على مدى عمر الثورة السورية لم تثر قضية على تلك الدرجة من الحدة في النقاشات والانتقادات القوية كالتي أثارتها “قضية حلب”، المدينة المثقلة بتاريخها والمتعبة بحاضرها، سواءً بصمتها “المفترض” في أوائل الثورة أم بدخولها المسلّح القوي منذ بضعة شهور. يُخيّل للمرء أن القدر قد هيّأ لحلب تلك المنزلة من النزاع والتنازع، ليس بين النظام وأذرعه العنيفة من جهة وبين ممثلي وجمهور المعارضة في الداخل والخارج فقط، وإنما بين أطراف ثائرة عديدة يجمعها الهم الكبير نحو إسقاط النظام، فيما تفرقها رؤى واتجاهات واستراتيجيات وبدائل تبدو أحيانا شديدة التعارض حدّ الدهشة.
كان النظام على علم بأهمية حلب وعلى دراية بأن دخولها مسرح الثورة هو بداية النهاية لحقبة كانت خيوطها، إلى وقت قصير، تبدو مشدودة بتوازنات وحسابات قائمة على تحالفات السلطة والمال، وتشابكات الفقر والحرمان، بعد تمهيدها “تاريخيا” بأدوات العنف العاري والإرهاب المديد. فصدى سنوات الثمانينيات المرعبة مازالت تتردد في الشوارع والأزقة الحلبية، وفي نفوس جيل الآباء الذين كانوا شهوداً على ما تعرّضت له المدينة عقاباً وردعاً لأخواتها الصغيرات في بقاع التمرّد الصامت. وفي حلب موزاييك ديموغرافي “مثير” يجمع أجزاءاً تعكس اللوحة السورية الأم، من مسيحيين وأرمن، وصولاً إلى أكراد ولاجئين فلسطينيين، وسط مجتمع “سنيّ” أعرض وأكبر يعكس هو الآخر صورة المجتمع السوري الأعم، متدرّجاً من الثراء الفاحش واليسر المقنّع إلى أحزمة البؤس في الضواحي والشوارع المنسية، المفتوحة على الإحباط والغضب.
ديناميات المواجهة والالتحاق بأجنحة الثورة لا تحتاج إلى قرارات، فردية أو جمعية. يكفي تجمّع بضع عوامل بتوقيت زمني معيّن حتى تتدحرج كرة الثلج بقوة لا يمكن تحييد مسارها. كانت حلب تراقب المشهد السوري دون أن تقترب من لهيبه، بينما تعتمل في الأزقة الخلفية نار هادئة توقد من طاقة هائلة لظلم إجتماعي وسياسي كبير وانتفاء للعدل، تتغذى فيه على حساسيات طبقية مدادها البؤس، مدعومة بمرارة تعتمل في نفوس أبناء بلدات ريف ملتهب، يتعرض منذ بدء الثورة لعملية تدمير شرسة على إختلاف أذرع النظام الأمنية والعسكرية، وبهمجية لا مثيل لها. ورغم ظهور مؤشرات كثيرة على دخول أحياء ومناطق عديدة في حلب المدينة نبض الثورة، وصل بعض المتظاهرين فيها إلى الآلاف، وخاصة في تشييع شهداء سقطوا برصاص النظام، واستبسال طلاب الجامعة في التعبير عن مؤازرتهم للثورة وأهدافها، إلا أن المزاج الشعبي العام ظل مأسورا بذهنية المراقب الحذر، مفضّلاً عدم الإنخراط بالشكل الصارخ الذي شوهد في مدن أخرى قريبة للغاية. هذا الوضع هيأ له، وحافظ عليه، استراتيجية أمنية للنظام تقوم على قاعدة مفادها أن “الأقربون أولى بالتشبيح”! فآلاف العناصر الأمنية كانت تجوب المدينة كظلها، ينحدر جلّهم من أبناء المدينة، بالإضافة إلى أبناء مدن وقرى أخرى تستمد من النظام روحها وطائفيتها الفائقة.
في ذروة انشغال النظام بالتفجير الذي قيل أنه طال “خلية الأزمة” في دمشق وما تبعه من اشتغالٍ على تمديد الحرب المفتوحة على المدن والبلدات المنتفضة وتدعيمها لأول مرةّ بسلاح الطيران الحربي وبشراسة عالية، فوجىء المراقبون (والثوار في باقي المناطق أيضاً) بدخول مدينة حلب خط الثورة من بوابة غير متوقعة، عسكرية مسلّحة وطاغية، أعلن فيها عن بدء تحرير المدينة من النظام، تم فيها انتشار مئات من العناصر المسلّحة لكتائب متعددة للجيش الحر في أحياء وأزقة محددة من المدينة في البدء، مالبثت أن زادت إلى بضع آلاف من المقاتلين، يندرج أغلبها تحت ما بات يعرف بـ”لواء التوحيد” (و”لواء الفتح” إلى حد ما)، أبرز التشكيلات العسكرية على ساحة المواجهة في حلب، وربما أفضلها حالاً من حيث التنظيم. وبالرّغم من إرتباط بعض المجموعات المقاتلة أسرياً وعلائقياً وسكنياً بمناطق معينة، كما هي الحال في صلاح الدين والسكري على سبيل المثال، وخروجها من رحم هذه التجمّعات السكنية المليئة بالغضب والحرمان، إلا أن أغلب المقاتلين الذين انخرطوا بالعملية الكبيرة ينحدرون من بلدات وقرىً محيطة للمدينة (حريتان، دارة عزّة، اعزاز، مارع على سبيل المثال)، بالإضافة إلى بلدات من ريف إدلب وريف حماه بصورة أقل. في عملية تسلل هي الأكبر والأكثر مدعاة للنظر، تمّ دخول هؤلاء المقاتلين خلسة، في أطراف الليل وآناء النهار، برغم التواجد الأمني الكثيف في أحزمة المدينة وضواحيها. مع الأخذ بعين الإعتبار التقدم الكبير الذي أحرزته القوات المسلحة للثورة في الريف الشمالي والشرقي وبعض الغربي للمدينة المتنازعة، التي ستغدو لاحقا من أكثر بؤر الصراع شراسة ودموية على التراب السوري المنتفض.
رغم الاحتفاء “الطبيعي” بالثائرين المسلحين وخاصة في مناطق ترابطهم العضوي، إلا أن إحساساً من التوجّس والخوف من قبل المجتمع الأهلي الأكبر في حلب قد بدأ بالحلول تدريجياً مكان هذا الإحتفاء، الوضع الذي ساهم فيه عوامل عدّة لعل أبرزها الطريقة التي تعامل معها النظام مع هذا الوضع الجديد، بالإضافة إلى الطريقة التي تعامل معها المقاتلون في إدارة هذه الوضع الجديد أيضاً. بعد شهور من بدء مرحلة الحسم العسكري، ليس هناك من مؤشرات تدل على أن النظام قادر على تعلّم شيء في تعامله مع المنتفضين ضده إلا المضيّ قدما في الشراسة، ناهلاً من فقه إرهابي واضح، يُعتَقد بأن أصوله استراتيجية “إسرائيلية”، جُرّبت في بقاع عديدة، سواء في لبنان أم في الضفة الغربية وغزة، مفاده بأن “ما لا ينفع فيه عنف، ينفع فيه المزيد من العنف”! للمرة الأولى تم قصف أحياء حلب المدينة، حيث يتواجد المقاتلون بطريقة لا رحمة فيها، طالت تجمعات سكنية كبيرة، ولم تسلم منها مرافق حيوية تمس الناظم اليومي لحياة المواطنين، كما هي الحال عند استهداف أفران الخبز في ذروة تجمع المواطنين الذين أعياهم التعب والإنهاك حولها. كان القصف الوحشي بالطائرات الحربية وقذائف الهاون الذي طال المناطق السكنية التي سيطر عليها المقاتلون استراتيجية النظام الأبرز التي تم تجريبها في مناطق أخرى من البقاع الثائرة، تبدو وكأنها نوع من التعويض عن الزج بوحدات نظامية “كاملة الولاء” في مواجهات تأخذ طابع حرب الشوارع، من الصعوبة أن تكون في مصلحة النظام حتماً، لا سيما بعد الصمود الكبير الذي أبداه المقاتلون الثوار على بعض خطوط التماس الحيوية في المدينة كما باب النيرب أو الصاخور مثلاً. لكن، وبغض النظر عن تكتيكات النظام في تسيير وحداته المقاتلة على الأرض، كانت المعادلة الوحيدة التي يحب النظام أن يذكّر بها هي القصف والدمار مقابل إنتشار مقاتلي الجيش الحر. كانت معادلة تفوح منها رائحة الانتقام الكبير، وغير المتناسب مع قوة الفعل الأصلي الذي أجّجه. إلا أنه وفي حالات كثيرة كان النظام لا يوفّر أية مناسبة يعبّر فيها عن ذهنية “العقوبات الجماعية”، إذ لم تسلم من القصف أحياء كثيرة، لم ينتشر فيها أي مسلّح ولم تشارك بأية نشاطات لها علاقة بالثورة، لا من قريب ولا من بعيد.
نزول المقاتلين المسلحين إلى أحياءً جديدة من المدينة واقترابهم رويدا من قلبها التاريخي، مع بروز معادلة “القصف مقابل الانتشار”، وعلى درجة كبيرة من الوضوح والقسوة، أفضيا إلى تسيد حالة من التذمّر والاعتراض من قبل سكان المناطق من المدنيين الذين وجدوا أنفسهم شيئاً فشيئاً في وضع لا يحسدون عليه، يضعهم بين فكّي كماشة الانتشار “غير محسوب العواقب” من القوات الثورية المسلحة من جهة، والسياسة الانتقامية العنيفة للنظام المتربّص من جهة أخرى. هنا بدأت الأسلئة الممزوجة بالرعب والإحباط عن مغزى عملية تحرير المدينة برمته وجدواه، وعن الكلفة العالية التي وجب على المدنيين في هذه المناطق والأحياء دفعها من لجوء وفقدان للبيوت والممتلكات، فضلاً عن سقوط مئات الشهداء والجرحى بشكل يومي، وفي ظل ندرة المواد التموينية الأساسية جراء سياسات الحصار الخانق التي تضربه قوات النظام عمّا تيسّر من هذه المناطق.
لم تكن هذه جلّ عوامل النفور والامتعاض التي لاحت في الأفق تجاه وجود المقاتلين المسلحين المنتشرين في المدينة. كانت تلك العوامل، على جدارتها، تمثل تلك الطافية على السطح فقط. كان هناك شعور عام، وإن لم يكن يتم التصريح به علناً، بأن المدينة قد أخذت على حين غرّة من قبل مجموعات قادمة من مناطق ريفية، تتمايز عن أبناء المدينة ليس بلحاها وملامحها المتدينة، المحفّزة للتصورات الجاهزة فحسب، بل بذهنيتها، بأنماط تفكيرها وسلوكياتها أيضاً، والتي غالباً ما توصف بـ”الرجعية” عن نظام قيمي مديني “مفترض”، وإن كان محافظا بطبعه. من المبكّر الحديث عن “وعيٍ طبقيٍ” ما كان يلف البطانة الذهنية والسلوكية لمجموعات كبيرة نسبياً من سكان المدينة، وخاصة أؤلئك الذين يعتبرون أنفسهم أبناء “حلب الشهباء” البررة، سواءً بحكم الانتساب إلى عائلات المدينة العريقة أم بحكم الإنتماء إلى جموع من المتعلمين من الحلبيين “الأقحاح”، ممن وفّرت لهم سنوات الاستقرار المصطنع للأسد الإبن، وضعاً مادياً يقترب من أحوال “الطبقات الوسطى والجيدة” بالمعنى الكلاسيكي للمفهوم. هذا الوضع تم تعزيزه بسلوكيات عنيفة لبعض المجموعات القتالية من هنا وهناك أكدت المخاوف الكامنة في العقول والأفئدة، كان أبرزها الطريقة الشنيعة التي تم فيها قتل شبيحة “آل برّي” وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع. هذا بالإضافة إلى تفجيرات عنيفة طاولت مناطق عدّة في المدينة، من دون هدف واضح أحياناً، نسبت إلى تنظيم أصولي، لا يبدو أنه تربطه صلة تنظيمية ما بإحدى تشكيلات الثورة المسلّحة، إشكالي وعليه من إشارات الإستفهام ما يفيض، ولكن له أنصار كثيرون على الأرض، إنها “جبهة النصرة”. في هذه الأجواء المشحونة بالرعب والتناقضات تكررت عبارات الغمز واللمز حول “أصول هؤلاء” متخذة من توصيفات غالبا ما تبدأ بـ”زعران” وتلحق بأسماء لمناطق ريفية محددة، حتى وإن كانت بلدات ومدن صغيرة. إلا أن تجليات هذا الحنق وجدت متنفساً لها في حوادث أخرى لاحقة، لا تخلو من الدلالة.
في خطوة أريد منها تحقيق تقدم فارق على الأرض، بالإضافة إلى تأكيد الوجود الرمزي بصفة عالية، دخلت وحدات ثورية مقالتة إلى أحياء المدينة القديمة المتحلّقة حول القلعة التي حصّنها النظام قبل ذلك بالأسلحة الثقيلة وبسلاحه الأكثر إنحطاطا “القناصين”. من خلال تتبع مسار الأحداث كان يمكن بسهولة الإشارة إلى مكمن خطورة هكذا خطوة، خاصة وأن القاصي والداني باتوا يعرفون أن همجية النظام لا حدود لها أيا كانت، لا أخلاقية ولا وطنية. أسواق كاملة أحرقت ومبان أثرية كاملة سويت بالأرض، قصف كبير ومتواصل لا يرحم كانت جزءاً من إستجابات النظام “الطبيعية” إزاء ذلك الإنتشار الموعود. كان اللوم الأكبر يتوجّه إلى المقاتلين، وصل بعضها إلى تحميلهم المسؤولية الكاملة عن “الكارثة” التي حلّت بحلب القديمة وأوابدها التي يرجع بعضها إلى آلاف السنين. في خضمّ هذه الأحداث وجد معارضو “عسكرة الثورة” فرصة مناسبة للتدليل على المستويات التي وصلت إليه الثورة بامتشاقها السلاح وآثارها السلبية على الأهداف الرئيسية التي تظاهر الثوار “السلميين” من أجلها، حتى وصلت بعض الأصوات إلى المناداة بالرجوع إلى “سلمية الثورة”، هكذا وبكل بساطة، بشكل طهراني وطفولي، لا يعنيه تطوّر مسارات أحداثٍ تنتظم على عقارب زمنية لا يمكن إعادتها للوراء، إلا بما تشاء المخيّلة.
بعض الأصوات كانت أكثر قسوة و”بجاحة”، ملمّحة إلى “الأصول” وذاهبة إلى أن “هؤلاء” المقاتلين لا يعرفون معاني “الحضارة” ولا يقيمون وزناً للأثار والكنوز التاريخية، مذكّرة بتاريخ المدينة التي يرجع إلى الآلاف من السنوات الغابرات. كانت الأحداث مدعاة لتأجيج التصوّرات “المدينية” المسكوت عنها تجاه “الريف”، والتي عادة ما تظهر إلى السطح في أوقات الصراع، حيث القوى المتنازعة تكاد تملك نفس القوة في العقول الفردية والجمعية. في هذا السياق اعتُبِر المقاتلون “دخلاء” بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة، عوملت فيها شجاعتهم في الصمود وأخبار موتهم اليومي بجفاء كبير وتجاهل أكبر، فما هي قيمة الأرواح أمام قيّم مظاهر “الحضارة” من حجارة وأوابد يباهى بها في حضرة الدكتاتور وفي غيابه أيضاً! بغض النظر عن هذه الأسباب وتلك، لم يكن سهلا على السوريين أجمعين، وليس فقط على من يعتبرون أنفسهم “أوصياء” المدينة، أن يروا تراثهم يحترق ويهدّم بتلك الدرجة من الوحشية والقسوة، منطلقين من مفهوم للوطن، عابر للأجيال، ومتعالٍ على الأفراد المكونين له، يتجاوز الدكتاتور وراجمات صواريخه من جهة، بينما لا تعنيه مصائر مقاتلين لا تنقصهم الوطنية التي يفاخر بها بأي حال من الأحوال.
رغم ما قيل وما سيقال، ستظل “معركة حلب” علامة فارقة من علامات الثورة، ونهجاً مؤرقاً في ديناميتها التي لا تنتهي بالضرورة تلك النهايات التي أرادها صانعو الحدث الفعليين. إنها مناسبة لتتبع صور الذات في مرايا الآخرين، وصور الآخرين في ذوات جمعية تنحو إلى التمايز وتستأثر به. لقد قيل الكثير عن نوازع وأهداف الخطوة الأكثر مثاراً للنقاش الحاد، والأكثر استدعاءً لاتهامات وصلت حد التخوين، إلا أن أحداً لا يمكن أن ينفي بأن “مأساة حلب”، إن صح التعبير، هي تجسيد لجانب واحد من جوانب المأساة الأكبر التي لحقت بالوطن الأم وبأبنائه في حرب هي الأشرس، أعلن عنها بشعار خالد، معبّر وعالٍ في دلالاته الذهنية والسلوكية “الأسد أو نحرق البلد”. ليس المهم أن تختلف الرؤى تجاه السبيل الأفضل والأقل كلفة لإسقاط النظام، وقد يصح القول أيضاً بأنه ليس مهمّاً ارتكاب الأخطاء التي تبدو فادحة على درب تحرير البلاد التي لا تظهر أنها على تلك الدرجة من السهولة واليسر، ولكن الأهم هو إجماع السوريين، ليس الثائرين فحسب، على أن وجود النظام بحد ذاته هو “الخطأ الأكبر”، الخطأ الذي يعتبر أفضل طريقة لإصلاحه هي إسقاطه، ومهما كلّف من أثمان، مرة واحدة وإلى الأبد.