.. وأحياء دمشقيّة أخرى: فقيرة ومهمّشة، ثائرة ومدمّرة!
لا يفوت أغلب هؤلاء التأكيد على كونهم أصحاب مصالح وأشغال وأنّهم”يكسبون قوت رزقهم من عرق جبينهم”. قبل أن يضيفوا “لكنّك تعرف الوضع. اضطررنا للخروج من منازلنا بالثيات التي نرتديها.. هربنا من الموت”!
هؤلاء النازحون، مع اللاجئين السوريين الذين سيبلغ عددهم قرابة مليون مع نهاية العام (المفوضيّة العليا لشؤون اللاجئين)، عدا عن عشرات الآلاف من المعتقلين، فضلاً عن الشهداء (ما يزيد عن الخمسة والثلاثين ألفاً) والمفقودين، هم: “شعب الثوّرة”، مجتمعها، سلاحُها الأمضى وزندها الأصلب.
يرتفع عدد القتلى في سوريا: ما يقارب المئتي شهيد يوميّاً. بات الرقم عاديّاً، وقد لا يسبّب الاكتئاب!
لكنّ العدد لا يطابق المعدود: ليس فقط لأنّ “شهداءنا ليسوا أرقاماً” بالطبع، ولكن أيضاً لأنّهم لا يموتون وحيدين: هنالك آلاف العائلات التي تفقد مصادر إعالتها بموت أحد أفرادها أو أكثر. يضاف إلى ذلك آلاف العائلات التي دمّرت منازلها (15 بالمائة من بيوت سورية، حسب تقرير بث على قناة العربيّة). ثمّة، إذاً، فئات واسعة من “مجتمع الثوّرة” تموت؛ تموت مجازيّاً… و”ثوريّاً”!
تحرق ميليشيات النظام السوري بيوت بعض الأحياء في مدن وبلدات سوريّة عدّة فقط لغاية واحدة محدّدة: منع أصحابها من العودة. ما لا يحرقه هؤلاء تتكفل الطائرات ببراميلها أو المدافع بقذائفها بتدميره. وما لا يدّمر بهذا أو بذاك تأتي الجرافات بحماية الميليشيات عينها و”المرسوم التشريعي رقم 40″ لتهدمه!. (تقرير لجان التنسيق المحلية: هدم المنازل العقابي في المدن السورية: جريمة حرب).
إذ، وكما هو جدير بالأنظمة التي تتخذ من الإبادة “سياسة” ضد محكوميها أو/ وسكان الأراضي التي تحتلّها، شرع النظام السوري بقوننة عمليات الإبادة التي يمارسها ضد “شعب الثوّرة” (القوانين التي صدرت في أيار وحزيران: مكافحة الإرهاب والتنظيم العمراني). يمكن اعتبار “قوننة التشبيح”، بحسب ما يمكن أن يعتقده نظام بشار الأسد، مدخلاً أنسب وأشد فعاليّة لمحاولة سحق الثوّرة عبر سحقٍ متعدّد الأوجه والأشكال لمجتمعها.
لا تؤلّف الكتائب الشعبيّة المسلّحة “الجيش الحر”، ولا الناشطون المدنيون، ولا، بالطبع، المعارضة السياسيّة ما يمكن دعوته مجتمع الثوّرة. فهذا الأخير هو مئات الألوف بل الملايين من أبناء المجتمعات المحليّة الصغيرة المهمّشة والفقيرة، والتي شكّلت وتشكّل “مادّة” الثوّرة. وليست الكتائب والنشطاء والمعارضة السياسيّة سوى تشكيلات ثانويّة أفرزتها تلك المجتمعات، بنسب متفاوتة، للاضطلاع ببعض المهام: الحماية، الإغاثة، و “ادّعاء” التعبير السياسي!
كلّ ما سبق، وغيره، قد يعيد الاعتبار، بعد إزاحة الإجابات “المباشرة”، إلى السؤال التالي: هل أنّ حرب الإبادة التي يشنّها النظام ضد المنتفضين عمياء حقّاً؛ بلا هدف؟! أم أنّ النظام السوريّ بات يسعى إلى تحقيق معادلته “الأسد أو نحرق البلد” وفق تعريف لا يُسقط حدّي المعادلة معاً: بقاء الأسد بعد حرق البلد؟!
في المبدأ، يمارس النظام السوريّ عنفاً محضاً، لا يغلب عليه التنظيم، ويتحوّل العنف الاعتباطي إلى شكل من العنف قد يكون في بعض الحالات أشدّ وطأة من ذاك المنظم والمنضبط بأهداف محدّدة. لا يسير عنف النظام وفق خط منتظم، وإن كان متصاعداً، ولا ينضبط قطعاً بشرائع أو قوانين أو أخلاقيات؛ ينهش النظام السوري جسد الثوّرة: يقتل أبناءها، عائلاتها، ويشرّدهم. يُخلي أحياء كاملة من سكانها. يدمّر أحياء وبلدات ومدن. لم يبق في “بنك أهداف” النظام، في مدينة كحمص مثلاً، أيّ شيء يمكن أن يشكّل هدفاً مشروعاً “من وجهة نظر النظام بالطبع!”. حمص المحاصرة منذ أشهر، التي ألهمت بمظاهراتها السلميّة الحاشدة وهتافاتها مئات الآلاف من السوريين، يُعنون، اليوم، بعض ناشطيها، وبمصداقيّة كاملة، أحد مقاطع الفيديو التي نُشرت على يوتيوب بـمظاهرة “طيّارة” في حي الوعر بحمص!
في المحصلة النهائيّة لم يعد ثمّة إمكانيّة للحديث عن شعب منتفض في مواجهة سلطة تتخذ من العنف العاري والمطلق وسيلة لـ”تسييس” المواجهة. المقصود بذلك، أن “شعب الثوّرة” الذي ثابر النظام على تحطيم شروط عيشه بات يفتقد إلى العناصر الأساسيّة لصموده: الإنتاج بمعناه المباشر “اليومي”… والبقاء!
في المقابل، ونظراً لخبرتهم “الفطريّة” بنظام التشبيح السوري، لا يبدو أن مجتمعات الثوّرة الأهليّة في وارد التراجع عمّا خرجت من أجله: إسقاط النظام. يتعلّق الأمر بالإرادة والعزيمة الصلبتين والاستعداد للتضحيّة. هذه العوامل التي أعطت للثوّرة في سوريا زخمها الأوّل واستمرارها الطويل. لن يكفي هذا بالطبع، لذا ثمّة تساؤل هو الأجدر بمحاولة البحث عن إجابة “عمليّة” له: هل ثمّة إمكانيّة أن تعيد الثوّرة إنتاج عناصر صمود مجتمعاتها الأهليّة وهي الثوّرة اليتيمة “داخلياً” وإقليمياً ودوليّاً؟! ليس الأمر بالهيّن قطعاً، الأسوأ أن الثوّرة تبدو عاجزة عن إعادة إنتاج هذه العوامل من داخلها، على الأقل وفق عناصر معادلة الصراع الحاليّة و”المستقرة”!
ليس في الأفق أيّه تحوّلات خارجيّة نوعيّة في مسار المواجهة قد تساعد المجتمع الأهلي المنتفض على شدّ أزره ولملمة جراحه: لا يمكن التعويل لا على الحراك الإيراني الشعبي المحدود” المرتبط بأسباب داخليّة بالدرجة الأولى”، ولا طبعاً على الغضب التركي الباهت “بضعة قذائف على موقع المدفعيّة السوريّة في الرقة لن تفيد الثوّرة وربما تفيد النظام!”، وليس ثمّة تعويل جديّ على “حراك القرداحة”!
تبقى الانتخابات الأميركيّة!
من المخيّب، بالطبع، أن ترتبط التحوّلات النوعيّة التي قد تعود بفائدة على الثوّرة في هذه اللحظة بمسائل خارجيّة. لكن، وبالمقابل، ماذا بإمكان ثوّار سوريا أن يفعلوا أكثر مما فعلوا؟!
تحيا الثوّرة لحظتها الأشد حرجاً وخطورة. تنتظر الثوّرة مفاجآت سارّة من العيار الثقيل، ليس ثمّة ما يرجّح إمكانيّة حصولها سوى.. الأمل!. وهو ما يمكن أن يترك للتفاؤل نافذة تسمح بإعادة قراءة اللحظة الراهنة كجزء متصل من مسار طويل لم يكن يوماً، ومنذ ما يقارب التسعة عشر شهراً، سوى: المسار الأكثر حراجة وخطورة في تاريخ البلد!