كلام بشار الأسد الأخير عن سوريا كمعقل للعلمانية يستدعي شيئاً أبعد من السخرية أو الرفض البديهي. فبالرغم من أن سلطوية النظام تقدمت تاريخياً على أي التزام إيديولوجي حقيقي، وبالرغم من الجذر الطائفي القابع خلف الكثير من ممارساته وخلف الكثير من دفاعات مثقفيه عنه، يبقى صحيحاً أن الإرث العلماني المشرقي كان في معظم الأحيان حليفاً فكرياً للإستبداد، وهو اليوم متورط في إنتاج وتغذية الفاشية السورية. الصحيح أيضاً أن قطاعاً أصيلاً من مؤيدي الثورة يحمل افكاراً علمانية أو”مدنية” الطابع ويرى في النضال من أجل دور محدود للسلطة والهوية الدينية في الحياة العامة، سيما على الصعيد التشريعي وفي مؤسسات الدولة، جزءاً لا يتجزء من معركة التحرر والديمقراطية. يتحضر هؤلاء لمعركة قادمة مع الإسلام السياسي على غرار ما يجري في مصر وتونس وليبيا، ويملؤهم الإيمان أنهم هم حملة روح الربيع العربي الحقيقية، لكن مستقبلهم يتوقف على وقفة نقدية مع الذات، إذا صحّ التعبير، تحقق أولاً قطيعة معرفية وسياسية حقة مع الإرث الشمولي وتؤسس لفرص نجاح مأمول في عصر الانتخابات الشعبية.
من الضروري التذكر أولاً أن العلمانية كمفهوم نابع من عصر التنوير الأوروبي كانت دائماً ذات وجهين: تحرري وإقصائي. الوجه الأول برز على خلفية حروب طائفية طاحنة وتمحور حول حق الانسان ككائن مستقل في الاعتقاد بما يشاء -بما في ذلك عدم الايمان بالله- وبضرورة ابتعاد السلطة السياسية عن التحزب لدين أو طائفة دون أخرى. تلك كانت مطالب نابعة من قيم الحرية والعدالة وهي لم تتحقق دون نضال سياسي طويل امتد في بعض الاحيان على مدى قرنين من الزمن. أما الوجه الاخر فقد ارتبط يما بمكننا تسميته “إيديولوجيا العلم” – أي الإيمان أن العلوم الحديثة قادرة على خلق مجتمعات جديدة قائمة على سيادة العقل فقط وأن الحضارات تتطور عبر الوقت من مرحلة دينية غيبية الى مرحلة علمية موضوعية هي الأرقى والأمثل. هنا ارتبطت العلمانية بمفاهيم التقدم والتمدن التي استخدمتها أوروبا لتشريع استعمارها للعالم والتي بلغت ذروتها مع الداروينية الاجتماعية في نهاية القرن التاسع عشر. وبدلاً من الصراع السياسي والاجتماعي الحقيقي المستمر بين القوى المحافظة والتحررية هناك، فقد عكس علم الاجتماع الناشئ في تلك الفترة صورة للمجتمعات الأوروبية كمنتج ناجز تحكمه روح العلم فقط في حين تم ربط الدين بالماضي، أو بسكان المستعمرات الاصليين.
في السياق المشرقي، اندمج معنيا العلمانية هذان في كتابات مفكري النهضة الأوائل من أمثال بطرس البستاني وشبلي شميل، وبات من الصعب الحديث عن حرية الإيمان أو مساواة بين الاديان والطوائف دون اللجوء الى مفاهيم النشوء والتطور. وبدلاً من أن تتبلور العلمانية مع الوقت كمطلب مجتمعي ديمقراطي موجه ضد سلطة دينية أو سياسية، ارتبطت في اغلب الاحيان بنزعة نخبوية موجهة ضد المجتمع التقليدي ككل أو بأحزاب “طليعية” طمحت الى الاستيلاء على السلطة وفرض رؤاها من فوق. هنا قصة معروفة عن اغتراب النخب الحداثية في منطقتنا عن مجتمعاتها وتعويلها دوماً على الدولة القوية لإحداث فقزة في الزمن كما في تركيا أتاتورك أو تونس الحبيب بورقيبة. ولأنها لم تلتفت يوماً الى البنى المحافظة في الغرب وجدلية الدين والعلمانية المستمرة فيه، لم تجد هذه النخب في الإسلام السياسي الصاعد منذ أواخر الستينات إلا تأكيداً على استثنائية محيطها وارتباطه المرضيّ بالماضي وعدم أهليته للديمقراطية، كما أنها انشغلت بالاسلام النصّي والرسمي وإمكانية تحديثه، على حساب الاسلام الممارس وتمايزاته الشتى عبر الطبقات والمناطق، وآمنت بمنطق الجماعة الواحدة الخاضعة لرجل الدين: فالجماهير مغرر بها أما القيادات فشياطين هاربة من القرون الوسطى.
وجود أحزاب وكتاب ونشطاء علمانيين في صفوف الثورة اليوم هو دليل على اختراق حقيقي في هذه البنية الفكرية بدأ في اواخر السبعينات، ثم انطلق مجدداً مع ربيع دمشق. لكن انقساماتهم السياسية الحالية تدل اًيضاً على مدى صلابة هذه البنية وقدرتها الحقيقية على عرقلة النضال الديمقراطي. قد تبدو مواقف البعض تجاه المقاومة المسلحة على سبيل المثال أو تجاه بعض الاطراف الاسلامية وليدة الظروف السياسية الحالية وتعقيداتها، لكنها في كثير من الأحيان تنبع من تشاؤم علماني مبدئي تجاه الآخر المتدين أياً كان . وفي الحقيقة فإن العلمانية الاقصائية داخل الثورة، أو المؤيدة لها في مرحلة ما، لا تترجم نفسها الآن على شكل رغبة صريحة في السيطرة والتفرد وإنما عن طريق خطاب مؤامرتي يجعل منها ضحية دائمة لاسلاميين أشرار أو علمانيين متعاونين معهم. وهي ما إن تصطدم بمثال حقيقي عن الاصولية حتى ترتد الى خطاب كوارثي ينعي الثورة ومبادئها أو يهزء بالمجتمع المتخلف الميؤوس منه أو يتخلى عن المطمح الديمقراطي الجذري لصالح حلول اكثر اعتدالاً وواقعية. العلماني من هذا القبيل يبدو في بعض الاحيان كفيلسوف مخضرم ينظر الى الواقع وبيده لائحة طويلة من الشروط والطلبات، لكنه في الواقع أشبه بطفل اكتشف للتو أن المدرسة ليست بمدينة الملاهي التي كان يرجو .. فقرر ببساطة عدم العودة اليها!
لكن… ما من خيار لعدم العودة بعد الآن، وتحدي صياغة علمانية ديمقراطية جديدة لا يزال أمامنا جميعاً. ربما علينا القبول كخطوة اولى أن تاريخاً ارتبطت فيه العلمانية والحداثة بالاستعمار والاستبداد لايمكن الهروب منه فجأة، وأن الجماهير المنتفضة قد تختار لنفسها قيادات إسلامية محافظة في المرحلة المقبلة. كيف سيبدو شكل الدولة في حالة كهذه ليس واضحاً بعد، لكنه سيعتمد بلا شك على قدرة العلمانيين على بناء شراكة مع الديمقراطيين من الإسلاميين (وهم موجودون) لتأسيس نظام يكفل الحقوق السياسية للجميع. هذا سيفسح المجال للبدء بنضال مدني حقيقي من اجل كل مايراه العلمانيون في جوهر قيمهم، بما يشمل ذلك من حريات فكرية واجتماعية ومساواة حقيقية للمرأة والأقليات في القوانين والدستور، لكن حينها سيكون عليهم الاعتماد لا على مقولات التمدن والترقي الجوفاء بل على إثبات القيمة الاخلاقية والنفعية الحقيقية لمطالبهم لأكبر عدد من المواطنين: هنا يكمن التحدي.