كانت إحدى الحجج الثقافوية في رفض الربيع العربي أن تلك الأنظمة السياسية المُستهدفة بالتغيير متخلفة سياسياً ولكنها متقدمة اجتماعياً! بينما خصومها الذين يَغلب عليهم الطابع الإسلامي يريدون تحويلها لأنظمة متقدمة سياسياً، تطبّق شروط الحداثة السياسية من صناديق انتخاب وتعدّدية سياسية، ولكن يريدون أيضاً تحويلها لأنظمة متخلّفة اجتماعياً، خصوصاً فيما يتعلّق بحقوق المرأة.
وقد ساهم فوز الإسلام السياسي في انتخابات كلّ من تونس ومصر في تعزيز هذه الحجّة في أوساط «الممانعة» لهذا الربيع في نسخته السورية.
وأصبح من المعتاد سماع أقوال من هذا الممانِع أو تلك الممانِعة على شاكلة: لو كانت هذه الثورة حقيقية وتشمل حقوق المرأة كنت أوّل من شارك بها!
يُفهم من هكذا نوع من الخطاب تمايز عن السلطة السياسية، واعتراف بوجوب تغييرها أو كحدّ أدنى إصلاحها، وبنفس الوقت تماهي مع صمودها في وجه التغيير القادم بذريعة أنه يشي بالأسوأ.
هذا النوع من التمايز يبدو مقبولاً، بل ومرغوباً عند أنظمة على محكّ تغيير جذري، بعد أن كان غير مقبول بالمرّة في عزّ سطوتها وطرحها لنفسها كالنموذج الأفضل والأرقى على الصعد كافة، السياسية منها قبل الاجتماعية.
إذا اعتبرنا من يحاججون بهذا المنطق صادقين في نواياهم ولا يطلقونه كتبرير لموقف ممالئ للنظام، لوجب علينا تنبيههم إلى أكثر من خطل في هذه المقاربة:
فالتعددية السياسية المتنافسة على مناصب غير محتكرة هي الوعاء الأمثل لأي حراك اجتماعي أو مطلبي، بينما في الجمود السياسي هناك سقف أمني لأي حراك كهذا.
كما أن فوز الإسلام السياسي انتخابيا ليس قدراً محتوماً من جهة، وفي حال تحقّقه فإن مواجهته في عسفه المفترض اجتماعياً يبقى أسهل في مناخ ديمقراطي تعدّدي.
يَغفل هؤلاء أيضاً عن أن ديمومة المكتسبات الحقوقية تتعلق بانتزاعها علناً عبر نضال متراكم لأجلها، وليس عبر قرارات فوقية يزول مفعولها بزوال السلطة المانحة لها.
يمكن التنويه أيضاً إلى أن قدرة المجتمع الأهلي على الثورة ضد سلطة سياسية مستبدّة، تستخدم كل ما تملك من مقوّمات القوة والشراسة لبسط نفوذها، يعني أيضاً قدرة هذا المجتمع على مواجهة سلطات أخرى تحت-دولتيّة وانتزاع حقوقه منها.
بالتوازي مع الربيع العربي، كان ثمة تحركات شعبية من أنواع أخرى تحاول مجاراة الثورات العربية، وذلك لانتزاع مكتسبات في مسائل محددة وعبر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمحاكاة لآليات تنسيق المظاهرات، وحشد الناس، مستلهمةً اللحظات التي لا تزال في الذاكرة لهذه التجربة في تونس ومصر.
وهكذا شهدنا في لبنان دعوات للتظاهر الشعبي ضد الطائفية، يبدو أنها كانت واعدة قبل أن تدخلها القوى السياسية (الطائفية) في محاولة لاستيعابها، ومن ثم استخدامها، مما أدى بطبيعة الحال إلى تحولّها لطابع فلكلوري، حيث شهدنا سياسيّين في قلب اللعبة الطائفية، يقودون هذه التظاهرات، وبالتالي كان من المحتّم اندثار هذه التجربة.
تظاهرة أخرى، لكن هذه المرة لا تستهدف الشارع، إنما يتم تداولها حصراً على الشبكة العنكبوتية، وهي تظاهرة «انتفاضة المرأة في العالم العربي»، التي انطلقت بعد قيام عدّة ناشطات بالدعوة إلى أخذ الصور الشخصية، مع مطالب محدّدة، أو شعور يتعلق بمظلومية المرأة وحقّها في التحرّر من قيود مفترضة، مما يتيح لها فرصة التعبير عن نفسها بشكل شخصي، بدلاً من تعبير الآخرين عنها.
تميّزت هذه الحملة بفردانية المطالب التي تَعرضها الناشطات المشاركات بها، حيث تتصوّر كلٍ منهن مع لافتة تكتب عليها أنها مع انتفاضة المرأة في العالم العربي، لأسباب تختلف من ناشطة لأخرى ولكنها تتمحور عموماً حول حقوق منتهكة للمرأة، سواء في القانون أو في الحياة الاجتماعية.
كان يمكن لهذه الحملة أن تمرّ مرور الكرام، أو بالحدّ الأدنى من الاهتمام خصوصاً في الحالة السورية المشغولة بخراب العمران، والأعداد المتزايدة يومياً للشهداء والمصابين ومجاميع المهجّرين…
فبرغم اشتراك عدّة ناشطات سوريات فيها، ورفع لافتات بمطالبهن التي لا تختلف في عمومها عن مطالب غيرهن من نساء العالم العربي، إلا أن الناشطة السورية دانا بقدونس، المشاركة في الحراك السلمي السوري، والمعتقلة لعدّة أيام على خلفية مشاركتها في إحدى المظاهرات في دمشق، أثارت ضجة خاصّة. فدانا المحجّبة التي خلعت حجابها، رفعت لافتة جريئة، تقول إنها مع انتفاضة المرأة في العالم العربي، لأنها كانت محرومة من ملامسة الهواء لجسدها وشعرها لمدّة عشرين سنة.
ورغم أن حق المرأة في ارتداء الحجاب من عدمه هو أمر بديهي ضمن حملة تطالب بحقوق المرأة، إلا أن انشقاق دانا السياسي عن نظام الحكم لاقى تساهلاً وترحيباً أكثر بكثير من انشقاقها الاجتماعي (إذا صحّ التعبير) عن حجابها وبيئتها المحافظة.
الاعتراض لم يأتِ فقط من أصوات وأقلام محافظة متديّنة، بل أتى أيضاً من أشخاص ليسوا كذلك، ومن ضمن بيئة الثورة، بزعم أنه ليس الوقت المناسب لهذا النوع من الطروحات، أو أن أمراً كهذا لا تجوز مقاربته بطريقة الصدمة… بل يحبّذ أن يكون تدريجياً!
يذكّر هكذا نوع من الاعتراض بكلام سلطوي عن تحديد زمان ومكان المعركة، وعن الإصلاح التدريجي! اللافت في مثل اعتراض كهذا أنه يستلهم ثقافة النظام من قبل بعض من يثورون عليه! ويأتي أيضاً في سياق يزداد فيه تهميش دور المرأة السورية في الحراك الثوري، كنتيجة طبيعية لطغيان دور المكوّن العسكري للثورة على النشاطات السلمية.
هذا التهميش وذاك الاعتراض يشيران إلى أن الحراك النسوي المطالب بحقوق المرأة، في الحقلين السياسي والاجتماعي، ليس في غير وقته، أو نوع من الترف النخبوي كما يعتقد البعض، بل هما في الزمان والمكان المناسبين تماماً.