في ذكرى العملية العسكرية للجيش السوري في ١٣ تشرين الأول عام ١٩٩٠ والتي أطاحت بحكومة الجنرال اللبناني ميشال عون وأدخلت لبنان حتى اغتيال رفيق الحريري في عصر نفوذ النظام السوري شبه المطلق، يبدو لافتاً أن الجنرال المهزوم هو من يحتفل بهذه الذكرى بينما غابت دائماً الاحتفالات في الجانب الأخر المنتصر! يمكن عزو أسباب أحتفال الجنرال وتياره السياسي إلى هوس الزعامات اللبنانية بوضع نفسها ومن تمثل في حالة المظلومية الدائمة مما يخدم حالة الأستقطاب السياسي الشعبوي الذي يُترجم لاحقاً أصواتاً أنتخابية في صناديق الأقتراع. أما في جانب النظام السوري فإن الاحتفال بهذه الذكرى يقوّض السردية الرسمية للنظام لدوره في لبنان. هذه السردية القائمة على اعتبار أن اللبنانيين كانوا في حرب أهلية بين ميليشيات طائفية تسعى للتقسيم وإقامة كانتونات طوائفية وقام بعض هذه الميلشيات بالتعاون مع اسرائيل واستدعاء جيشها لمساعدته في هذا المشروع. بينما كان دور الجيش السوري هو إحباط هذا المخطط التقسيمي والحفاظ على وحدة لبنان ودعم مقاومته ضد اسرائيل لتحرير ترابه الوطني.

وهنا يبدو استذكار محطّات الصراع العسكري والسياسي مع حكومة الجنرال عون وضمناً الجيش اللبناني يقود إلى سردية مختلفة تمام الاختلاف عن هذا الدور المفترض. فالسردية هنا تتعلق برغبة الحكومة اللبنانية الشرعية بخروج الجيش السوري من لبنان واعتباره احتلالاً يتحالف مع جماعات لبنانية ضد جماعات أخرى تمثٌلها هذه الحكومة ويهدف إلى الهيمنة على القرار السياسي والأمني في لبنان وتحويله لدولة تابعة للنظام السوري، وهو ماتحقق فعلياً بعد عملية ١٣ تشرين وبسهولة كانت طبيعية بعد هزيمة القوة العسكرية التي وقفت ضده .

لكن عدم احتفال النظام السوري بهذه الذكرى لايلغيها من ذاكرته : أولاً، بوصفها لحظة المجد السياسي الأبرز للنظام السوري الذي عرف من أين تؤكل الكتف بتحالفه العسكري مع الولايات المتحدة الأميركية ضد التوأم اللدود البعثي في العراق وتغطيته السياسية بالاشتراك مع النظام المصري لحرب تحرير الكويت والتي أدت إضافة لخروج الجيش العراقي من الكويت إلى تحطيم كل مقوّمات القوة عند الجار العراقي وإخراج صدام حسين ونفوذه من المعادلات الأقليمية إلى حين زوال نظامه بالكامل بعدها ب١٥ سنة . ثانياً، بصفتها درس مهم يمكن الإستفادة منه في حرب النظام الحالية ضد الثورة السورية والمعسكر الإقليمي الدولي الداعم لها. ماهية هذا الدرس تكمن في فرضية (الصفقة)، فالشخصيات الإعلامية التي تدافع عن النظام السوري عبر المنابر المتعددة تتكلم بإستمرار عن خيوط القوة التي يمتلكها النظام السوري والتي في لحظة ما ستمكٌنه من عقد صفقة مع الولايات المتحدة الأميركية أو مع تركيا ودول الخليج تسمح له بالإنفراد بالثورة السورية كما سبق وحصل في حالة ميشال عون وبالتالي سحق هذا الثورة ومن ثم إعادة تأهيله دولياً.

يبدو الترويج لهذه الفرضية نوعاً من وهم اليائس فهي تقوم أساساً على خطاب سياسي يفترض أن الثورة السورية صنيعة خارجية يمكن من خلال التفاهم مع هذا الخارج وأدها وهكذا يغيب عن هذه الفرضية أن الثقل الأكبر للثورة هو في الداخل، وأن هناك محافظات بأكملها خارجة عن سيطرة النظام تماماً وأخرى تقاتل بضراوة للخروج عنه وحتى المحافظات التي لاتزال تحت سيطرته العسكرية هناك مجاميع تقاتله فيها وتستنزف قواه. يغيب أيضاً عن مروّجي تلك الفرضية أن لا خطوط حمراء يضعها العالم لهذا النظام في حربه المفتوحة اليوم، فبإستثناء تصريح الرئيس الأميركي أوباما حول إستخدام السلاح الكيماوي يقوم النظام بإستخدام كل أسلحته الأخرى. فسلاح الطيران يُستخدم يومياً وبكثافة ضد المناطق الثائرة، بينما كان ممنوعاً عليه استخدامه في الأجواء اللبنانية إلى أن سمحت له الولايات المتحدة بذلك ليحسم المعركة ضد عون في يوم واحد. يتناسى أيضاً أصحاب هذه الفرضية أن الإدارة الأميركية لم تكن يوماً إلى جانب العماد عون في حربه ضد الوجود السوري في لبنان بل أن الأشهر السابقة للعملية العسكرية ضد قصر بعبدا كانت خالية من أي تواجد رسمي أميركي في المناطق الخاضعة لسيطرة حكومته بعد أن حاصر الطلاب المؤيدون له السفارة الأميركية وهددوا بإقتحامها مما أدى إلى نقل كافة طاقم السفارة وعائلاتهم إلى قبرص. كما أن الولايات المتحدة كانت قد أعترفت بنتائج مؤتمر الطائف كأساس للحل في لبنان وأعترفت أيضاً بشرعية الرئيس الشهيد رينيه معوض وبعده بشرعية الرئيس الأسبق إلياس الهرواي وحكومة عهده الأولى. كان الفارق بعد غزو العراق للكويت هو في السماح للنظام السوري بإستخدام ماكان محرٌماً عليه وفي تغطية نتائج عمليته العسكرية سياسياً وليس في التخلّي عن حكومة عون للتحالف مع النظام السوري.

ولكن إذا غابت عوامل الإختلاف هذه عن أذهان تلك الشخصيات الإعلامية التي تروّج بفرضية الصفقة تلك، فهل هي غائبة عن عقل صنّاع القرار في النظام ؟ الأرجح أن لا. وإن كان هذا لايمنع من إستحضار لحظة المجد السياسي تلك من خلال مقاربات مختلفة. المقاربة الأولى تقوم على الرهان على إدارة الوقت وتمييع حالة الصراع من صراع وجودي بين سلطة قامعة وشعب ثائر إلى نزاع سياسي على حصص وصلاحيات وتوازنات طوائفية ومناطقية وعرقية، مما يُترجم إلى الوصول إلى إتفاق طائف سوري على غرار اللبناني. فقبل الوصول للطائف اللبناني لم يرفض النظام السوري أي مبادرة أو مسعى للحل بشكل معلن بل كان يترك للطرف الأخر فعل ذلك بينما يقوم هو بتقويض هذا المسعى على الأرض. أستخدم النظام السوري تناقضات الطبقة السياسية اللبنانية ومطامع أمراء الحرب الطائفية والشخصية بغية استنزاف الجميع والوصول للطائف منهكين راغبين بأي تسوية. وللمفارقة كان الأخضر الأبراهيمي أيضاً عرٌاب الحل السياسي العربي وقتها.

واليوم يحاول النظام الأمر نفسه عبر خلط الأوراق بين معارضة داخل شريفة من صنع أجهزته الأمنية ومعارضة غير مصنوعة في مطابخه ولكنها منهكة وتخوض صراعاً موازياً مع معارضة أخرى يعتبرها النظام الخطر الوجودي عليه. الفارق هنا أن الدعم العربي للدور السوري في لبنان وقتها ليس موجوداً اليوم وأن أمراء الحرب اللبنانيين كانوا قادرين على فرض الحل السياسي على أنصارهم الأمر الذي لا يملك أي فصيل أو شخصية في سوريا فعله.

المقاربة الأخرى التي يمكن للنظام السوري الأستفادة منها هي في إمكانية تحويل الخصم المهزوم إلى حليف لاحق. الحالة العونية هنا تبدو نافرة أخلاقياً ففي ذكرى الهزيمة تعود ذكرى القتلى وبالأخص أسرى ذاك اليوم الذي لم ينفع تحالف الجنرال اللاحق مع النظام السوري بمعرفة شئيء عن مصيرهم . هنا يحاول النظام تكرار هذه التجربة وعينه على المثال الكردي كنموذج قابل للتعميم فبعد سحقه للإنتفاضة الكردية عام ٢٠٠٤ ومع بداية الثورة السورية كان منتظر من الثقل الكردي في سوريا أن يكون في كامل زخمه للثورة. ورغم المشاركة الفاعلة لمناطق كردية مختلفة في المظاهرات السلمية في الشهور الاولى للثورة تبدلّت الحال شيئاً فشيئاً مع توافق واضح بين النظام وحزب الأتحاد الديموقراطي الكردي الأقرب لحزب العمال الكردستاني على تقاسم النفوذ في المناطق الكردية مما يؤمن ظهر القوى الأمنية هناك وعلى الدعم لعمليات حزب العمال ضد تركيا أملاً في خلق حالة توازن قابلة للمقايضة مع الدعم التركي للمعارضة السورية وللجيش الحر. ولكن لا يبدو النظام في هذه أيضاً قادراً على قلب المعادلات فالأحداث تتسارع بشكل أكبر من قدرته على تطويعها بل أن الحالة هنا معكوسة من خلال الإنشقاقات المتوالية عنه فبدل تحويل خصومه لحلفاء يتخلى بعض رجاله عنه. في هذه الأثناء ومع مرور الزمن السوري يبدو النظام عالقاً في وهم البحث عن صفقة لايفيده تذكّر لحظة مجده في ١٣ تشرين الأول عام ١٩٩٠ في تكرارها مهما توّهم منظّروه.