إن الحديث عن موضوع “الاغتصاب” في مجتمع كالمجتمع السوري من المحرمات الاجتماعية التي تلقى صداً كبيراً، ومواربة من مختلف الفئات الاجتماعية، نظراً لما تشكّله هذه القضية من حساسية اجتماعية، وما تتركه من آثار سلبية على من وقع عليها الفعل، أو على عائلتها ومحيطها الاجتماعي.
لى الرغم من أنّ المغتصبة هي “الضحية الأولى” لاعتداء مباشر على جسدها وكيانها وروحها كإنسان، فإنّ تعامل المجتمع مع قضيتها بذلك النوع من التجاهل، أو الإنكار والتغطية والتستر، لا يرتبط بهذا الاعتداء المباشر الذي وقع عليها فقط، وإنّما يرتبط بمنظومة اجتماعية متكاملة عملت منذ قرون، وما زالت، على ممارسة العنف ضد المرأة تحت مسميات وذرائع متعددة منها العادات والتقاليد، ومنها ما يلصق بالدين، ومنها ما يأخذ من ضرورة حمايتها حجة وذريعة إضافية لمزيد من العنف الممارس ضدها ومزيد من الوصاية عليها. ولو أردنا تحليل موقف المجتمع من المغتصبة، فإننا لن نكون بمعزل عن مناقشة وتحليل كل تلك القضايا التي أنتجت ذلك الموقف من قضية الاغتصاب عموماً.
إنّ الآليات الاجتماعية التي أنتجت موقف المجتمع والبيئة الاجتماعية المحيطة بالمغتصبة وبناها المتجذرة، بنيت خلال عقود بل قرون طويلة على مجموعة من الأفكار والعقائد المتوارثة، والتي باتت تشكل جزءاً أساسياً من البنية الذهنية وآلية التفكير التي تحكم السلوك الاجتماعي عموماً، مع اختلاف بالتفاصيل بين بيئة وأخرى. تلك البنية التي أنتجت بدورها نماذج مختلفة وأشكالا من السلوك الاجتماعي تبرر العنف ضد المرأة وتشرعنه، بل لا تُعتبر الكثير من الممارسات اللإنسانية بحد ذاتها عنفاً، والمجتمع السوري كغيره من المجتمعات العربية الأخرى ليس بعيداً عن تلك البنى الاجتماعية، ولا الممارسات، وإنّما يختلف بالتفاصيل المرتبطة بالبيئة والعوامل الاجتماعية المحيطة، وليس أبعد من ذلك.
إن تفكيك تلك البنى والآليات الاجتماعية لا يتوقف على مناقشة وتحليل موضوع “التمييز ضد المرأة”. كما إنّ الحديث عن التمييز، ليس مجرد حديث عن نظام جماعي يصيغ العلاقة بين النساء والرجال بصيغة مؤسسية، يظهر من خلالها العقل الجمعي الذي يرتب الفوارق بين الرجل والمرأة، ويمنح مميزات لجنس دون آخر، أو إنّ العنف مجرد سلوكاً فردياً يشكل أزمة أو حدثاً استثنائياً مخالفاً للعادة أو القانون، ويتمظهر في شكل اعتداء على جسد الآخر؛ إنّما التمييز هو بحد ذاته عنفاً مؤسِّساً لأشكال مختلفة من العنف تحافظ آلياتها أيضاً على التمييزالذي يستهدف الوجود الإنساني بحد ذاته ، والاعتداء ليس اعتداءً على ملكية الآخر فقط بل اعتداء يستهدف وجوده كإنسان، ونفياً لجوهره الإنساني، وهو كالعنصرية تماماً، فيه نفي للإنسانية الكاملة للمرأة، وإنكاراً ونفياً لمبدأ المساواة الذي يؤسس لكل الحقوق والواجبات المفترض أن تكوّن للجميع. فالعنف والتمييز كلاهما يؤدي إلى الآخر، لأنّ العنف آلية للحفاظ على التمييز، من خلال فرض أدوار نمطية تقليدية على المرأة تمنعها من حرية الحركة وحرية التصرف حتى بجسدها، فالمرأة غير مالكة لجسدها، وذلك يظهر في تبعيتها للأب أو الزوج، وعدم ملكيتها لجسدها هو الذي يؤدي إلى مراقبة دقيقة لحياة المرأة الجنسية، وهو الذي يؤدي إلى جرائم الشرف. وعدم ملكية المرأة لجسدها يعني في الوقت نفسه عدم الفصل بين جسد المرأة والجسد الرمزي للمجموعة (القبيلة، العشيرة، الأمة)، كما يعني نفياً تاماً للمرأة ككيان مستقل، ولذلك كلما تعرضت المجموعة لأزمة وضع جسد المرأة في قلب الأزمة، واقترحت الحلول التي تزيد من مراقبة جسد المرأة وتتجنب الحلول الأخرى التي تواجه الواقع. وهذا يجري في مجتمعنا الذي نجد فيه فاعلين أساسيين لا يرون حلولاً للفقر والبؤس السياسي والتبعية إلّا في مزيد من مراقبة جسد المرأة، أو المزيد في حجبه. وأحياناً يصبُّ العاجزون عن الفعل السياسي كل غضبهم على المرأة لسهولة عملية الإسقاط هذه، ولقبولها وشرعنتها من قبل المجتمع لأنه لم يتم الفصل بين جسد المرأة وجسد الأسرة أو القبيلة أو الأمة، فبقيت المرأة “حارسة الهوية”، والشرف الاجتماعي، ولذلك يكون الاعتداء على جسدها اعتداءً على كل تلك الأسرة أو القبيلة وحتى الأمة. هذا ما يفسر انتشار حالات الاغتصاب بكثرة خلال الحروب، إذ يتخذ العدو من النيل من جسد المرأة واغتصابها طريقاً للنيل من المجتمع الذي يقع عليه الاعتداء كله، وإهانة له ولكرامته ولشرفه، لذلك يبادر هذا المجتمع إلى إخفاء الجريمة التي تعرضت لها المرأة تجنباً للفضيحة والعار الذي قد يلحق به إن تمّ الإفصاح عنها. وأحياناً يعمد إلى ردود فعلية انتقامية تكون المرأة ” الضحية” أيضاً جزء منها، إذ قد يبادر البعض إلى قتل المغتصبة، أو الضغط عليها وإخفاءها بعيداً عن العيون مما يدفع بعضهن لقتل أنفسهن لتصبح ضحية مرتين. في أحيان أخرى يبادر البعض الآخر إلى تزويج المغتصبة العازبة أو الأرملة أو المطلقة زواجاً ليس فيه أي اختيار أو تكافؤ حقيقي، ينتج عنه العديد من الأمراض النفسية والاجتماعية لتزيد المشكلات والأمراض الاجتماعية، ونحن نظن أننا نجد لها الحلول، لأن زواج المغتصبة هو حل مفرح وسليم كما يراه الكثيرون لأنّه يعيد للمرأة وظيفتها الأساسية التي تمنحها مكانة اجتماعية كـأم وزوجة ومنجبة للأطفال، والذي قد يمنع اغتصابها عنها هذا الدور الاجتماعي الهام، والقيمة الاجتماعية المنتظرة لها ولأسرتها ومحيطها الاجتماعي، وبذلك يتجنب الجميع الفضيحة ويسعدون بهذا الستر الاجتماعي بغض النظر عن نتائجه على المرأة كجسد وكيان وجوهر، وبالتالي انعكاس ذلك لاحقاً على المجتمع.
المجتمع السوري وحالات الاغتصاب خلال الثورة السورية
كما تمت الإشارة سابقاً، المجتمع السوري ليس بعيداً بكل بناه الاجتماعية عن تلك الطرق من التفكير وآلياته وما ينتج عنه من سلوكيات اجتماعية، لكن الحالة الاستثنائية التي يمر بها السوريون منذ عام ونصف، أحدثت خلخلة في البنيان الاجتماعي، وهزة اجتماعية عنيفة، يؤمل أن ينتج عنها تغيير في العقلية التي تتحكم بتلك البنى، وما ينتج عنها من أشكال سلوكية مختلفة. وقبل الخوض فيما تعرضت له بعض السوريات من اعتداء جسدي وحالات تحرش جنسي واغتصاب، لابدّ من الإشارة هنا ولو بشكل سريع إلى الأشكال التي تتخذها جريمة الاغتصاب وربطها بالظرف السوري الاستثنائي، ونذكر منها حالات معينة:
– الاغتصاب الغضبي: وفي هذا النوع من الاغتصاب، يكون الجنس وسيلة للتعبير وللتخلص من مشاعر الغضب والثورة والانتقام والثأر. ويتميز هذا النوع بما يلي:
أ- يتميز بالقوة الجسدية، حيث تكون قوة الجاني تزيد على قوة الضحية بدرجة ملحوظة.
ب- يعتبر الجنس في هذه الحالة وسيلة يهين بها الجاني ضحيته، بالحط من شأنها واحتقارها.
ج- إن هذا النوع يكون غير مخطط له واندفاعياً ومتهوراً، حيث يكون الجاني في حالة من الغضب ويعاني من الإحباط.
د- يستخدم الجاني لغة بذيئة مع ضحيته، وعبارات فاحشة.
هـ- إنّ الاعتداء في هذا النوع لا يستغرق إلا وقتاً قصيراً نسبياً، وأحياناً يتم خلال دقائق قليلة، ولكن مع ذلك يتخلص المغتصب من الغضب المكبوت بداخله، وتفريغ حقده وغضبه .
– الاغتصاب بالقوة: تعتبر القوة عاملاً بارزاً يدفع المجرم إلى ارتكاب الجريمة، ولكن قصده لا يتجه إلى إيذاء الضحية بل إلى إخضاعها جنسياً، كما بينّا سابقاً وعموماً يتميز هذا النوع بما يلي:
– الاغتصاب من أكثر الجرائم بشاعة لأنها تعتدي على المجتمع ، وتنال من إنسانية أفراده وتجرح كرامته.
– ما تحدثه في نفس الفرد من قسوة وعنف وعدائية اتجاه الآخرين، فهي تعبير عن الكره والبغض، وعن ترجيح كفة القوة الغاشمة على كفة العقل والعواطف النبيلة.
– الآثار الاجتماعية: إن الكثير من الحالات الاغتصاب تكون فيها الضحية معرضة للفقر والضياع، لأنّ بعض من العائلات، خاصة في بعض البيئات المحكومة بعادات وتقاليد ترفض قبول من تعرضت للاغتصاب فيها مما يفاقم من مشكلة المغتصبة ، وفي ظل تخلي المجتمع عن الضحية يؤدي إلى انحرافها فيما بعد.
لو أسقطنا كل ما سبق على الحالة السورية، لوجدنا أن كل حالات الاغتصاب التي حدثت تندرج تحت هذين النوعين من الاغتصاب، إذ اتخذ جنود النظام السوري وعصابات المرتزقة التي تعمل معه التي تسمى “الشبيحة” من اغتصاب النساء في بعض الأماكن التي دخلها الجيش والشبيحة، وسيلة لإهانة أهالي المناطق الثائرة، والمس بكراماتهم، وتعريضهم إلى الى المزيد من الانتهاكات اللإنسانية من خلال طعنهم بشرفهم الاجتماعي، وإثبات عجزهم عن المواجهة وحماية أعراضهم، وبالتالي مزيد من الإذلال والخضوع. وكثيرة هي الحالات التي سُجلت ويشهد فيها المعتقلون سابقاً كيف هددوا باغتصاب نسائهم من أجل الضغط عليهم للحصول على المعلومات، أو للإقرار بمعلومات غير حقيقية. كما اتخذ من هذه الجريمة وسيلة لتخويف الناس ودفعهم لترك مناطقهم، وهذا ما يفسر عمليات النزوح الجماعي التي حدثت فجأة في كثير من المناطق، علماً أنها بقيت صامدة تحت القصف والدمار لشهور طويلة ولم يفكر أهلها بالنزوح إلا بعد انتشار أخبار جرائم الاغتصاب وحدوثها في مناطق أخرى، فآثر كثيرون النزوح خارج مناطقهم وحتى خارج سوريا حفاظاً على أعراضهم وشرفهم، وهذا ما يؤكد بوضوح أهمية هذه المسألة وأبعادها الاجتماعية بين السوريين في مختلف بيئاتهم ريفاً ومدينة، كما يؤكد بوضوح على إمعان النظام السوري في النيل من كرامة السوريين وإهانتهم، في سبيل إخضاعهم وعودتهم إلى بيت الطاعة.
كيف تعامل السوريون مع جرائم الاغتصاب التي تعرضت لها النساء؟
وإن شكلت جرائم الاغتصاب صدمة كبيرة لكثير من السوريين، فإنّ كثر منهم أيضاً لم يستغربوا هذه الجرائم عن النظام السوري، لأن الجيش السوري مثبتة عليه هذه الجريمة سابقاً في لبنان وخلال مجازر مدينة حماه في الثمانينات من القرن الماضي. لكنّ ردة فعل السوريين هي التي اختلفت وتمايزت عما كانت عليه ردات الفعل عادة خلال الظروف الطبيعية، إذ أننا نشهد تعاطفاً كبيراً من قبل مختلف فئات المجتمع السوري مع من تعرضن للاغتصاب ومع عائلاتهنّ، كما شهدنا ردات فعل ومحاولات لاقتراح حلول متعددة، وإن كانت لا ترقى إلى طموحاتنا أو ما هو مأمول، إلا أنها تفتح باباً للأمل بأنّ الثورة السورية غيّرت فعلاً من المجتمع السوري، حتى في أكثر البيئات تقليدية منه .
تجدر الإشارة هنا بأنّه لا يوجد حتى اللحظة إحصائيات دقيقة وموثوقة عن عدد حالات الاغتصاب التي حدثت، للأسباب المعروفة التي تمّت الإشارة إليها سابقاً، كما أنّ صعوبة الوصول إلى المناطق السورية المختلفة بسبب الأوضاع الأمنية وتشرد الأهالي عن مناطقهم يزيد من صعوبة الوصول إلى تحديد دقيق لهذه الحالات. أما أهم المواقف التي رشحت عن هذه الجرائم في المناطق نفسها وعموم أنحاء سوريا إضافة إلى ما ذكرناه من تعاطف إنساني نرصده لأول مرة في هكذا حالات، فقد برزت في تفاصيل من تناول هذه القضية الكثير من الفهم المغلوط والنابع من خلفية اجتماعية بحته. ولعل أبرز هذه المواقف هو محاولة إسباغ نوع من القدسية على حالات الاغتصاب، وتصوير المغتصبة على أنها قد قدّمت أغلى ما لديها لذلك ينبغي التعاطف معها ومعاملتها بطريقة استثنائية، وهذا يعكس فهماً غير دقيقاً للواقع ولمفهوم التضحية، لأنّ المغتصبات لم يذهبن طواعية إلى مغتصبيهم ليقدمنَّ لهم أجسادهن على مذبح الحرية، ولسنَ كما الثائر المتظاهر أو الناشط الذي يخرج للظاهر طواعية متحدياً كل المخاطر، ولا كالناشط المنخرط بالثورة ودعمها عن إرادة سابقة. إنّ ما تعرضن له أولئك النسوة، ومنهن طفلات أحياناً، حدث رغماً عنهن، وليس بإرادتهن، لذلك فإنهن ضحايا كغيرهن من ضحايا النظام السوري وجرائمه. علماً أن عشرات الرجال تعرضوا لهذه الجريمة داخل المعتقلات وخارجها ولأسباب اجتماعية لم تتم إثارة قضيتهم على النحو الذي أثارته قضية اغتصاب النساء، وقد تعرّض المعتقلون في السجون ومراكز التحقيق للتعذيب والاغتصاب، وقد قال نائب مدير شؤون الشرق الأوسط في هيومن رايتس واتش نديم حوري لصحيفة “دايلي تيليغراف”: “يُستخدم الاغتصاب بوضوح في مراكز الاعتقال كشكل من أشكال التعذيب لإذلال الناس وإهانتهم ولإعادة جدار الخوف”.
ومن المواقف التي صدرت وتمّ تداولها أيضاً هي إقرار عدد كبير من الشباب السوريين بأنّهم مستعدون للزواج من المغتصبات وأن هذا يشرفهم، وقد تداولت الأخبار زواج جماعي لخمسين فتاة سورية مغتصبة من قبل شباب سوريين. وبالرغم مما قيل أن الفتيات قد خضعن لعلاج نفسي وطبي وإن الزواج قد تمّ بإراداتهن، إلا إن ذلك أيضاً يعكس العقلية الاجتماعية الكامنة وراء هذا السلوك، إذا ما زال الزواج هو الستر الوحيد للمرأة، وما زال الرجل هو الذي يمنحها هذه الفضيلة الاجتماعية التي تعيد لها مكانتها في المجتمع. وبالرغم ما تحمله هذه المبادرات من أمل في تغيير لآلية تفكير السوريين وعوامل الضبط الاجتماعي المتحكمة بسلوكهم، والتي لم تكن تتقبل سابقاً الزواج من مغتصبة، إلا أن جذور هذا الموقف تكشف عن معنى اجتماعي عميق ما زال بحاجة للكثير من التفكيك والتحليل والمعالجة، لأنّ الزواج كما نعرف عقد اجتماعي بين اثنين ناضجين عقلياً، ذكراً وأنثى يتعهدان على العيش معاً ويتبادلان المحبة والتفاهم المشترك بدعم من القانون وحماية المجتمع، ويتقاسم الاثنان الأعباء التي تفرضها وتتطلبها الحياة الزوجية بما فيها المسؤولية التضامنية عن تنشئة الأطفال، واحترام القوانين والعلاقات الاجتماعية والأعراف السائدة. وتتقارب المبادئ الأساسية للعقد الاجتماعي هذا في أكثر المجتمعات البشرية المتحضرة، برغم اختلاف وتعدد اللغات والديانات والمعتقدات السياسية. لكن واقع الحياة في مجتمعاتنا له تطبيقاته المغايرة لمبادئ هذا العقد الاجتماعي، لهذا يكون زواج المغتصبات خاضعاً لهذه المعايير التي ينبغي أنسنتها أكثر لنجعل من زواج الرجل بامرأة تعرضت للاغتصاب حالة طبيعية وعادية لا منة فيها ولا فضل، وليس له علاقة بالنضال الثوري لتصبح حالة متأصلة اجتماعياً، وجزءاً من العقلية التي تحكم السلوك الاجتماعي لاحقاً.
على المقلب الآخر، وكي لا نصوّر الأمور على أنها وردية، تواترت أخبار من أكثر من منطقة في سوريا عن محاولات الأهل التخلص من بناتهن المغتصبات بقتلهن غسلاً للعار الذي ألحق بهم، كما أشير إلى عدد من حالات الانتحار بين المغتصبات نتيجة ما تعرضن له من ضغوط اجتماعية كبيرة، كما تداولت بعض الصحف العربية وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي أخباراً عن إعلان رجال خليجيين وتقديمهم عروضاً للزواج من السوريات المغتصبات، على سبيل أنّ هذا الأمر يحتمه واجب ديني هم يتبرعون بالقيام به للستر على شرف السوريين! كما تناقلت بعض المواقع أخباراً عن زواج لطفلات مغتصبات برجال عرب كبار السن بحثاً عن الستر ومداراة للفضيحة. إن صحت هذه الأخبار لأنها في الحقيقة تبقى في إطار إعلامي واجتماعي متداول ولا طريقة حتى الآن للتأكد من أية حالة، فإن ذلك يعتبر تطوراً خطيراً في قضية المغتصبات ينبغي الوقوف بوجهه بشدة وفضح من يقف وراءه، والقيام بالتواصل مع الأهالي، ومساعدتهم على تجاوز محنتهم وتوعيتهم وتثقيفهم بحالات بناتهن، وخلق حالة من التضامن الإنساني الحقيقي بينهم وبين بناتهن المغتصبات، لأنّ ضحية الاغتصاب في مجتمعات الفضيحة والعار كالمجتمع السوري، تدفع الثمن مرتين; عند الفشل في حمايتها، ومرة أخرى عند محاسبتها هي أولاً على ما تعرضت له من انتهاك لا إنساني لا يدّ لها فيه.
انطلاقاً مما سبق نجدّ أنّ قضية “الاغتصاب” تبقى رهينة الشرك المحرم، لأن اللاشعور الجمعي لا يفصل بين الفعل الجنسي الاختياري والفعل الجنسي القهري، ويصنف الجميع ضمن خانة (الضد- نسقي/ اجتماعي) فكل ممارسة خارج المؤسسة الاجتماعية، هي ممارسة متهمة بغض النظر عن الظروف والسياقات والملابسات. وهذا التعميم يدفع إلى تصنيف الاغتصاب في دائرة الجريمة المزدوجة/ المركبة، التي يتقاطع فيها العنف المادي المباشر، بالعنف الرمزي المواكب والمستمر، وضحية العنفين معاً هي المرأة، فالاغتصاب جريمة غير محصورة في الزمن، لذلك تبقى المغتصبة متهمة على طول الخط.
وأخيراً وضمن توضيح كيفية تعامل السوريين مع قضية الاغتصاب، لا بدّ من الإشارة إلى وجود تحول نوعي في التعاطي مع هذه القضية، لكنه تحول نخبوي معزولاً إلى حد بعيد. والأهم الآن هو تعميق الجهود في خلق آفاق حقيقية، ليس على مستوى الشكل فقط، ولكن على مستوى الأفكار والذهنيات، وعندها فقط يمكن الحديث عن مجتمع تقوم فيه العلاقات بين الرجل والمرأة على أساس التشارك والندية والتكامل، لا على أساس النبذ والرفض وتتبع الأخطاء والمثالب. وهنا ينبغي التأكيد أنّ المؤسسات التي تعتمد عليها ثقافة الاغتصاب هي مؤسسات الدولة وبنى المجتمع عموماً، وهذا الذي أدّى إلى هذه النتائج على أرض الواقع، و مازالت التطورات والأحداث الجارية تعمّق وتعمل على تأزيم المشكلات، وإن كانت اقتصادية ـ اجتماعية ـ سياسية فهي ليست إلا نتيجة العقلية الذكورية المتسلطة الحاكمة، ولهذا لا يرغب النظام الحاكم في الحل السلمي والديمقراطي العادل. قد تكون قضية المرأة من أهم هذه المشكلات، إذ تبقى معاناة المرأة حاضرة كنتيجة لكل السياسات الخاطئة، وتصبح هي الضحية في الدرجة الأولى، فسياسات التنكيل والنهب، والعنف، استخدام المرأة في سياسة إبادة المجتمع وإذلاله لتحطيم مقاومة الشعب وجعل المجتمع بلا أخلاق رهينة بيد النظام، انطلاقاً من ذلك فإن النهب المنظم، واغتصاب المرأة، وانتهاك الأرواح والأملاك، كلها محاولات وأساليب لتحقيق مآرب سياسية تبقي السيطرة ممكنة، وتخرّيب قيم الشعب في كل ما يقع في قبضة يدِّها. لذا فإننا نجد أنّ الأساليب التي يستخدمها النظام من أجل تحقيق أهدافه لا يتحملها عقل الإنسان ولا ضميره، إن كان سياسياً أو اجتماعياً وحقوقياً، وما مواصلة العنف العسكري والتنكيل بالناس في كل منطقة ثائرة، والعمل على تحطيم كرامة الشعب، إلا وسائل لإرغامه على الاستسلام والخضوع للقوة الحاكمة مرة أخرى. من هنا فإن النتائج التي طورتها ثقافة التسلط الذكوري لا يمكن إزالتها إلا بالطلاق النهائي مع هذا النظام، وبناء نظام حر قائم على ثقافة مغايرة تحترم الإنسان وتقدّره وتعلي من شأنه أياً كان جنسه، فقضية المرأة ومشكلاتها هي جزء من هذا كله، ونتاج طبيعي لكل تلك الميكانيزمات.