في بداية حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ،روج مفكرون ومثقفون (اليساريين خصوصا) في العديد من المقالات والدراسات لمقولة العالم المتعدد الأقطاب. وما قصد بذلك هو مشروع عالم متوازن لا يهيمن فيه القطب الواحد المنتصر في الحرب الباردة بشكل نهائي، فارضا نموذجه الاقتصادي والسياسي وجبروته العسكري على العالم، ومعلنا بذلك نهاية التاريخ. وميزة عالم متعدد الأقطاب هي أنه يحتفظ بخاصيات الردع والصراع والجدل بين نماذج اقتصادية وسياسية لا تتشابه ولا تتماثل، مما يبقي المستقبل مفتوحا، والمجال رحبا أمام العالم الثالث لاختيار تحالفاته بحرية ومع المراكز الأكثر رحمة به وبفقره وتهميشه .  وفي الواقع ومع ازدياد القوة الاقتصادية لكل من الصين وروسيا والهند بسبب طابع اقتصادهم الإنتاجي الادخاري، فقد أصبحنا في الحقيقة أمام مراكز متعددة للرأسمال العالمي وليس مركزا واحدا تدور الأطراف من حوله. أيضا وأيضا وبسبب العولمة فقد انتشر السلاح (شاملا كان أو تقليديا) بشكل غير مسبوق على الساحة العالمية ودون انضباط أو اندراج في محاور أو أحلاف معينة، مما يجعلنا أيضا أمام تشظ غير مسبوق لاحتكار القوة. وبالتالي فربما أصبحنا فعلا وواقعيا نعيش في عالم متعدد الأقطاب، وهذه الأقطاب تحاول أن تنشأ مناطق نفوذ وسيطرة لا بناءا على الأيديولوجيات أو التشابه العرقي أو الثقافي، بل على الخوف المشترك من سيطرة قطب ما وتفرده بالعالم، هكذا بررت الولايات المتحدة الأميركية درعها الصاروخي في أوروبا بالتخويف من الخطر العسكري الإيراني، وبنت كل من الصين وروسيا تحالفات وثيقة مع كل من إيران والسودان وكوريا الشمالية ودول بريكس، والآن مع النظام في سوريا، وسوغت دعم أنظمتها أمام شعوبها بالتخويف من الاستفراد الأميركي في العالم. هذه الممانعة للمشروع الأميركي العتيد أصبحت المسوغ الوحيد لتراكم الأسلحة ورسوخ الاستبداد وحكم النخب الدينية والعسكرية واستمرار الجمود في العديد من بقع العالم . ولكن امرءا يجد في نفسه بعض النباهة يسأل السؤال التالي: هل أصبح العالم بتعدد مراكز القوى الاقتصادية والعسكرية عالما أفضل وأقل خطرا؟ لم يكن هذا السؤال ملحا عندما كان الصراع بين الأقطاب باردا، ويعتمد مبدأ التحصين الاقتصادي البطيء وتقوية الحلفاء وترسيخ مناطق النفوذ وتكديس الأسلحة فيها. حينها لم تستعجل الصين وروسيا الظهور كقطب سياسي ذو مصالح واضحة التباين عن شركائهم الغربيين، حتى جاء الربيع العربي ففتح مساحة شاسعة لإعادة التركيب وتقاسم النفوذ والهيمنة. لم يعد العالم في وضع ساكن يمكن التنبؤ بحركاته ومترافق مع إحساس عام بتراجع وانكسار الأمريكيين بعد ورطتهم في العراق، بل أصبحنا نقف في اللايقين الذي يعني بالضرورة القلق والحاجة إلى المبادرة. لم يعد يكفي التهديد المبطن الذي مضمونه: إما أن تقبلوا نمونا الاقتصادي والعسكري وازدهار مناطق نفوذنا، أو نخرب العالم اقتصاديا، وربما عسكريا، على رؤوس الجميع! هذه الطريقة الشمشونية لم تعد تجدي في هيكل يخرب فعلا… وصاحب النفوذ الآن ليس من يهدد بالخراب، بل هو الذي يستطيع أن يدير الخراب فيقوم بهندسة إعادة الإعمار على ذوقه. كل هذا أدى إلى تسخين الصراع البارد بين الأقطاب وخروجه سافرا إلى العلن. وما كان ممانعة سلبية وشبه صامتة أصبح اندراجا فعالا ومبادرا في الاحتراب حول مستقبل منطقة الشرق الأوسط، والقوة التي كانت تنتج للردع والتخويف ربما تستخدم الآن لإثبات الوجود على الأرض مما يعني التهديد باستخدامها فعلا في المناطق المفتوحة وغير المستقرة. فإذن نحن أمام مستقبل عالمي هو تحت رحمة قوى دولية لا يهمها إلا إثبات قوتها بأي ثمن. ومن الطريف بمكان أنه يبدو مستحيلا المفاضلة بين هذه الأقطاب المتعددة قيميا وأخلاقيا، فجميعها تعتمد أنظمة رأسمالية احتكارية، و شعوب هذه الأقطاب لا ناقة لها ولا جمل في تقرير الصراع أو توجيهه، والعالم النامي والشعوب الفقيرة لم تستفد من هذا الصراع إلا المزيد من الفقر والتوتر والتحكم بمصيرها، وما زال التنافس على أراضي بلدانه كمناطق نفوذ قائما. ومن الطريف مراقبة تكاثر التلفيزيونات الناطقة باسم الأقطاب المختلفة، وسباقها المحموم على ذهنية الإنسان في منطقتنا العربية لصالح هذا المحور أو ذاك، وربما يشبه المرء ذلك بالمنادين على الباصات في الكراجات الشعبية، حيث أن تنوع الأصوات لا يفضي إلى اختيار حر وواع بل إلى جو من الهذر والاختناق وضياع الهدف. الجديد في هذا النوع الجديد من الصراع، أنه لا يعبأ بتسويغ نفسه أخلاقيا. هذا بينما كنا نجد التبرير الأخلاقي أيام الحرب الباردة التي كانت في جوهرها صراعا بين مفهومين متباينين للأفضل الإنساني (العدالة الاجتماعية في مقابل الحرية الفردية)، وكذلك في الحرب العالمية الثانية فقد كانت صراعا (خاضه الغرب مع ذاته ) ضد أن تتحول الحداثة الغربية إلى فاشية دارونية عنصرية. أما صراعنا القطبي فلا يجد الحاجة لإسباغ معنى أخلاقيا له إلا في الحد الأدنى وهو ممانعة هيمنة “الآخرين”، دون الحاجة إلى التفكير بأي معنى يجعل هؤلاء الممانعين بشرا أفضل من “الأخرين”، ولماذا لا يكون الممانعون ساعين إلى الهيمنة بدورهم، ومن يحدد من هو المهيمن ومن هو الممانع. ويشبه هذا الحال شكل الحروب الأهلية الطائفية من حيث اعتماده على هويات متمركزة على ذاتها، ومن حيث بناء الصراع على قاعدة التخويف من الأخر. وكما أن السلم الأهلي المبني على توازن الردع بين الطوائف لا يعني أن حربا أهلية لن تشتعل يوما ما وتأكل الأخضر واليابس في البلدان المريضة بالطائفية والقبلية، كذلك لا يعني توازن الردع بين الأقطاب المبني على التنافس المحموم بالضرورة حماية للسلم العالمي، بل ربما يفتح مستقبل العالم على احتمالات ليس العنف المنفلت الأعمى أقلها. إذن هذا الصراع يشبه حقا الصراعات الطائفية، إن من جهة الردع الطائفي البارد أو العنف الطائفي الساخن، وهو بالتالي لا يخدم إلا أمراء الطوائف العالميين، من نخب اقتصادية ومافيوية ودكتاتوريات. وهو يستخدم البشر كأدوات حروب وكساحة ذهنية للاستثمار الإعلامي، ويحق لنا أن تساءل كم نحتاج لتيار إنساني عابر للقارات والأقطاب والطوائف ذو نزعة تحررية وربما ثورية، وينطلق من القاعدة كي ينقلب على هذا الصراع القطبي الطائفي، ويضع في مركز الصراع القيم الإنسانية الأصيلة، ويعرّف الخصوم على أساس أنهم خصوم تلك القيم لا على أنهم المغايرون بالهوية، ويستعيد بذلك نكهة الصراع الطبقي. إن كان الصراع الطائفي العالمي خفيا ومقنعا في الماضي القريب، فهو الآن يسفر عن وجهه رويدا رويدا، بعدما فعله الربيع العربي من خلط للأوراق و إطلاق للديناميات وكسر لأقفال المستقبل. ويبدو لنا أن الحرب الإعلامية بين التلفيزيونات الناطقة بالقطبية تدور حول من يستطيع أن يضع في جعبة نفوذه الطاقة الهائلة لرياح الإسلام السياسي، بحيث تخدم مصالحه وتوجه ضد خصومه. هكذا فهم بوتين دعم الأميركان للمعارضة في سوريا حيث شبهه بدعم الأفغان في الثمانينات، وهكذا أفهمُ حماس الإيرانيين لاستقبال الرئيس محمد مرسي وتغاضيهم عن مضمون خطابه، وهكذا أفهمُ أيضا لماذا تصدر عنوان برنامج حواري عربي شهير السؤال التالي: هل أصبحت روسيا عدوة الإسلام والمسلمين بدل الولايات المتحدة الأميركية؟