سنيون، علويون، أكراد، مسيحيون، دروز… تُلعب الحرب الدائرة منذ ثمانية عشر شهراً على مستوى وزن وسرعة نمو مختلف الجماعات التي تتقاسم الأرض أو تتنازع فيما بينها.

مع 33000 قتيل و340000 لاجئ خارج الحدود، من البديهي أن تحضر الديموغرافيا في الصراع الذي يجتاح سوريا منذ آذار 2011. هذا الشأن فيه الكثير من الحساسية وله سطوته، حيث نكتفي غالباً بحقيقة يعرفها الجميع حتى لو لم يعترفوا بها: طائفة، تشكل أقلية بالمعنى الديموغرافي، العلويون (من الشيع المسلمة) تحتكر السلطة وأدواتها المختلفة. أو، لنقل بطريقة أكثر دقة: مجموع الأقليات، مع اختلاف توحدها وتجانسها، تتحالف مع تلك السلطة، في مواجهة مع أكثرية السكان.

البعد الديموغرافي للصراع، يلعب دوره كذلك في وزن وسرعة نمو مختلف الجماعات التي تتقاسم الأرض أو تمزق بعضها البعض، مما يشكل عاملاً حاسماً تجاه السلطة المركزية. في الواقع، التغير الديموغرافي، وهو المنحى الأساسي لحداثة المجتمعات، لا يتغير بنفس الإيقاع في سوريا: إن كان الصراع يندرج في الحالة الديموغرافية للقوى الموجودة، فهو بذلك يندرج في التنقلات والتغيرات (الولادات، الوفيات والهجرات…) التي تمايز وتضع موضع التضاد تلك المجموعات من السكان، وخاصة بولاداتهم في معظم هذا القطر ذي 21,6 مليون نسمة، يركد التغير الديموغرافي. على الرغم من انخفاض وفيات الأطفال (18/1000)، يبقى معدل الخصوبة مرتفع وثابت، 3,5 في تحقيق عن صحة العائلة عام 2009، وهو ما يضع سوريا في مصاف الدول العربية الأكثر إخصاباً (أكثر بـ 70% من تونس، وأكثر بـ 60% من المغرب وأكثر بمرتين من لبنان). مع فروق مناطقية مدهشة: محافظات الأقليات مثل اللاذقية وطرطوس أو السويداء، حيث أصبح معدل الإخصاب متدنيا جداً، لا تنمو إلا بمعدل 1,6% في السنة بينما تنمو بقية المناطق من القطر بمعدل 2,5%..

بدءاً، فلنطرح السؤال الأبسط: ما الوزن الديموغرافي لمختلف الجماعات اليوم؟ بالرغم من الصمت الرسمي المطبق (إحصاءات، سجلات مدنية وإستقصاءات…)، فإن التقديرات تتوارد دون انقطاع: أكثر من 40% أقليات حسب التقديرات السخية، وأقل بكثير حسب تقديراتنا، حوالي 27%.

كان من الممكن أن تتوقف”معركة الأرقام” هذه عند هذا الحد، لو أنها لم تتداع باتجاه نزاع مفتوح بين مختلف فئات الشعب. أُخفيت الديموغرافيا الطائفية في العهد العثماني، كانت إحصاءات السكان تتم وفق الدين: مسلمون (دون تمييز تفصيلي بين المذاهب)، مسيحيون (مع تفصيل في المذاهب) ويهود. في ظل الانتداب الفرنسي، كانت الإحصاءات تحدد المذهب بدقة. الإحصاءات اللاحقة لذلك، أي إحصاءي عام 1947 وعام 1960 كانت تحدد الدين ولكن ليس المذهب وهي عادة أُهملت مع إحصاء عام 1970. بالمقابل، تابعت السجلات المدنية ذكر الدين للمسلمين والمسيحيين، محددة بالنسبة لهؤلاء الأخيرين مذهبهم المفصّل. بفعل الإيديولوجيا السائدة، إيديولوجيا الدولة- الأمة السورية، ولكنها الآن تسترجع شيئاً من ألوانها، كما في ظل الانتداب الفرنسي (1920-1944) الذي قسّم في ذلك الوقت سوريا إلى دول مذهبية وطائفية ومناطقية: علوية ودرزية ولواء اسكندرون وحتى دولة دمشق ودولة حلب.

السنيون، السائدون ديموغرافياً، والمسودون سياسياً

هنا، نجد أن الديموغرافية والسلطة في اختلال توازن، فالسنّة العرب (73%) يعيشون منذ 1963 في حالة خسوف سياسي. ولكن هل فعلاً يشكل السنّة جماعة؟ هم بالأحرى تجمع مختلط، حضري، ريفي وبدوي شديد اللاتجانس، مناطقي ودون إطار جامع، بعد تقويض حزب الإخوان المسلمين في عام 1982، والذي عمل كل جهده، دون نجاح يُذكر، على ضم السنيين السوريين في إطار جامع.

يبدو عاما 2011 و2012 وكأنهما يستهلان شبه تجمع، في حركة حرب لا توفّر، ولأول مرة، أي من المدن الوسطى ذات الأغلبية السنية وتقرّب بشكل رمزي بين العاصمتين، دمشق وحلب، بعد أن كانتا متنافستين ولوقت طويل.

بالرغم من ذلك، فالسلطة السورية لا تتوانى عن رعاية جماعات المصالح في هذه الأوساط، أوساط الأعمال واللصوصية، بدءاً بسوق دمشق، ومؤخراً سوق حلب، تلك الأوساط التي تشعر بأنها مدينة للسلطة. الولاءات ليست واضحة على الإطلاق، فلا تطابق تامّا بين السنّية السورية ومعارضة النظام.

الأكراد، أقلية ديموغرافية مسودة سياسياً

ماذا بشأن الأقليات؟ في غياب وحدة وطنية حقيقية، تحاول السلطة ضمها إلى النواة الصلبة العلوية. يتعلق الأمر هنا بأمر ملح ذي دلالات سياسية وعسكرية قوية.

الأكراد الذين يمثلون 8% من تعداد السكان (تذهب بعض التقديرات إلى رقم 10% مما يجعلهم الأقلية الأولى في البلد، قبل العلويين)، وهم سنة في معظمهم (95%) لا يلعبون ورقة السنة، ولكنهم بالمقابل لا يميلون نحو سلطة حرمتهم من معظم ما يعتبرونه حقوقهم الوطنية، ومن الاعتراف بلغتهم، وذهبت إلى حد حرمان جزء كبير منهم من الجنسية السورية.

في عام 1962، انتهى “إحصاء” للمنطقة الكردية من الجزيرة إلى حرمان 120000 كردي من الجنسية السورية واعتبارهم أجانب. كان يعيش في سوريا أكثر من 300000 كردي دون جنسية حتى صدور مرسوم نيسان 2011 القاضي بإعادة الجنسية السورية للأكراد. وهي بادرة هدفت إلى حشدهم إلى جانب قضية السلطة بعد عقود من الإقصاء، إلا أن هذه البادرة لم يستفد منها سوى 6000 شخص.

إن كثافتهم العالية على الحدود التركية والعراقية، إضافة إلى نموهم الديموغرافي – الأكثر ارتفاعاً في البلد– عاملان يغذيان ميولهم الانفصالية، مصغيين لأكراد العراق وتركيا وبشكل أقل لأكراد إيران. لذلك، تأخرت المعارضة السورية في إعطاء دور للأكراد خشية الاندفاعات الانفصالية. إلا أن المجلس الوطني السوري، انتخب كردي كرئيس للمجلس، وهو عبد الباسط سيدا.

لفهم التراوح في موقف هذه الأقلية، علينا الانتباه للصلات التي تربط جزءاً من أكراد سوريا وبين حزب العمال الكردستاني (ب. ك.ك)، المناهض لتركيا، والمؤيد ظرفياً لسوريا ، حيث وجد نفسه مواليا بفعل طبيعة الأشياء.

أما اليزيديون، أقلية صغيرة جداً ناطقة بالكردية وغير مسلمة، وتتميز عن عموم الأكراد المسلمين بالدين، فهم لا يشكلّون وزناً مهماً لا ديموغرافياً ولا سياسياً.

المسيحيون، قلة قريبة من السلطة؟

تبالغ التقديرات عموماً في تقييم أعداد المسيحيين، تذهب أحياناً إلى رقم 12%، أو 10% حسب سي آي إيه، أي أكثر من ضعفي ما نقدره نحن (4,6%). هناك شيء من الاستقراء التعميمي الديموغرافي بناءً على التمثيل العالي للمسيحيين في أوساط الثقافة والأعمال النافذة. إلا أنهم أول الضحايا لنجاحهم بمعنى التغير الديموغرافي المتقدم، حيث يدفعون ثمن ذلك بتراجع أعدادهم كقيمة نسبية، إن لم يكن كقيمة مطلقة.

فالمسيحيون لا يشكّلون سوى قوة مكمّلة تزن القليل في موازين القوى للأسباب الديموغرافية التالية: معدل خصوبة متدني، هبط إلى 1,8طفل للمرأة، ومعدل هجرة إلى الخارج مرتفع. مدينة حلب، الأكثر “مسيحية”، توضح بشكل بيّن هذا الهبوط، من نسبة 30% (مع بعض المبالغة دون شك) في أربعينيات القرن الماضي إلى 3,5% اليوم.

غالباً ما وجد المسيحيون أنفسهم كأقلية قريبة من السلطة ـ أحياناً في الجسم المدافع عن السلطة، تلك السلطة التي تحاول ضمهم أكثر فأكثر إلى النواة الصلبة، وخاصة منذ بدء النزاع الحالي. ولكنهم لا يشكلون كتلة واحدة لا على المستوى المذهبي ولا على المستوى السياسي.

تواجدهم في حزب السلطة، حزب البعث، ليس وليد اليوم وأحد مؤسسي الحزب، ميشيل عفلق، هو مسيحي سوري. ووزير الدفاع داوود راجحة الذي قُتل في هجوم دمشق في تموز الماضي كان مسيحياً. وقد حاول النظام تسليح ميليشيات مسيحية لدعمه، بعض المجموعات المسيحية مثل الآشوريين تسلحوا، ولكن ضد النظام مع بقاءهم على هامش المعارضة.

أما الوجهاء الكنسيون المسيحيون فقد أعلن معظمهم الولاء للسلطة، مع بعض الاستثناءات المميزة. ولكن أصواتهم عوضت عنها أصوات معارضين مسيحيين، احتلوا مراتب عالية في المجلس الوطني السوري أو في مجموعات المعارضة الأخرى.

لا يستحسن المسيحيون الأقل تسييساً استهداف السلطة المستمر للبنان، والذي يعود إلى عام 1975، في حين نسجوا علاقات قوية مع البلد، حتى العلاقات العائلية منها. وهذا ليس ظاهرة مسيحية فقط، بل موجودة عند عموم السوريين من كافة المذاهب والذين يعتبرون أن لبنان يبقى خياراً كبلد لجوء.

من بين المسيحيين، يعيد الأرمن، الذين تعود أصول معظمهم إلى كيليكيا، اكتشاف صلاتهم بجمهورية أرمينيا، التي قد تعود وطن لجوء بالنسبة لهم.

الموقف المتباين للأقليات الأخرى

تقديرات أعداد الدروز، المتمركزين في جبل الدروز (محافظة السويداء) مبالغ فيها، حالهم في ذلك حال المسيحيين: تقدر أعدادهم ب 500000، أو حتى 700000، في حين أنهم في الواقع لا يتجاوزون 400000. يرجع هذا إلى عدم الدقة في إحصاء الدروز المطرودين من الجولان إثر حرب عام 1967.

التراوح الذي رأيناه عند الأكراد أو المسيحيين نجده عندهم أيضاً. المنعكس الأقلوي يدفعهم إلى الوقوف في جبهة واحدة مع الأقليات الأخرى. إلا أنّ نزاعهم الطويل مع السلطات المتعاقبة منذ الاستقلال وحتى انقلاب عام 1963 وإقصاء الضباط الدروز من الجيش حثهم على التوجس والحذر من السلطات.

يفتقد دروز سوريا، المنحدرون في معظمهم من جبل لبنان بعد هجرتهم القسرية في القرن الثامن عشر، يفتقدون إلى قائد وطني، يجدون جزءاً منه في لبنان بشخص وليد جنبلاط، قائد الحزب التقدمي الاشتراكي، الدرزي الذي عمل جاهداً على تشجيع أبناء دينه في الجهة الثانية من الحدود على رفض الخدمة في الجيش والأمن.

أما الأقليات الصغيرة جداً، والتي لا تزن الكثير من وجهة نظر ديموغرافية، فتفضيلاتها السياسية متباينة كذلك. بدءاً من التركمان الأكثر معارضةً كونهم سنّة وناطقين بالتركية ويتماهون مع تركيا، وصولاً إلى الشيعة الأقرب إلى إيران وحليفها السوري.

قد يكون الإسماعيليون، وهم شيعة لا إثني عشريين، مقربين بشكل معتدل من السلطة. ويبدو الشركس، وهم سنة من غير العرب وينحدرون من القوقاز، حياديين في الصراع الحالي. ويمكن تفسير ضيقهم الحالي بكون بعضهم ينوي “العودة” إلى “روسيا”.

بالمحصلة، إن جمعنا العدد الكلي لهذه الأقليات المحكومة، سنجد أنها في منتصف المسافة بين النظام والمعارضة، ولكنها ليست في أي حال من الأحوال قوة حاسمة لا للنظام ولا للمعارضة.

العلويون: أقلية ديموغرافية، سائدة سياسياً

أن يكون العلويون أقلية في السلطة أو أقلية السلطة فهذا أمر ليس بذي أهمية كبيرة. فكما ذُكر في أعلى المقال، الدوائر المذهبية والدوائر السياسية لا تتقاطع أبداً بشكل كامل. وكما نجحت السلطة في شراء ولاء عدداً من السنة، فالمعارضة كذلك تضم شخصيات علوية بارزة.

العلويون جزء من الجسم السوري، ولكن حضورهم يتعدى الإطار السوري: هناك أكثر من 400000 علوي عربي يعيشون في تركيا (ينبغي ألا نخلطهم مع 15 مليون علوي تركي من شيعة تركيا) وحوالي 100000 في لبنان، وللمفارقة لبنان هو البلد الوحيد الذي يعترف بالعلويين رسمياً، بالسجلات المدنية ولهم تمثيلهم البرلماني كعلويين. بالمقابل، في سوريا وتركيا هم رسمياً مسلمون ولا يعلنون عن مذهبهم المحدد.

الراهن الحارق أحيى الاهتمام بدينهم. دينهم ينحدر من الشيعية الإثني عشرية ولكنه ابتعد عن الشيعية بسمته الثالوثية والمسارّية والتوفيقية. العلويون يؤمنون بالتقمص (وقد يكون هذا أحد أسباب انخفاض معدل الخصوبة كما هو الحال عند الدروز)، وهذا يجعلهم يتجاوزون موضع المساجد ويتسامحون في موضوع الكحول ولا يفرضون الحجاب على نسائهم الخ، وهو أحد أسباب اعتبارهم بعيدين عن الإسلام الرسمي.

ومع ذلك، فالعلويون ومنذ عام 1936 وخصوصاً منذ عام 1973 يحاولون الانضمام إلى حضن الإسلام الرسمي الشيعي، أو حتى السنّي. إلا أنّ ما يميزهم عن باقي السوريين ليس دينهم فحسب ولكن “عصبيتهم”، وفق المفهوم الذي اجترحه ابن خلدون في القرن الرابع عشر للـ”عصبة”، أي الرفع من شأن الشبكة الاجتماعية حيث تخضع العلاقات والصلات لحتمية الانتماءات العائلية أو القبلية أو الطائفية. وقد شُحذت هذه العصبية عبر تاريخهم النزاعي مع السلطة المركزية، بدءاً بعهد صلاح الدين وصولاً إلى العثمانيين مروراً بالمماليك، أكثر خصومهم شراسةً.

تاريخ مصنوع كذلك من اضطهاد اجتماعي اقتصادي، كان سيزيد من تضامنهم. وحده الانتداب الفرنسي، حاول ولفترة محدودة ضمهم إلى السلطة المركزية، وبنجاحات متفاوتة، وذلك بمنحهم “دولة العلويين”. عزاء غث، حسب ما يقول الجغرافي ايتيان دو فوماس، لأن هذه الكينونة كانت “مقطوعة عن بقية العالم… مستنبت لمجتمع كان سيذوي حتماً حتى لو تم ذلك ببطء“.

لقد بقي من هذا التاريخ السابق لانقلاب عام 1963 الكثير من الضغينة. فقد حفظ العلويون ذاكرة آبائهم، المرابعين عند الأسياد الإقطاعيين في السهل وخاصة في المدينة السنّية الرمز، حماه. حملوا كذلك ذاكرة الفتيات اللواتي كنّ “يُبعن” كخادمات لبرجوازيي وصغار برجوازيي المدن كاللاذقية ودمشق وحلب وحتى بيروت.

المنحى الوحيد للصعود الاجتماعي كان حزب البعث والمهنة العسكرية. في البدء كان ذلك من فعل الانتداب الفرنسي، الذي كان يُجند علوييِّن في كتائبه في المشرق، بغض النظر عن نسبتهم السكانية. هذا التواجد في السلك العسكري استمر لما بعد الاستقلال. تظهر الديموغرافية العسكرية أنه في عام 1955، 65% من ضباط الصف كانوا علويين، وأن اللجنة العسكرية المكلفة بالتجنيد في الأكاديميات العسكرية كانت بين أيديهم. ولكن معظم الضباط بقوا سنّة.

من عام 1963 وحتى عام 1970، دعمت السلطة مواقعهم ضمن جهازها وضمن الجيش، وبتصاعد حتى انقلاب عام 1970، العام الذي كانت فيه 61% من الشخصيات العسكرية الأساسية ومن شخصيات قوات الأمن علوية و35% منهم فقط سنّة. وذلك قبل الاستدراك القوي الذي جرى بين عامي 1970 و1997.

حركة تصحيحية اجتماعية اقتصادية

من الحركة التصحيحية لتاريخ 1970، الحركة الإيديولوجية (التي تركت الاشتراكية كمرجع)، والسياسية والعسكرية، نشأت حركة تصحيحية أخرى، احتاجت لنفس طويل وتركت نتائجها بصمات قوية على الإحصاءات، وخاصة على إحصاء عام 2004.

بينما كان معظم العلويين (97%) ريفيين قبل الاستقلال، سيطر السكان العلويون على مدن الساحل منذ عام 1990: 55% في اللاذقية و70% في طرطوس و65% في بانياس، وهي مدن كانت في زمن الانتداب الفرنسي معاقل سنّية (78%). صعود العلويين في سلك الجيش والمراكز الأمنية والوظائف الحكومية وشركات الدولة وحديثاً في القطاع الخاص، أمنّ لهم حضوراً ملحوظاً في دمشق وحمص وحماه ولكن ليس في حلب. دخولهم للمدينة ووصولهم إلى الإدارة وإلى التعليم وخاصة التعليم الجامعي (بوجود منظومة تمييز إيجابي فيما يتعلق بالمنح الخارجية)، كل ذلك أعطى دفعاً كبيراً لصعودهم في السلم الاجتماعي.

تظهر إيجابيات هذا الوضع والتي جناها العلويون، في معطيات 2003-2004. إن مستوى حياتهم أعلى من باقي السكان (ماعدا العاصمة) وبشكل واضح وملحوظ: معدل المصروف الشهري للشخص تصل إلى 3,310 ليرة سورية (أقل بقليل من 40 يورو في حساب اليوم) في المنطقة الساحلية، بينما لا تتعدى 2,170 في محافظة حلب.

متوسط الإنفاق الشهري للفرد (بالليرة السورية)
متوسط الإنفاق الشهري للفرد (بالليرة السورية)

كل المؤشرات تذهب في نفس الاتجاه: حضور ضعيف في الزراعة، وهو القطاع ذو الإنتاجية الضعيفة؛ معدل أمية منخفض بين البالغين، وخاصة بين الإناث؛ نسبة منخفضة من الإناث غير الملتحقات بالمدارس بين 5-24 سنة؛ وأخيراً تأنيث واضح وقوي لليد العاملة غير الزراعية، معيار مهم آخر للحداثة.

كما أن الدولة زودت محافظات الساحل وبسخاء كبير بالكهرباء وماء الشرب وشبكات الصرف الصحي. هذه الإحصاءات لا تعني أن كل العلويين أصبحوا ميسورين أو أنهم تحولوا جميعاً إلى مزارعين دون أراضي، كبرجوازيين صغار أو كبار: يوجد أكثر من بلدة أو حي في مدينة، فيها علويون فقراء. ولكن كمعدل متوسط، فإن منطقتهم عرفت تقدم لا نظير له.

نسبة الفتيات بين 5-24 سنة اللواتي لم يلتحقن أبداً بالمدرسة
نسبة الفتيات بين 5-24 سنة اللواتي لم يلتحقن أبداً بالمدرسة
معدل الأمية بين الإناث (15 سنة فما فوق)
معدل الأمية بين الإناث (15 سنة فما فوق)

 

التنوعات المناطقية لعدد الأطفال في المحافظات
التنوعات المناطقية لعدد الأطفال في المحافظات

مخاطر التغير الديموغرافي بسرعتين مختلفتين

ليس العلويين وحدهم من عرف هذا التآكل في نسب ولاداتهم عبر السنوات، فهم متضامنون في ذلك مع الدروز (المتواجدين بنسبة عالية في السويداء والقنيطرة) ومع المسيحيين (المنتشرين في كل البلد). في عام 2004، نزل متوسط عدد الأطفال للمرأة في المنطقة الساحلية إلى 2,1، أي العتبة الأخفض اللازمة لتجدد الأجيال (1,8 عند الدروز ومثلها عند المسيحيين).

في نفس العام وكي لا نذكر سوى الأمكنة التي تصدرت أخبار الصحف بحدة معاركها، كان معدل الخصوبة يصل إلى 3,8 طفل للمرأة في حلب (المثلين تقريباً)، و3,1 في ريف دمشق، و3,5 في حماه، و3,1 في حمص، و5,1 في إدلب و6,2 في دير الزور. في درعا التي افتتحت المسلسل الدامي، كان المعدل 4,6.

ما يعنيه هذا التغير بسرعتين مختلفتين هو أن الأغلبية من الشعب، الكبيرة بالأصل، تزداد كبراً بدفق غزير من الولادات وباطّراد، في حين أن الأقلية أو الأقليات (باستثناء الأكراد) تشهد تضاؤل ولاداتها.

في سياق نزاع، يصبح نقل الأرقام من أرقام ديموغرافية إلى أرقام عسكرية آلياً: كل سنة، في عمر 18 سنة أو أكثر بقليل يتقدم شبان من الأغلبية للخدمة في الجيش. فالانفجار السكاني الشبابي لعمر الدخول إلى الجيش هو شأن الأغلبية. بين عامي 1963 و2012، تضاعفت أعدادهم في الأغلبية السنية بنسبة 5,3 بينما لم تتعدى نسبة الزيادة 2,4 عند الأقلية الشيعية.

التقسيم المستحيل

أمام هذا النزاع المستديم، لا أحد يفكر بأن الحل الأخير سيكون تقسيم البلد وخلق دويلة علوية أو منطقة انكفاء في الساحل، سيكون هذا حدث مستجد في المنطقة حيث عرف لبنان 16 عاماً من الحرب الأهلية ولكنه نجح في الهروب من سيناريو التقسيم، حتى في العراق تم تجنب ذلك على الرغم من المنطقة الكردية ذات الحكم الذاتي.

إلا أن ما يجعل هكذا مشاريع محض خيال، هي الأسباب الديموغرافية قبل كل شيء. في عام 2012، تضم منطقة “الإنكفاء” العلوي 1,8 مليون شخص. سكانها يتألفون من 1,2 مليون علوي و665000 من غير العلويين، بينهم 340000 سنّي. وهم الأكثر عرضة للترانسفير في حال تدهورت أحوال النزاع الحالي. أما باقي الجماعات في محافظتي اللاذقية وطرطوس، من مسيحيين وإسماعيليين فسيكونون أقل عرضة.

ولكن خارج هاتين المحافظتين، تضم سوريا حوالي مليون علوي، أي ما يعادل أعدادهم في اللاذقية وطرطوس. معظمهم تجذّر في أماكن عيشه ولا يربطهم بقراهم أو مدنهم التي انحدروا منها إلا صلات ضعيفة. هذه الأرقام التي تفرض نفسها، تظهر جيداً عدم واقعية تقسيم سوريا، غير القابل للتصور بسبب طبيعة سكانها.