ما الذي ينتج عن استنتاجنا: أن العنف التربوي الذي تلقيناه كان مفيداً، أو لم يكن على تلك الدرجة من السوء؟ وما الذي يمكن أن يوصل إلى استنتاج كهذا؟

تمارس القسوة العائلية عادة ليكون الطفل عند حسن ظن مربيه، محققاً لتوقعاتهم، واستمراراً لهم. الإيلام، وما يذكر به من تهديد ونبرة صوت وملامح وجه ووضعية جسد، يضاف إلى التهديد بإفناء الوجود الشخصي، والحط من القيمة بالشتم والتبخيس والحيونة والاستباحة، كل ذلك يشكل عدة تستخدم لتعميد الطفل بالرعب كي يمتثل لضوابط المربّين ونواهيهم، حيث يُفترض بهذه الوسائل (التربوية) عندما تمارس تحت مسمى صالح الطفل أن تساعده في التهيئة الضرورية للذات لمواجهة تحديات الآخر. أيّ عبور خارج القيم المرسومة للذات، بكلام آخر أي محاولة للعبور نحو الآخر من حيث هو نقيض الذات المقبولة تربوياً، يستدعي تهديدات الألم أو الافناء أو الاهانة، التي تفقد تالياً صلتها المباشرة بموضوعاتها لتصير مؤشرات رمزية على حتمية الخضوع. وإذ تستخدم هذه الإشارات الرمزية لرسم الحدود الخارجية للذات فإنها ترسم في نفس الوقت مخططاً أولياً لملامح الآخر. فيرتبط الآخر بالإيلام والخوف من الإفناء والإهانة، ويصير نجاح العلاقة التربوية مشروطاً بالانصهار في الذات الجماعية اللافردية التي يقترحها المربي، وإحالة كل ما هو سلبي إلى الآخر، نقيض الذات، وتجسيداته غير المشمولة ببركة المؤسسة التربوية.

لا يصح اختزال الأثر النفسي للفعل التربوي بتجارب بافلوف في الفعل المنعكس الشرطي ولا إرجاعه إلى اشباهها من ارتكاسات عصبية آلية. إذ لا يصح اختزال الإشراط الانساني بكونه منعكساً عصبياً، فهو على مستوى عال من التركيب والرمزية، وفهم النفس من خلال الآليات الفيزيولوجية العصبية قاصر كفهم الفن التشكيلي من خلال فيزيولوجيا العين. ليس الإنسان حيواناً، وطالما هو من يطلق تسمية الحيوان لتمييز هذه الكائنات عن نفسه فلا يبقى من معنى من اعتباره لنفسه حيواناً، وإن كان يشترك مع الحيوانات بكثير من الصفات، وكما قال أرسطوطاليس: لا يستطيع الانسان أن يكون حيواناً إلا إلى حد. حيونة الإنسان، إقناعه بلا إنسانيته، يكون من جهة عبر معاملته من خلال نظرية تبسيطية اختزالية: الألم والتهديد بالأذى و/أو الافناء يكفيان لرسم حدوده والتعامل معه ضمن هذه الحدود تالياً، ومن جهة أخرى عبر نزع الأنسنة عن آخره الانساني، عن ما ليس ذاتاً، الغريب، ولا يتم ذلك إلا عبر حيونة الذات بداية ، قمعها وإخضاعها، وإرغامها بعد ذلك على نزح كل ما هو سلبي إلى الآخر. تحشر الضحية التربوية في حيز ضيق من الحرية، فإما أن تمتثل لإرادة المربي أو أن تكون موضوع إيذائه الجسدي و/ أو المعنوي، فيبدو العالم لكل من المربي وضحيته وقد جرى اختزاله لهذه الدرجة أو تلك بهذه الزاوية الضيقة. فيشيع تجنب الايذاء إما بالرضوخ الصوري للمعادلة التربوية، لتبحث الذات بعد ذلك عن امتلائها في هوامات الخيال، التعويض باللعب، بالسلوك العدواني وبالتمرد والشغب. أو عبر سلوك أمْيَل إلى الامتثال الحقيقي للقيم التربوية، فيتحول الطفل إلى مفتش ذاتي عن مواطن الآخر في كل من الذات والآخر أيضاً، أي عمّا ينسب للآخر حتى لو كانت أجزاء جوهرية من الذات كونها خارجة عمّا هو مقبول في محيطه التربوي: ليبادر إلى قمعها، قمعاً ذاتياً و/ أو غيريأً، ربما يكون ذلك منطلقاً جيداً لفهم الأشخاص المصرّين على قمع أي سلوك عفوي أو تلقائي يبدونه هم أو من في محيطهم.

كثيراً ما تكون الشعارات الأخلاقية العامة التي يرفعها المربون القساة عابرة متهافتة أو قابلة للتغيير، لتبدو القسوة هي جوهرهذه التربية، كأنها هي العبرة الأخلاقية التي يحاول المربي إيصالها. قبول القسوة والخضوع لها شرط أساسي للحد منها والتعايش مع المربي القاسي وتجنب أذاه والمخاوف العدمية التي ترتبط بمعاندة توقعاته، إضافة إلى التمتع بجوانب شخصيته الإيجابية، وربما الترقي في سلم التقرب منه. لكن قبول القسوة تجاه الذات موقف عدواني منها، فما تعاديه القسوة هو فردية الضحية التربوية، عفوية الذات وحيويتها التلقائية، سمات الذات الجوهرية هذه، كونها أهم ما يهدد الانصياع، هي ما يجري عبر العنف واستبطانه تالياً استغرابه وتغريبه، ضبطه وعزله وإقصاؤه، إيذاؤه وإيلامه وإهانته ومحاولة إفنائه، سواء أطلت برأسها من الذات أو من الآخر. فمشروع القسوة الارتياح من كليهما: من الذات والآخر، والاكتفاء بالعيش في عالم صوري، تمارس في فضائه الجمعي درجات مختلفة من عنفٍ يجري التعامل معه على أنه عارض بديهي ولا بد منه.

يعكس اعتبار العنف التربوي أمراً مفيداً أو ضرورياً أو غير بالغ السوء رغبة بتبريره أمام ما تبقى من شعورفردي بالذات. فهو ليس تعبيراً عن استبطان هذا العنف فحسب، بل شرعنة للميل إلى التحول من استهلاكه إلى انتاجه. تطبيع العنف، واعتبار الخضوع له في التاريخ الشخصي حدثاً غير ذي أهمية، يتماشى من جهة مع فقدان الذات لحيويتها وتلقائيتها: أهم الملامح التي يتقصدها العنف وتستدعي الاحتجاج عليه، ومن الأخرى مع قبول الانصهار التام في الذات الجمعية، لتصير علاقة القامع بالمقموع أشبه بعلاقة داخلية ضمن ذات عابرة للأفراد. في محيط تربوي كهذا، لا يعترف بحدود واضحة للفرد، يجري عبر الخضوع للعنف وإعادة إنتاجه التأكيد على مجانيته وإعدام قيمته الرمزية، وصولاً إلى الامتثال الكامل له والتغني بنبل غاياته.

بدون مراجعات ذاتية تبقى الحرية شعاراً لا ينسجم طويلأً مع بنية نفسية ناشئة على قيم تربوية جوهرها القسوة، حتى وإن جرى خلال مسيرة الحياة تبني شعارات أخلاقية تتعارض مع الشعارات التي جرت ممارسة القسوة باسمها وربما تعاكسها. لا معنى لكلام عن الحرية دون مراجعة التربية القاسية بالذات، ما لم تجر مواجهة العنف الذاتي المستبطن، ابتداء من الاعتراف بوجوده. يشكل شعار الحرية رعباً على أكثر من مستوى بالنسبة لداعمي نظام يقوم بأكمله على الإقرار بالفضل الأخلاقي للعنف والقسوة في جميع مؤسسات المجتمع ابتداء بالعائلة انتهاء بالعائلة الحاكمة. فهو مرعب لأنه يذكر بالجوهر المقموع للذات، الجوهر الحر العفوي التلقائي الحيوي الذي تستدعي ذكراه ملاحقته بهدف قمعه أو التبرؤ منه لأنه مستغرب ويرمز باطلالته من الذات إلى امكانية خيانة الذات الجمعية البديلة عن الذات الفردية المقموعة، وما يستدعيه ذلك من مخاوف عدمية وشعوربالتهديد بالأذى والألم والإفناء، وإلا فالشعور بعبثية الخضوع المديد الذي طبع البنية النفسية برمتها. وهو مرعب لأن مصدره بالنسبة للكثيرين الآخر المهدّد، أو تجسيد هذا الآخر بالنسبة للمحيط التربوي الذي نشؤوا فيه. ومرعب أيضاً: عندما يأتي  بصورة أساسية من بنى شعبية تقليدية ذات سمات تربوية مشابهة لتلك الخاصة بالذات ولا تختلف عنها كثيراً في قبولها للعنف والقسوة ونبذ الآخر، ليبدو بذلك الإغواء بالحرية ظاهراً باطنه التهديد بالأذى والافناء، فيعتقد الموالي في دخيلته أن الثائر لا يريد تحريره من جلاده، بل جلّ ما يريده أن يجعل كلاً من الجلاد والضحية المواليين خاضعين للجلاد والضحية الثائرين. يحدس النظام بالخطوط العامة لآليات هذه المخاوف، فيعززها بالتركيز على البنية التقليدية والشعبية لنشأة الثوار، وباتهامهم بالسلفية والجهادية، وبالتالي فدعواهم للحرية هي دعوى لتحريرغولهم- الآخر الذي سيفترسـ”نا” ويراهن نظام كهذا على أن شعار الحرية لا ينسجم مع تربية تقليدية تتقبل القسوة عموماً، وما يرتبط بهذه التربية من اعتياد لرسم صورة الذات بالعلاقة مع آخر محيوَن ومستباح. وهكذا يمكن للنظام أن يعتمد في حربه ضد الثائرين على مثنويات من نوع: علوي- سني، أقلوي- أكثري، عربي- كردي، غني- فقير، بدوي- ضري، فلاح- مديني … يمكنه استخدام بعضها بالاتجاهين حسب مقتضى الحال وتوظيفها مرجعية لتغريب الآخر وحيونته ونزع الأنسنة عنه، وتشكيله رمزياً كقوة عدمية تهددـ”نا” بالافناء، والارتكاز على المخاوف العدمية التي تثيرها الحرية من حيث هي إِشارة إلى ضرورة مراجعة بديهية القسوة وتاريخيتها النفسية الفردية.

ستنجح الثورة بمقدار ما هي ثورة حرية بالمعنى الحقيقي للكلمة، بمقدار ما تكرس قيم تتجاوز الموروث التربوي المعادي لكل من الذات والآخر، بمقدار ما تصر على رفض حيونة الآخر واستباحته، ومقدار ما نراجع ذاتنا ونحطم من أوثان.