أولى الإجراءات الإسعافية التي يُنصح بها لمساندة الضحية المصدومة جراء كارثة طبيعية أو نزاع، هي حثه على استعادة نقاط علاّمة، فقد يكون فقد صلته بالواقع على إثر الصدمة، أو الأزمة أو الثورة أو المؤامرة الكونية… لا تهم التسميات.

أولاً أمسك بيده؛ ثانياً ربّت على كتفه أو اضغط على كفه. ذكّره بالتاريخ واليوم، ويمكنك في النهاية أن تكتب معه قائمة “check list” بالأشياء التي أنجزها أو التي ينبغي أن ينجزها في الساعات القادمة ليتشجع، يستعيد روح المبادرة والفعل ويتجاوز التبلّد والانهيار.

اليوم، المجتمع السوري بمجمله يعاني حالة شدة ما بعد الصدمة (أو الصدمات المستمرة)، فكلمة “مجزرة” دخلت في أول ثلاثين كلمة يومية يستخدمها السوري (عذراً للبس، فكلمة مجزرة في الدارجة السورية لا تعني كما في المغاربية ملحمة). لا وسيلة لتوقع سقف أو قاع مخططات النظام في تدمير البلد بشرياً وعمرانياً. هناك قلق شديد من انزلاق الثورة وشقها العسكري على الخصوص باتجاه مسارات غير محمودة وازدياد الشعور بأن الوطن عرضة لاستباحة الخارج بكل توجهاته، المساندة للنظام أو المناوئة له. كل ذلك في ظل غياب تام لأفق سياسي ناجع، وفي ظل مزاج شعبي عام بدأ يفقد ثقته ب”المظلة” السياسية الممثلة له. في هذا السياق، من المفيد أن نعدّ قائمة تذكرنا بما أُنجز منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في سوريا، ولكن بعيداً عن “السياسي” المباشر. فمن النوافل الآن اعتبار استعادة الشعب السوري لانخراطه بالسياسة إنجازاً، هذا تسارع منذ 18 آذار 2012 وبطريقة غير عكوسة. ما سأحاول أن أضيء جانباً منه هو بزوغ المجتمع المدني الجديد في ظل الثورة، بديناميات جديدة وقوية، ومتحررة من آلة الاستبداد لإنتاج الفراغ واللامعنى في مجال “المجتمع المدني” كما في غيره. والإضاءة ستشمل ما لهذا الإنتاش الجديد وما عليه، من خلال مشاهداتي الخاصة ومشاهدات ناشطين في المجال المدني، والإغاثي منه على وجه الخصوص، وفي دمشق تحديداً.

طيلة العقد الماضي، ظهرت جمعيات جديدة لترجمة خطط التنمية التي نادت بها القيادة الجديدة ولسد عجز الدولة عن تقديم الكثير من الخدمات و الخطط التنموية ولكنها كانت إعادة إنتاج لزبائنية جديدة واسترضاء الريف، والريف البعيد على الأخص، دون أن يعني هذا بالضرورة أن التنمية الريفية سارت على أحسن مايرام، بل على العكس تماماً. كانت تلك الجمعيات التي تطمح إلى استيفاء كل شروط المنظمات غير الحكومية مغطاة أمنياً لأنها أقرب إلى النظام وتستوفي دائماً شروط الممولين لأنها تتجاوز المقيدات التي تضعها الحكومة ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية. ولكنها كرست تمايزات اجتماعية بدل أن توسع التشاركية في العمل العام.

بعد اندلاع الانتفاضة والضربات العسكرية على درعا، بدأت تظهر الحاجة الإغاثية ولكنها أصبحت ملحة خاصة بعد موجات النزوح من حمص إلى دمشق وريف دمشق. عندها ظهرت أولى الحاجات التنظيمية من تدوين وإدراج معطيات وما إلى ذلك وبدأت المجتمعات المحلية، بمساعدة تنسيقياتها، تفرز لجان خاصة للإغاثة. هذه اللجان كانت الواجهة الوسيطة بين التنسيقيات واللاجئين من جهة وبين اللاجئين والمتطوعين من خارج المجتمع المحلي من جهة اخرى، مما أجبرهم دون قصد منهم أن يكونوا المسؤولين عن صوغ المطالب والحاجات باسم النازحين. هذا الأمر، ومع مرور الوقت على إقامة النازحين دون الرجوع إلى بلداتهم ومدنهم، عرّض لجان الإغاثة المحلية إلى مناح أخرى في الحياة اليومية عليهم أن يضطلعوا بمسؤولياتهم تجاهها. في البدء ظنّوا أن الأمر سيقتصر على تأمين الغذاء بشكل عشوائي ودون التفكير بتمويل ثابت، وإذ بهم يواجهون موضوع الطبابة ومدارس الأطفال وتنظيم موضوع التمويل للغذاء وإيجارات البيوت، خاصةً حينما بدأ يتضح للجميع أن الأمر سيطول. كل هذا، إضافة للمقيّدات الأمنية الشديدة، اضطرهم أحياناً إلى معايير جودة بالعمل لم يكونوا يتوقعون الحاجة إليها، وخاصة في مجال الإحصاء والبيانات. خلال أشهر قليلة وجدت هذه اللجان نفسها من حيث لا تدري، تقوم بعبء شبه مؤسساتي، كان من المفترض أن تقوم به “الدولة”. بعد تدمير بابا عمرو في شباط 2012، برز عدد من الأطفال دون أهاليهم، يُفترض أنهم فقدوهم خلال الحملة على الحي. قامت مناطق مثل دوما وداريا وغيرها باستقدامهم ورعايتهم دون نسيان تدقيق كل بياناتهم بطريقة مهنية ودقيقة تحسّباً لظهور الأهالي مرة أخرى. وهكذا وجدت اللجان الإغاثية نفسها في الفضاء العام، وفوق ذلك مسؤولة. بعض قرى القلمون أبرزت تجارب رائدة في المستوى التنظيمي للإغاثة وفي إدماج اللاجئين في المجتمع المحلي وتحميلهم جزء من المسؤولية في إعانة أخوة لهم، نازحين آخرين. الحاجات الطبية الملحة، وخاصة بعد تفعيل المقاومة المسلحة، دفعت بلجان إحدى المناطق في ريف دمشق إلى التفكير بإنشاء مجمع طبي بتمويل محلي يحتوي على مستشفى، وكذلك عيادات مجانية وعيادات أطفال لا علاقة لها بالمستشفيات الميدانية. مع بدء العام الدراسي ومواجهة الأهالي لمعضلة المدارس المدمَّرة وانقطاع أولادهم عن الدراسة، بدأ التفكير الجدي بالتعليم الأهلي، على الرغم من تعثر هذه التجربة كونها تحتاج الحد الأدنى السلمي في مناطق ملتهبة بشكل دائم، إلا أن تمثل مفهوم اضطلاع السكان بخدمات كانوا حتى البارحة يعتقدون أنها حكر على الدولة، هو إنجاز كبير وأساس لمجتمع مدني مستقل وقادر في اليوم التالي. قد يُفاجأ القارئ إن أخبرناه أن بعض المتطوعين في هذا المجال يفكرون بإدخال مضامين في المنهاج لها علاقة بالمواطنة وبالسلم الأهلي.

العمل الإغاثي كذلك حقق إنجازاً لم تستطع الجمعيات في ظل النظام إنجازه على هذا المستوى، فقد قرّب بين كل مكونات المجتمع عامودياً وأفقياً على أوسع نطاق. في إحدى مناطق ريف دمشق، يقول أبو أحمد، أحد مسؤولي الإغاثة أنه خلال السنتين الماضيتين، تعرف على شرائح من النسيج السوري لم يعرفها طوال عمره، من الطبقة الوسطى العليا ومن الطبقة الوسطى الدنيا ومن الطبقة المقتدرة مادياً التي كانت تود المساهمة. هذه المواجهة أغنت تبادل التجارب وأشركت الجميع في موقع التخطيط والتنفيذ وإتخاذ القرار، بعيداً عن وهم عدم وجود صراعات داخلية تتعلق أساساً بمن يملك الرأسمال الرمزي في مجال الإغاثة، أي العلاقات و خاصة العلاقات مع الممولين، إلا أن الوسيط من المجتمع المحلي يوازن نوعاً ما هذه القوة الرمزية بمعرفته وخبرته بمجتمعه وقدرته على إغلاق السبل لمشاركة المتطوعين الآخرين إن أراد ذلك. هذا الاختلاط يساويه أهمية اضطرار اللجان الإغاثية إلى التعامل مع المرأة، وأحياناً الإذعان لخيارات وقرارات هذه الأخيرة، نظراً لأن أكثر المشتغلين بالإغاثة هم من النساء. تقول سميرة، وهي طبيبة متطوعة تعمل مع الكثير من النازحين وأطفالهم، أن أبو أحمد في البداية لم يكن ينظر إليها حين تتكلم معه، ليس خفراً فحسب ولكن يبدو، والكلام لها، أنه لم يكن يقيم وزناً لما تقول. اليوم وبعد تعاملها معه سنة كاملة، مازال لا يصافحها، محافظةً وتأدباً، ولكنه ينظر في عينيها حين تتكلم ويصغي دون مقاطعتها. قد يكون علمها وشهادتها أثقلا ميزانها في علاقتهما، ولكن سلوكه تغير حتماً. أليس ما سلف إنجازاً نظراً لما اعتدناه خلال العقد الماضي، حيث كانت وجوه الفاعلين في المنظمات غير الحكومية والجمعيات لا تتجاوز المائة، وهي نفسها، تتكرر بين “الأمانة العامة السورية” ومنظمة “شباب” و”فردوس”… إلخ ويمكنك أن تحصيها في تصفح سريع لمجلة “ليالي” أو “كلاس”؟

بسبب الظروف الأمنية الشديدة الصعوبة، وبسبب عدم الثقة المتجذرة بين عموم المواطنين وبين المنظمات التي تشرف عليها الدولة، حتى لو كانت هذه المنظمات حيادية نظرياً، كمنظمة الهلال الأحمر على سبيل المثال، اضطر البعض في المجتمعات المحلية إلى التطوع في مراكز الهلال الأحمر ونقاطها الطبية، كنوع من الضمانة لحسن أداء الهلال الأحمر تجاه سكان المنطقة. هذا الأمر على بساطته كإجراء، أدخل الشباب المتطوعين في منطق الاستدامة وفي منطق عمل المنظمات من هذا النوع وأتاح لهم مدخلاً على السياسات الطبية التنموية (دائماً نظرياً) وسياسات الدعم النفسي الاجتماعي. كما أتاح لهم مدخلاً على حجم الإمكانات والمصادر الهائلة التي يمتلكها الهلال الأحمر مما سيؤمن تمفصل ناجح بينه وبين الهيئات المحلية. أليس التنسيق من هذا النوع هو مما يُرتجى في السياسات الإنمائية والتنمية المستدامة التي ظل يرطن بها المسؤولون الكبار، بعد الدردري، طوال عقد.

تفصيل آخر، نجده شديد الأهمية، بدأ يظهر خلال الثورة ولو بشكل وجل جداً، هو مشاركة الجمعيات والهيئات ذات الطابع الديني في أعمال الإغاثة، وبالتالي عدم حصر الإغاثة في الطائفة التي تأسست الجمعية باسمها. هذا ما كانت السلطات تحرص على تقليصه وضغطه قبل الثورة، فعلى سبيل المثال، لم يكن يعرف الكثيرون من السوريين أن وكالة الآغا خان للتنمية تقدم خدماتها لعموم السوريين، وأن هذه الخدمات ليست محصورة بالطائفة الإسماعيلية، ويبدو أن جزءاً من هذا الجهل كرسته السلطات. في ظل الحالة الراهنة وفي ظل الحاجة الهائلة المتنامية هذا التقاطع أصبح واقعاً لا يمكن للسلطات أن تتحكم به دوماً (مازلت أتحدث عن دمشق طبعاً).

من بين الصعوبات التي يواجها العاملون في المجال المدني الإغاثي، عدا الخطر الأمني الهائل، كون النظام يعي تماماً هذه الرهانات في تأسيس مجتمع مدني جديد، هي صعوبة التمويل. يقول أحد الناشطين فضل إخفاء اسمه، أنه يفكر جدياً في طلب المال من الجهات الإسلامية، دون أن يعطينا تفاصيل عن درجة تشدد هؤلاء الإسلاميين، متذرعاً بأنهم يعطون بسخاء دون الكثير من القيود المالية، ودون تطلب الشفافية المطلقة، مستحيلة التحقيق في ظل الظرف الأمني الراهن. وهو ما عجز عن إيجاده مع ممولين آخرين، على قلتهم. ويضيف أن المنظمات الدولية لها شروطها في التمويل، منها أن تكون الجمعيات مرخصة عند وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في الدولة. من سيستطيع أن يعمل في العلن حالياُ، اللهم إلا الهيئات القريبة من “السلطات المختصة”؟ الصعوبة الأخرى التي تعبر عنها سلوى، إحدى الناشطات، هي اتخاذ الجمعيات الأهلية من العمل الخيري اتجاهاً حصرياً وخلال عقود، دون التفكير بالجانب التنموي، مما جعل من الشريحة الأكثر فقراً وتضرراً والمعتادة على التعامل مع الجمعيات الأهلية، متلقية فحسب دون مبادرات فعالة للتعاضد أو العمل التشاركي.

لن نفي موضوع المجتمع المدني الناشئ حقه في هذه العجالة، هي إضاءة أردنا في نهايتها التأكيد على الرهانات الواجب الانتباه إليها، ونتمنى أن تكون مساعدة فرنسا وألمانيا وكندا حالياً في إنشاء المجالس المدنية الثورية كافية لتكريس ما تم إنجازه حتى الآن. ينبغي المحافظة على هذه الروح التشاركية في إتخاذ القرارات، كما ينبغي انخراط الفاعلين خلال الثورة في صنع القرار كلٌ في مجاله، فهل يمكن أن نسمح بابتعاد الطبيب الذي ضحّى بوقته وماله وأمنه الشخصي عن مراكز صنع القرار في نقابته مثلاً، وهي التي أساءت لعمله خلال الثورة بتهديده الحرمان من مزاولة المهنة؟ ليس الهدف أن تشبه تجربتنا في إشراك هؤلاء الناس تجربة المجاهدين وعائلات الشهداء في ثورة الجزائر، فيما بعد الاستقلال، حين أصبحت استحواذية وإقصائية، وخلقت تمايزات وتقسيمات مجتمعية من نوع آخر؛ الهدف هو العكس تماماً، هو إشراك كل الشرائح في العمل العام.