ترى هل تقاعس السوريون المقيمون في العواصم المؤثرة عن إنشاء مجموعات ضغط lobbying منهجي تؤثّر على الرأي العام المحلي في بلدان اغترابهم، وتخاطبه وفق عقليّته، وتستميله، وتحظى بتعاطفه، وعلى الأقل من أجل حماية الآثار والإرث الحضاري الإنساني المهدم في حلب وغيرها من المدن السوريّة؟!
تتكشف مجريات الثورة السوريّة، والعمل المعارض، عن ثغرات عديدة يعاني منها العمل الثوري في الخارج، وعن قصور في تقصّي المهامّ التي يجب أن ينبري لها. يمكن النظر إلى هذا القصور على أنه ناجم عن عوامل عديدة. منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي. وإذا تناولنا ثغرة محددة، ألا وهي مخاطبة الرأي العام العالمي، لوجدنا القصور في هذا الجانب كبيراً جداً، رغم خطورته وأهميته الحاسمة. إذ لم نتمكن بعد ستمئة يوم من الثورة والنزيف والدمار، من حشد رأي عام عالمي مناصر لها، أقلّه في بلد واحد من بلدان القرار العالمي.
الواقع أن إنشاء مجموعات ضغط في بلدان القرار مهمةٌ مشتركة، ينبغي التصدّي لها بالتعاون بين المؤسسات المعارضة السورية والجاليات المغتربة في تلك البلدان. ولا ينبغي توجيه اللوم في هذا القصور على تقاعس الجاليات فقط، إذ يقع كثير منه أيضاً على معارضة سورية منشغلة بخلافاتها، أهملت العمل بكثافة مع الرأي العام العالمي، وأدارت ظهرها إلى لفت انتباهه صوب ضرورة حماية الأطفال أو النساء، أو حتى فرض حظر الطيران القاتل.
والحال أن مخاطبة الرأي العام العالمي اتسمت خلال الفترة الماضية بسمة اعتباطية، أو عفوية، أو موسمية، بعيدة عن أي منهجيّة علميّة مدروسة في اختيار الأدوات، وفي صياغة الأفكار، وفي اختيار المتحدثين والمنابر، وفي نهاية المطاف توجيه الخطاب وإيصال الرسائل التي ينبغي أن يدركها ويعيها الرأي العام العالمي عن ثورة سوريّة ونزيف شعبها ودمار إرثها، بما يخدم العمل الثوري.
ولعلّ من أسباب هذا القصور الوهم الذي تكرّس لدى الثورة بأن ثمّة تدخلاً أجنبياً على الأبواب، سيلجم آلة القتل من خلال مناطق آمنة أو مناطق حظر طيران أو ما شابه من إجراءات منتظرة من حكومات غربية لم تجد قدرة على تبرير هكذا إجراءات أمام رأي عام تغرقه الدعاية الأسدية، وماكينة الإعلام الروسية بلغاتها المتعددة، والتضليل “المناهض للإمبريالية”.
ومن أسباب هذا القصور كذلك التفاتُ قيادات المؤسسات المعارضة كلياً إلى مخاطبة المسؤولين فحسب في الدول المعنيّة بالقضية السورية، سواء إيران والصين وروسيا، أو فرنسا وأمريكا والمملكة المتحدة، غير مهتمّين بمخاطبة الرأي العام إلا بما يسمح فيه وقتهم، ونزولاً عند طلب وسائل الإعلام، إن طلبتْ.
ومن أسبابه أيضاً العائق اللغوي الكبير الذي يمنع نشطاء الداخل السوري من إيجاد منصّات تواصل وإعلام متعددة اللغات، يمكنها أن تحدث فرقاً في توجهات الرأي العام في تلك الدول.
ومن أسبابه أخيراً ميل النشطاء “التلفزيونيين” إلى الاهتمام بالنجومية، وبالتنسيق مع طرف معارض دون غيره. النجومية مهمة أحياناً في العمل الدعاوي، شرط أن تصب حصراً في صالح الثورة ودماء السوريين.
هنا ينبغي القول، بين قوسين، إن الثورة السورية كسبت الرأي العام العربي بفضل عوامل عدة، أهمها عدم وجود العائق اللغوي في التواصل، وكثافة المعلومات والبيانات التي تتعلق بمجريات الثورة، وتعدّد المنصات التي تستخدمها الثورة عبر وسائل الإعلام الجديد (يوتيوب، فيسبوك، تويتر)، أو عبر وسائل الإعلام التقليدية (الصحف، الإذاعات، التلفزيونات) على اختلاف أجنداتها وسياساتها. لكنّ مفاعيل هذا المكسب ضئيلة نسبياً نظراً لطبيعة الأنظمة القائمة في الدول العربية، ومحدداتها.
بات الوصول الممنهج إلى المنصات الإعلامية المؤثرة، واستخدامها في شرح قضية الثورة، مهمة من طراز أوّل تنتظر مجموعة خبيرة من المتحدثين من ذوي المهارة والحصافة، الذين لا ينزلقون أبداً إلى لغة أو مفردات أو أفكار يمكن أن تشوش الرأي العام المحلي في تلك البلدان. والمنصات عديدة من التلفزيون والإذاعة والمهرجانات الخطابية والمعارض الفنية إلى وسائل الدعاية والإعلان في الشوارع والمترو، إلى المدونات والفيديو ومسرح الشارع، إلى مبادرة السوريين المقيمين في العواصم إلى الاتصال بالجمعيات والمؤسسات الحقوقية والتحضير لتظاهرات عالمية، وغيرها.
حقاً، لا تحظى المجازر بحق الأطفال والنساء والشيوخ بتغطيات تصل الرأي العام العالمي وتتناسب مع فظاعتها. ومن فادح الخطأ الاعتقاد أن ردة فعل العواصم والرأي العام لن تكون سوى تجاهل الثورة.
وتشير تجربة التلفزيون الكندي- المحطة الرسمية- إلى تغيير في خطابها مؤخراً، بعد أن أصبح لها مراسل رسمي داخل حلب موجود مع جهة واعية من الجيش الحر، وينقل الوقائع على الأرض. إذ اختلفت “لغة” الأخبار اختلافاً كلياً في هذه المحطّة، وغاب مصطلح “الحرب الأهلية” الذي كانت تستخدمه، وباتت تتحدث عن نظام يقتل شعبه.
ويذكر أيضاً أن السلطة الفلسطينية أطلقت يوماً حملة إعلامية ضمن المترو في أوروبا، لإظهار حجم الجرائم الإسرائيلية بحق أطفال فلسطين، وكيف كان لهذه الحملة أثر واسع اضطرت فيه إسرائيل إلى الاعتراض والضغط لإيقافها بعد أسبوع، نظراً لما حققته الحملة من تحوّل في نظرة العديدين إلى ما يفعله الإسرائيليون.
لا شك أن مسألة تنظيم هكذا حملات هو أمر صعب لدى السوريين الذين منعهم النظام إلى ما قبل قيام الثورة حتى من حملات تنظيف شوارعهم. لكن ثمة من ينبغي له أن يبدأ، من مكان ما: الاتصال باليونيسيف وبناء علاقة معها، أو اليونسكو، أو الأوكسفام، أو حتى نشر الدعايات في كبريات الصحف!
يلعب العمل المدني المساند للثورة في الخارج دوراً حاسماً في تشكيل الرأي العام العالمي وحشده، وفي مسيرة الثورة ومآلات سورية الجديدة. ويمكن القول إن هذا العمل، إن وجد، فهو من دون نتائج حتى الآن، لكي لا نقول إنه فاشل. لقد بذل الأب باولو في هذا الموضوع جهداً كبيراً، لكنه لن يتمكن وحده من فعل ما يلزم.
من الطبيعي أن لا يستوعب كثيرون في العالم أنه مازال هناك شخص يضحّي بالوزن الإقليمي للدولة التي يرأسها، وبثقلها الاستراتيجي كله، ويقتل شعبه، ويدمر آثار بلاده، من دون أن تطيح به استخبارات الدولة ذاتها.
في بلد حُظرت فيه تغطية الثورة على الإعلام العالمي المستقلّ منذ يوم الثورة الأول، ومورست تجاه المراسلين شتى أنواع الاختطاف والتضييق والاعتقال والقتل، ترى هل ينبغي للسوريين أن يبذلوا المزيد من الجهود المضنية، وأن يتخلصوا من هوى أجنداتهم الخاصة، بل وأن يستعينوا بمؤسسات استشارية احترافية لإيصال الحقائق بالشكل الأمثل إلى الرأي العام العالمي؟
ولم لا؟ فالسوريون لا يملكون ترف القيام بثورة رخيصة!