يزال التخبط السمة الابرز لكل المبادرات الدولية والاقليمية تجاه الوضع في سوريا. فلا حديث عن آليات محددة لكيفية ازاحة بشار الاسد ولا عن جدول زمني يتم بعده التخلي عن مجلس الامن كمدخل ضروري لأي حل. وفي حين يبدو الثوار معنيين بالدعم العسكري والمالي السريع على الارض أولاً واخيراُ، لاتبدو الولايات المتحدة الامريكية راغبة في الخروج من المراوحة الحالية قبل الاتفاق مع حلفائها الاقليميين على شكل تفصيلي للمرحلة الانتقالية في سوريا وتحديداً على اسم “الرجل القوي” الجديد القادر على قيادتها.

وبعد فترة طغى خلالها اسم العميد المنشق مناف طلاس كشخصية مقبولة للعب دور كهذا، عاد مؤخراً اسم نائب الرئيس السوري فاروق الشرع كمرشح محتمل اخر، وهو الذي كانت اشاعات سابقة تحدثت عن انشقاقه ولجوءه الى احدى دول الجوار. فتركيا، بوابة الحل السوري في رأي الكثيرين، قالت على لسان وزير خارجيتها احمد داوود اوغلو ان فاروق الشرع شخصية مؤهلة لقيادة المرحلة الانتقالية في سوريا. في حين سارع برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السابق وعضو مكتبه التنفيذي، للقول ان خيار الشرع كرجل المرحلة القادمة هو امر “قابل  للنقاش“.

لم يتحدث أوغلو عن الكيفية التي سيتوقف من خلالها سيل الدماء في سوريا ويتولى الشرع زمام الأمور، لكن المعنى الضمني لكلامه يحيلنا مرة اخرى الى “السيناريو اليمني” الذي يبدو أن مآله الغير موفّق في بلده الاصلي لا يكفي للامتناع عن التفكير في استنساخه في سوريا. ليس المدافعون عن إمكانية البحث في هذا الخيار قليلين ضمن محور “اصدقاء سوريا”، سيما وأن شطراً كبيراً منهم لا يرى إمكانية للعمل من خلال مجلس الامن كما أنّه لا يرغب في تجاوز المصالح الاستراتجية لروسيا في الوقت عينه. الحل الافتراضي هنا اذاً يقوم على رحيل الاسد وكبار مسؤولي النظام نتيجة صفقة تقدم لهم ضمانات معينة وتسلم الشرع الرئاسة لمرحلة انتقالية تحت عنوان “الوحدة الوطنية.” لكن الاسئلة هنا تبقى كثيرة: أي شرعية تمتلكها جهات المعارضة السياسية التي يمكن ان تقبل بهكذا صفقة ليس فقط امام المجتمع الدولي، بل أمام الشارع المنتفض؟ كم ضابطاً امنياً أو عسكرياً في النظام الحالي سينضوي فعلاً تحت إمرة رجل يشكل ابتعاده عن المركب الامني-العسكري-المالي المكون للنظام سبباً لحسن سيرته بقدر مايعني انعدام نفوذه داخل هذا المركب؟ وماهي المميزات السياسية الديمقراطية لفاروق الشرع اساساً؟ نظافة يده المفترضة وعدم مسؤوليته بشكل مباشر عن القمع لا تعني أنه لم يكن، طوال عقود، موظفاً وفياً لدى نظام استبدادي!

لكن السؤال الاكبر والأهم يبقى: هل روسيا معنية بالحل اليمني هذا أصلاً؟ وهل صدر عنها أي مؤشر حقيقي وجدي يدل على أنها قد تدعم خياراً يحولها في المحصلة الى طرف من الاطراف الراعية للتسوية بدلاً من موقعها المتميز الآن كعراب للنظام السوري. بعض اطياف المعارضة السياسية في سوريا تعتبر أن الروس، ومعهم الايرانيين، يطمحون في الحقيقة الى شيء مختلف تماماً، إلى “الحل الشيشاني”.

نقطة البداية لتصور كهذا تكمن في عدم استعداد روسيا للتخلي عن صعودها الجديد كقطب دولي ثاني من خلال البوابة السورية وهي لذلك تعتبر أن سوريا ليست حليفاً استراتجياً فقط في منطقة مهمة، بل ساحة صراع ممتازة مع الاقطاب الاقليمية والدولية المناوئة. قد لا تؤمن روسيا أن نظام الأسد بشكله الحالي قابل للبقاء لأسباب منها مايتعلق بعدم أهليّته إقليمياً ودولياً، ومنها مايختص بنزعته البراغماتية والتي قد تعني التخلي عن الراعي الروسي في حال اقتضت المصلحة، والإمكانية، ذلك. لكن التغيير في بنية النظام ممنوع قبل الحسم العسكري. في حسابات موسكو على مايبدو ما يشير إلى أن الغرب غير راغب وﻻ قادر على التأثير بشكل حاسم في سوريا، أكان ذلك عن طريق تدخّل عسكري مباشر أو عن طريق تسليح المعارضة المسلّحة بشكل جدّي وفعّال، أما الجهات الإقليميّة المتحمّسة لإسقاط النظام في سوريا فأمامها ميزان قوى خاسر بجدارة أمام الدبّ الروسي المستيقظ لتوّه.

انتصار عسكري، تتلوه انتخابات رئاسيّة مدجّنة يعلن الأسد فيها عن عدم ترشّحه، وبالتالي يخرج من المشهد بشكل مشرّف عقب انتصار على “المؤامرة”، وتحصل روسيا على ملحق إقليمي يقوم نظامه السياسي على ديمقراطيّة شكليّة ومدجّنة تستوعب ما يمكن تجديده من بنية البيروقراطيّة للنظام الحالي بالإضافة للجهات المعارضة التي تصالحت مع الحسم العسكري أو، على الأقل، لم تستعدِه. هذا يشكّل طبقة من السياسة الظاهريّة شبه العقيمة بفاعليتها تسيطرُ عليها “دولة عميقة” مؤلفة من عسكريين وأمنيين يعيدون إنتاج أنفسهم وصورهم بما يلائم الحليف الروسي الذي يدينون له بوجودهم بالكامل. أليس فاروق الشرع، هنا أيضاً، الاسم الأفضل كخلفٍ للأسد في رئاسة الجمهوريّة؟

القاسم الأكبر بين خيارات متناقضة ومتناطحة لمحاور متعادية. للشرع مكانٌ في حلّ يمني معدّل، وربما أيضاً في حلّ شيشانيّ معدّل. ﻻ شيء يشجع على التفكير في أنّ له مكانٌ في حلّ سوريّ عادل، ولكن لا مكان لهذا الحلّ الأخير في عقل وقلب كلّ من سبق ذكرهم.