ذهب مراسل صحفي لمحطة تلفزيونية سورية حكومية إلى مدينة حماه في بدايات شهر آب من عام 2011 من أجل إجراء مقابلات مع السكان في هذه المدينة إثر حصار النظام السوري لها. كان الحصار جزءاً من قمع القوات الأمنية الموالية للرئيس بشار الأسد الذي يواجه صعوبات ومشكلات عديدة وقد امتد هذا القمع في سائر أنحاء البلد. جاء الحصار كرد فعل لتزايد أعداد المتظاهرين ضد النظام، ففي حماه كان هناك أكثر من 500,000 متظاهر في منتصف تموز تجمّعوا في ساحة الشهداء، وفي يوم 31 تموز ليلة بداية شهر رمضان المبارك عند المسلمين اقتحم الجيش السوري بمساعدة الشبيحة (قوات غير نظامية تموّلها السلطة) المدينة مما أدى إلى مقتل 100 متظاهر، وبحلول 4 آب قتل أيضاً 100 مدني آخر.
عندما دخل مراسل التلفزيون حماه بدت الشوارع هادئة وتم تصوير المشاة وراكبي الدراجات النارية وهم مشغولون بإيقاع الحياة اليومية السريع دون سماع أي هتافات احتجاجية أو صوت طلق ناري من بعيد. ومع ذلك كان على ذلك المراسل أن يعرف أنه موجود في مدينة ساخطة ومتجرئة خلال شهور من العنف الذي ترعاه الدولة، مدينة اشتهرت بوجود المسلمين السنيين الأكثر محافظة في سوريا، مدينة جسّدت بشكل جماعي وخلال ثلاثة عقود الرض الذي أعقب مجزرة حماه عام 1982 عندما هدم النظام المدينة وقتل عشرات الألوف فيها.
كان على المراسل بالتأكيد أن يعرف أنه مهما التقط من مشاهد حياة طبيعية في ريبورتاجه فإن تقريره سيحمل في نفس الوقت طابع وجوده المرعب الذي يمثل الآلة الإعلامية للنظام بقدرتها على التخدير المؤقت لحركة الاحتجاج.
لا، ليست هذه صحافة تحقيقات رائدة بل هذه صحافة استجوابات بالطريقة الأكثر سلطوية. لم يكن المراسل مهتماً بسماع شهادات السكان ولا معنياً بمحنتهم، بل كان المراسل بدلاً من ذلك في مهمة لإنجاز أمرين اثنين: الأول هو إكراه من يقابلهم كي يصرحوا بأن الجيش دخل بناءً على طلب السكان كي ينقذهم من “المخربين” و”العصابات المسلحة” الذين ينفذون “المؤامرة الدولية ضد سوريا”. الأمر الثاني هو التعرف على أولئك الذين يميلون للتكلم بوضوح ضد النظام أمام الكاميرا. لن يكون مفاجئاً عندئذ أنه لدى محاولة المراسل مقابلة المارة بطريقة عشوائية جوبه بنظرات مستنكرة. بعض المارة أصرّ على بقائه بعيداً عن السياسة، آخرون تجنبوا الكلام مع المراسل وابتعدوا عنه ببساطة، وفي لحظة معينة أمكن سماع من يقول للمراسل: “الله معك أخي. غادر المكان. فقط غادر المكان”. سأل المراسل بصوت طنان: “لماذا؟ ألا تودّ أن تقول شيئاً؟ هيا تكلم! لماذا أنت خائف من الكلام؟”
تسكّع المراسل بين الحشد المتبقي وفي النهاية تدبّر نفسه بمحاصرة شاب يافع بميكروفونه وسؤاله: “كيف هي الأمور اليوم؟ ماذا أنجز الجيش هنا؟” رفع الشاب حاجبيه وأجاب ساخراً وملتفاً حول السؤال: “الأمور عظيمة، ولكن ماذا أنجز الجيش؟ أجبني أنت!”.
حاول المراسل بعد وقت قصير التكلم مع رجلين في متوسط العمر. كان أحدهما متحفظاً بشكل واضح بينما بدا الآخر راغباً بقول شيء ما أمام الكاميرا. في البداية تم دفع الرجل الثاني بلطف من قبل صديقه الكتوم، ولدى رؤية المراسل ذلك بدأ بمضايقتهما قائلاً: “دعه يتكلم.. هل هذه هي الحرية التي تبحث عنها؟” استدار الرجل الثاني مواجهاً المراسل وقائلاً بتوجّس: “اسمع يا أخي، أعرف أنك ستسألني وأعتقد أنك تعرف جوابي تماماً، ولكن كل ما أرغب أن أقوله أنه عار أن يحدث هذا في البلد”، فيسأل المراسل: “ولماذا باعتقادك يحدث هذا هنا؟” أجاب الرجل بعناية: “الأمة مثل أفراد العائلة والدولة مثل الأب والأب يجب أن يكون صبوراً مع أبنائه”. ثم يسأل المراسل بصورة مخادعة: “حسناً إذا كان الأب مهملاً قليلاً فهل هذا يجعل رمي أولاده له بالحجارة عملاً صائباً؟” أدرك الرجل خداع المراسل فقال: “بالطبع ليس ذلك صائباً، ولكنه خطأ الأب بعدم تربية أولاده بشكل جيد” نظر الرجل باحتقار للمراسل وابتعد عنه.
التفكير بالدولة، أو بالأحرى التفكير بالنظام، مَجازاً، كـ”أب” يستحضر العلاقة الجدلية في المفهوم الثنائي للوطن: وطن أم (Motherland) و وطن أب (Fatherland). وفقاً لـعالم الأنثروبولوجيا “غسّان حاج”، عندما يفسر الوطن بمفهوم “الوطن الأم” (هذه الفكرة تتعلق بمصطلح “الأمة”، الكلمة العربية المقابلة للمجتمع والمشتقة من كلمة الأم)، وهو الوطن بصورته حيزاً داخلياً، مثل الرحم.. الوعاء الدافئ والآمن، والوطن المربي والمانح أسباب الحياة، تتكون علاقةٌ حميميّة تدرك فيها الذات الوطنية الإحساسَ بالانتماء للوطن كأمّة إنما يبقى هذا الإحساس خمولاً. أما في مفهوم “الوطن الأب”، حيث تكون مهمّته حماية “الوطن الأم” عن طريق صياغة وفرض تطبيق القانون ورعايته، إضافة إلى حماية الحدود والدفاع عنها وضبط العلاقات الخارجية وطرد واستبعاد أو إخضاع الآخر، فتكون علاقة الذات الوطنية بالوطن، بعكس الانتماء الحميمي الخمول، علاقة امتلاك وتسلّط يكون الوطن فيه تابعاً لهذه الذات الضابطة التي تعبّر عن نفسها من خلال تحديد وتأييد الإرادة الوطنية ومدى التزام المواطنين بشروطها.. هكذا يصبح الوطن “الأب” سلطة مطلقة لها آيديولوجيتها الشمولية.
لقد بقي آخر سؤال للمراسل الحريص على كسب المناظرة، قاصراً عن تبني آيديولوجية النظام. إذ لا يعترف نظام الأسد بإهماله كـ”أب” ومن ناحية أخرى لا ينظر إلى هؤلاء الذين يرمونه بالحجارة كأبنائه، بل ما ينفكّ يصورهم كعصابات أجنبية. بالرغم من ذلك فقد نجح المراسل في تضمين سؤاله اتهاماً موجهاً ضد المنتمين للوطن بشكل خمول حميميّ فقط، مؤكداً فكرة اشتراط دعم الإرادة الوطنية الولاء المطلق لصورة الأب أي النظام.
وفي حين أن النظام يستهدف من يتجرأ على تحدّيه دون تمييز، فإن السنّيين هم الذين يشعرون بسخط النظام عليهم بالقدر الذي لا تصل إليه أية مجموعة اجتماعية أو دينية أخرى في سوريا.
عرّف النظام الأزمة السياسية بتعابير طائفية، كما عرّف النظام نفسه في مناسبات عديدة كـ “حامي الأقليات”: العلويين والشيعة والمسيحيين والدروز وغيرهم… ونتيجة لذلك يعتقد العديد من السنيين الآن بأنه من الضروري لنظام الأسد نزع صفة الإنسانية عن الأكثرية “رامية الحجارة”، وأنه من الضروري لنظام الأسد النظر للسنيين كـ “آخر” أو كـ “بدون” من أجل أن يبقيهم خارج سوريا بصورتها “الموحدة في ظل الموزاييك الثقافي المتنوع” ولكي يبقى قادراً على إخضاعهم متحكّماً بمصائرهم دون أي أسف. لقد كان هذا الشعور واضحاً في إحدى لافتات الاحتجاجات التي كتب عليها السؤال التالي: “هل تتطلب حماية الأقليات إبادة الأكثرية؟”
إن “الآخر” يهدد “الذات” والوطن والأمة لأنه غريبٌ. ويمكن النظر للسنيين بصفتهم يمتلكون علاقة غريبة مع المجتمعات الدينية الأخرى في سوريا، لأنه تم توليفهم كـ “خارج” أو “غير مألوف” أو “أولاد شوارع” أو “قرويين”. ولكن الغريب ليس هو غير المألوف ببساطة، فحسب “سيغموند فرويد”، الغريبُ مخيفٌ ولكنه في الواقع ليس جديداً أو غريباً بل هو شيئ مألوف ومؤسس مسبقاً في العقل، ولكنه جُعِل غريباً عبر سلوكيات الكبت. وبهذا المعنى تمّ النظر إلى السنيّين كـ”آخر” باعتباره الجزء الدنيء من الذات السورية.
ومفهوم الدناءة Abjection حسب تعريف المحللة النفسية “جوليا كريستيفا” هي ما يثير الاضطراب في الهوية والنظام العام، إنها، هنا، ما يصل بالسوريين إلى القناعة بأن السيطرة المستدامة وأوهام الاستقرار والوحدة والتجانس الاجتماعي قد نجحت حتى الآن في إخفاء واقع التقسيمات الثقافية والإثنية والدينية.
ليس اختزال الجدال حول سوريا في الثنائية المزعجة “أكثرية/أقليات” مريحاً أو مساعداً للسوريين. يوجد العديد من الشخصيات البارزة والمنحدرة من مجتمعات محلية إثنية ودينية أقلوية في المعارضة. وأكثر من ذلك توجد طبقة تجارية سنية قوية في دمشق وحلب مستمرة في العمل يداً بيد مع النظام مما يسهل تجارته مع حلفائه الأجانب. بالتأكيد إن مدى تعبير السوريين عن مشاعرهم المضادة للنظام ومدى صقل هذه المشاعر تصوغه الشروط السياسية والاقتصادية بقدر ما تصوغه الشروط المحلية والإثنية والدينية. وهذا ما يمكن قراءته في النهاية كصراع من أجل تقرير المصير حيث تلعب الفوارق الطبقية دوراً مهماً.
على أية حال فإن الانشغال بالفوارق الدقيقة في المجتمع السوري وخاصة تركيبته الإثنية والدينية يمكّننا من الهرب من الحيز الذي تملؤه الصور الخادعة الكبيرة. إن ثمن النأي بالنفس عن “الخطاب الطائفي”، والذي يخشاه الكثير من المعلّقين، وخاصة عند من يعتبر نفسه مثقفاً يسارياً أو علمانياً أو تقدمياً، هو استثمار لصورة الذات الوطنية (التي تمّت أسطرتها) والتي رسمتها أكثر من أربعة عقود من سيطرة نظام الأسد على الدولة والمجتمع: الصورة العجائبية لسوريا الموحدة المستقرة غير الطائفية حيث تسيطر طوائف الأقليات على طائفة الأكثرية.
ينبغي على المرء وضع تصورات جديدة والانشغال بأفكار جديدة من أجل التغلب على هذه الحقائق المثبطة للعزيمة والتي لا يمكن بعد الآن تجنُّبها. نقطة البداية هي اعتبار حوادث معينة من حالات النزاع بين السنّيين والسلطة تحت حكم نظام الأسد تمثل تعبيراً واضحاً عن نموذج أوسع من العلاقة البينية “دولة-مجتمع” في سوريا الحديثة.
لا يمكن القول إن السوريين السنيين هم جميعاً كمجموعة ضد النظام، أو أنهم المنافسون الحصريون للنظام. لقد كان السنيون دائماً مندمجين في نظام علاقات القوة في سوريا الحديثة ك”دولة-مجتمع”. ولكن إذا لم تكن معارضة النظام مقتصرة السنيين، لماذا إذن يبدو النظام متمسكاً بالنظر إليهم كـ”آخر”؟ ولماذا يخصّهم النظام بامتياز أقوى مجموعة منافسة؟