ﻻ محفز للتفاؤل بمستقبل المجلس الوطني، ولا دافع لإخراج الحديث عنه من دائرة الرتابة والملل التي دخلها منذ أشهرٍ طويلة، فكلام المجلس عن “إعادة الهيكلة” وعن “تفعيل الأدوار” وعن “اتباع الأساليب الديمقراطيّة في اختيار المناصب القياديّة” هو نفسه منذ ثمانية أشهر على الأقل، كذلك اﻻنتقادات التي يتلقاها حول مسيرةٍ متخبّطة وارتجاليّة ومليئة باللطخات المظلمة. المجلس جامد في مكانه منذ ما بعد إنشائه بفترة بسيطة، لكن السوريين، من بقي منهم على قيد الحياة، أصبحوا في زمانٍ ومكانٍ ومنطقٍ مختلفين.
ولد المجلس الوطني كمشروعٍ لمظلّة جامعة لمختلف أطياف المعارضة، كمحاولة لإنشاء مرجعيّة سياسيّة تغطّي العمل الثوري ضد نظامٍ إرهابيّ فاشي، وبعد غير قليلٍ من التلعثم واﻻرتجال بالعموميات العقيمة في حديثه عن النهج السياسيّ المتبع وكثيرٍ من الشعبوية المنتشية بتعبيرات دعم الشارع الثائر لما اعتبره الخيار السياسي الأكثر جذريّة ضد النظام والأقدر على دحره، قرر أن هناك معركة واحدة ضد النظام وهي مجلس الأمن، وكلّ ما عدا هذه المعركة ضجيجٌ خارج أوانه. هكذا، وبين البيانات والمؤتمرات الصحفيّة واللقاءات، ساد جوٌّ من الشلليّة التي بدت وكأنها تجهيزٌ للمواقع لما بعد السقوط “الحتمي” والمدوي والفوري للنظام بقرارٍ تحت الفصل السابع قادم ﻻ محالة غداً صباحاً. الكفاءة العمليّة والخطاب السياسي الداخلي وسياسات تدعيم العمل الثوري والإغاثي، ثم العمل على انضواء العمل العسكري تحت سيطرة ومرجعيّة القرار السياسي، كلّها كانت تفاصيل بانتظار المعركة الحاسمة. فيتو مزدوج روسي- صيني، ثم فيتو مزدوج آخر، ثم بحث يائس عن ساحة معركة خارج مجلس الأمن عن طريق مجموعة دول “أصدقاء الشعب السوري”، لكن وقائع الجيوستراتيجيا أقوى من قدرات المجلس الوطني كمجموعة علاقات عامة دوليّة، وهي ليست بالقدرات الكبيرة أصلاً.
خسر المجلس الوطني معركته التي أرادها الوحيدة، ولكلّ هزيمة ثمن: انفرط عقد الهيئة السياسيّ، وهو عقدٌ احتاج لكثيرٍ من الجهد لتخيّل وجوده أصلاً. كثُرت النزاعات الداخليّة، وكثُر التعبير عنها خارج الأروقة بطرقٍ قليلة الرصانة. تزايدت الأنباء عن شخصياتٍ وجماعاتٍ مجلسيّة تعمل خارج إطار المجلس للحصول على وﻻءاتٍ خاصّة ضمن المقاومة المسلّحة، وازدادت وطأة رائحة المال السياسي والتبعيّة المصلحيّة لجهاتٍ إقليميّة خليجيّة وتركيّة، وهي رائحة لم تغب أصلاً منذ بدايات عمل المجلس. لم يعد من الصعب إيجاد تبادل علني للشتائم واﻻتهامات بين أعضاءٍ في المجلس الوطني على الشبكات اﻻجتماعيّة، أوتصريحات لأعضاء يعبّرون علناً عن جهلهم بما يفعله المجلس. انسحابات، تجميدات للعضويّة، عضو مكتب تنفيذي يستقيل وينشر رسالة مفتوحة فيها اتهامات خطيرة جداً للمجلس ككل ولشخصيّة أحمد رمضان بالذات (وليست أولى الاتهامات لرمضان، ولن تكون الأخيرة على ما يبدو) وحديث عن مبالغ مالية بحجم 20 مليون يورو يُساء التصرّف بها، وبعد أيام قليلة يعود هذا العضو عن استقالته وتعبّر قيادة المجلس عن ارتياحها لانتهاء “سوء التفاهم”. هكذا. بكل بساطة وبرودة. ﻻ تفسير، ﻻ شروحات، ﻻ شفافيّة ماليّة وسياسيّة، بل كثيرٌ من قلّة اﻻحترام للرأي العام السوري، الذي يعيش جحيماً ﻻ تعرفه إﻻ الشعوب المحتلّة.
والآن، ماذا الآن؟
يسوّق المجلس الوطني حلاّ مفترضاً لأزمته المزمنة بعنوان “إعادة هيكلة”، وهو التعبير الذي تزامن استخدامه مع جلّ سنةٍ هي عمر هذا الكيان السياسي، وقوام هذا العنوان هو رفع عدد الأعضاء من 300 إلى 600 عضو. أي، بتعبيرٍ آخر، عدد أعضاء المجلس الوطني سيكون أكبر من عدد أعضاء جلّ البرلمانات الأوروبّية، وأقل بـ22 عضو من عدد البرلمانيين الفدراليين الألمان. لماذا؟ كم مرّة سيجتمع هؤﻻء؟ كم مرّة اجتمع الـ 300 عضو الأساسيين أصلاً؟ أو لنبدأ السؤال من مكانٍ أعمق: ماذا فعل الـ 300 عضو، وأغلبهم لا نشاط سياسي فعلي له وﻻ عنده دراية بما يُقرّر ويُنفّذ من قبل المكتب التنفيذي، المبني على توازناتٍ لم يجهد أحدٌ نفسه لشرحها للناس لتبيان مَن قررها وكيف ولماذا؟! ماذا كان نفع الـ 300 كي يكون من الإيجابي أن يصبحوا 600؟ تقول القيادة أن زيادة العدد ناتجة عن ضم عدد كبير من الفاعلين في الحراك الثوري، بالإضافة إلى عشراتٍ من القوى السياسيّة الجديدة وهيئات مجتمع مدني. خلال العام المنصرم لم يتمكّن الرأي العام من التعرّف على هويّة وعمل غالبيّة أعضاء المجلس، بما فيهم أعضاءٌ نافذون وفي مناصب القرار رغم انعدام المعرفة عامة بتاريخهم السياسي أو المهني أو توجهاتهم أو علاقاتهم الخارجيّة والداخليّة، بل أن الكثير من أعضاء المجلس ﻻ يعرف بعضهم الآخر، والآن سيتضاعف عدد هذا الضياع بشخصياتٍ ﻻ يعرف الرأي العام بعد، وليس ثمة ما يشجّع على تأمل أنه سيعرف يوماً، من هم، من أين جاؤوا، لماذا تم اختيارهم ومن اختارهم، هل هم كأشخاص وكهيئات سياسيّة مجتمع مدني واقع حقيقي أم تعليب خلّبي لتمويه إدخال المزيد من المحسوبين على جهات سياسيّة بعينها، كجماعة الإخوان المسلمين مثلاً؟ دون علنيّة ووضوح ونزاهة هذه المسائل ﻻ معنى لإعلان تغيير آليّة اختيار الشخصيات القياديّة من التعيين بالتشاور إلى اﻻنتخاب، حيث أنه ليس ما يضمن أن كلّ جماعة قد أمّنت كتلة من المحسوبين عليها تصوّت لمرشحيها بالأمر وليس بالقناعة، ما سيجعل اﻻنتخاب مجرّد مسرحيّة، وبعد كلّ ما سُمع وشوهد عن المجلس الوطني في العام الأخير ﻻ مكان، صراحةً، لافتراض حسن النوايا.
بعيداً عن هذه المسائل التنظيمية، والتي يؤشّر شغلها لشهور طويلة من “الإصلاح” لمدى فاعليّة المجلس الحقيقيّة، هناك أسئلة أهم يجب أن تُطرح: ماذا يعني المجلس الوطني سياسياً اليوم، أكان على المستوى الداخلي أم على مستوى العلاقات الإقليميّة والدوليّة؟ في الداخل لم يشكّل مرجعيّة سياسيّة ﻷنه لم يطرح خطاباً واضحاً يوماً عدا “إسقاط النظام”، وهذا بحد ذاته ليس برنامجاً سياسياً وعملياتياً، كما أنه لم ينجح كمجلس بفرض قيادة سياسيّة على العمل العسكري المعارض ككل وﻻ على أجزاء منه، رغم أن شهاداتٍ وتقارير تشير إلى أن لبعض أركان المجلس وقياداته أدوارٌ غير نزيهة في شراء وﻻءاتٍ ضيّقة، ولم ينجح حتى في بناء تنسيقٍ جدّي مع القيادات العسكريّة، والتي استشعر بعضها فراغاً سياسياً متاحاً لدرجة أنهم منحوا لأنفسهم صلاحية طرح مشاريع حكومات انتقاليّة دون المرور بالمجلس. أما بما يخص العمل الإغاثي فإن الضجيح والاتهامات والمشاحنات تغطي بشكل شائن على إحدى أسمى وأهم الواجبات الحاليّة تجاه الشعب المُعنّف. وليس الوضع خارجياً بأفضل، فالثقة بمقدرات المجلس في ساحات السياسة الدوليّة في انحدار شديد من أشهر، وأغلب سياسات وطروحات الدول الفاعلة دولياً لم تعد تمرّ بالمجلس الوطني ولو حتى بروتوكولياً. ﻻ شيء جذّاب سياسياً في هيئة يفترض أنها تفخر بانتزاع دورٍ تمثيلي شرعي للشعب السوري يقتصر عملها، في أغلب الأحيان، على أن تكون وفداً مرافقاً لذاك الوزير أو هذا الرئيس في تصريحاته ومشاريعه. إن طرحت تركيا فاروق الشرع كشخصيّة مقبولة لمرحلة انتقالية فالمجلس يقول أنه اقتراح جدير بالأخذ بعين اﻻعتبار، وإن طالبت قطر بتدخّل عسكري ضد النظام لدحره فالمجلس سيوافق إيجاباً أيضاً. ﻻ فرق!
يسخر الكثيرون من مقدرة المجلس الفائقة على إعلان المدن والمناطق “المنكوبة” في الداخل، ولعلّه معنيٌّ بأن يعلن نفسه منطقة منكوبة سياسياً. يؤسف القول أن اجتماع المجلس المقبل في الدوحة قد ﻻ يعني أحداً بشيء في الداخل، ولن ينتظره الرأي العام ولن يتوقع منه شيئاً خارج حزمة جديدة من التصريحات والوعود الفضفاضة والتعميميّة، والمؤسف الأكبر أن هذا الوضع مرشّح للاستمرار..