لنفترض أن النظام السوري سقط في مطلع آب ٢٠١١، أي عند ذروة المرحلة الأولى من الثورة، وقت كان وجهها الطليعي والأبرز هو مظاهرات كبرى بمئات الألوف خرجت في حماه ودير الزور، وكانت المقاومة المسلحة محدودة وقليلة الظهور، كيف كان للحياة السياسية السورية أن تسير؟ نتذكر أنه في تلك المرحلة التي أنهاها النظام باحتلال المدينتين بالدبابات، كانت العلاقة بين هدفي الثورة السلبي، إسقاط النظام، والإيجابي، سورية الجديدة الديمقراطية، تبدو بسيطة وبديهية. فهل كان من شأن سقوط النظام وقتها أن يسهل بالفعل انتقالاً ديمقراطياً سلساً في سورية؟

تُظهر تجربتا تونس ومصر، وهما بلدان مستقران كيانياً، ومجتمعاهما أقل تنوعاً من سورية، والدولة فيهما من الأكثر تبنيناً في العالم العربي، كم أن الأمر متعرّج ومعقد، وأن سقوط النظامين، بعد شهر من الاحتجاجات في حالة و١٨ يوما في حالة أخرى، فتح باباً لصراعات اجتماعية وسياسية وفكرية حادة، لا تبدو مقبلة على استقرار قريب. وهو ما يسوغ القول إنه حتى لو سقط النظام الأسدي بعد ٤ شهور ونصف من اندلاع الثورة، لكانت مشكلات التحول السياسي في سورية أشد عسراً من البلدين، ولربما اقترنت بعنف موضعي هنا وهناك، أو حتى عنف أهلي واسع. وبصورة ما، قد يكون تأخر سقوط النظام هو ما أبقى الصراع السوري مواجهة بين نظام طغمة عدواني وثورة واسعة القاعدة عليه، وأبقى أية عناصر طائفية في هذا الصراع في موقع متنحٍّ. فهل إذا سقط النظام اليوم يظهر وجه طائفي عارٍ للصراع السوري؟ لا نستطيع القطع بجواب سلبي أو إيجابي. لكن بقدر ما يمكن لسقوط النظام أن يطلق نوازع الانتقام فإنه يحرر جهود المصالحة والتفاهم أيضاً.

تعثر العملية الديمقراطية لا يطعن، لا في مصر ولا في تونس، ولا في سورية أو ليبيا، في الطابع الديمقراطي للثورات. فقد شاركت فيها كتل شعبية غير مسبوقة، وفي معظم الأرجاء الترابية للبلدان المعنية، وكانت تعترض بصورة مباشرة على نمط ممارسة السلطة العمومية، وانتهجت نهجاً سلمياً في الاحتجاج، يمكن للجميع المشاركة فيه، ولم توفر لأحد سبباً وجيها كي يعاديها.

لكن هذا شيء وافتراض أن تؤدي الثورات مباشرة إلى أوضاع ديمقراطية مستقرة أو قليلة التوترات شيء آخر. لا نعلم ماذا سيقال عن ثوراتنا الراهنة وعن محصولها الديمقراطي بعد نصف قرن أو قرن من اليوم، ولكن نقدر أن تعتبر بداية زمن من الصراعات الاجتماعية والسياسية والفكرية الكبرى، ولا يبعد أن تتفجر ثورات أخرى بعد حين، بل نقدر أن هذا محتم بسبب ما تحمله ثوراتنا الراهنة معها من تناقضات: فهي تتفجر ضد الاستبداد وتسقط استبداداً، لكنها تسجل موجة جديدة من صعود الإسلاميين، وهم ليسوا تلك القوى الديمقراطية، إن تكلمنا بلغة معتدلة. ثم إن الثورات تزج قطاعات واسعة وغير مسبوقة من مجتمعاتنا في الحياة السياسية دون توفر أطر مؤسسية مناسبة لاستيعاب هذا التنشيط الكبير، ما ينذر بأوضاع سياسية وأمنية مضطربة لوقت قد يطول. إلى ذلك فإن الثورات وقعت والأوضاع الاقتصادية في البلدان التي جرت فيها أما متدهورة أو راكدة، وسيكون هذا مصدراً لتوترات وصراعات اجتماعية عنيفة في وقت لن يطول. إن كانت هذه التقديرات قريبة من الصواب فإن أكثر ثوراتنا جذرية هي التي لم نرها بعد. هذا لا يلغي أن ثوراتنا الراهنة تأسيسية من حيث منابعها الاجتماعية، وتطلعاتها المحركة، ومن حيث كسرها نسقاً خانقاً من الحياة السياسية والثقافية، أشبه بالموت. لعله سيلزم وقت قبل أن نستوعب ما جرى، ونستطيع البناء عليه ثقافياً وسياسياً.

اليوم، بعد نحو عشرين شهراً من الثورة السورية، يبدو أن لطول أمدها، ولا تساع وعنف الصراع الجاري في البلد، مفعولاً متناقضاً على الانتقال الديمقراطي المرغوب. من جهة يعم التسييس السوريين ويتسع نطاق التعبئة السياسية، ولا يكاد يبقى أحد غير مبال بما يجري أو غير مشارك فيه بصورة ما، وهذا عنصر ديمقراطي بحد ذاته. كان تعميم اللامبالاة السياسية ركيزة قوية للحكم الأسدي بالمقابل. لكن من جهة ثانية تتصلب النفوس إلى درجة التشنج، وتبلغ الثقة بين السوريين حضيضاً استثنائياً، وتطفو الطوائف كركائز صلبة للاثقة المعممة (اللاثقة تنتج الطوائف، وليس العكس)، وتعرض الدولة انعدام شخصية تام أمام النظام. وهذا يرجح أن يغذي مستوى التنشيط السياسي الجاري في البلد صراعات عنيفة ومديدة في غياب مؤسسات عامة فاعلة يمكن أن تحتضن هذا التنشيط وتوجهه في مسارب عامة أقل تدميراً.

ويبدو عموماً أنه كلما طال الأمد بهذا الصراع العنيف كان التحول نحو أوضاع سياسية استيعابية أشد عسراً. ولئن لم يكن الطريق ممهدا بين ثورة سلمية وبين أوضاع ديمقراطية بعدها، على ما يظهر المثالان المصري والتونسي، وقبلهما بعقود الإيراني، فإنه بالغ الوعورة والتعرج دوما بين ثورة عنيفة وأوضاع ديمقراطية، على ما تظهر كل الأمثلة المعروفة تاريخياً. ليس عنف الثورات أو سلميتها هو العامل الوحيد في تحديد الأوضاع السياسية بعد الثورية، لكنه ليس عاملاً ثانوياً، وبخاصة كلما تطاول به الزمن. تدهور الأوضاع الاقتصادية ولا فاعلية الأطر السياسية القائمة واضطراب الأوضاع الأمنية وحدة الانفعالات العامة… ليست مما يتوافق مع مسار ديمقراطي، إن لم نقل بالأحرى أنها تنفتح على أوضاع أكثر اضطراباً، وقد يزكي طلباً اجتماعياً على الدكتاتورية.

والواقع أن السؤال الذي يفرض نفسه بخصوص الثورة السورية اليوم لا يقتصر على عسر الانتقال الديمقراطي بعد الثورة، وإنما يتخطاه إلى احتمالات قيام دكتاتورية جديدة، إسلامية الإيديولوجية. وهو سؤال يزيده راهنية أن القوة الطليعية في مواجهة النظام الأسدي اليوم هي المقاومة المسلحة، وفي أوساطها مكون إسلامي فعال. ليس هذا المكون الإسلامي (السني، طبعاً) هو الأبرز في المقاومة المسلحة اليوم، ونستبعد أن يغدو الأبرز في أي وقت، لكنه طموح ومنظم وحسن الموارد، وفعال قتالياً أكثر من عموم مقاتلي “الجيش الحر”. ولديه غير قليل من الدوافع الاجتماعية والسياسية والنفسية، والعقدية طبعاً، لتأكيد نفسه بصورة اقتحامية وخشنة في سورية ما بعد الأسدية.

المفارقة هنا أن التيار الأقدر على ممارسة حكم دكتاتوري، الإسلاميون، يحمل أيضاً أجندة اجتماعية وثقافية وقانونية ممزِّقة، يمتنع تكوينياً أن ينعقد حولها أي نوع من الإجماع الوطني الجديد، أو تتكون حولها أكثرية وطنية جديدة، ما يعني أنه قد ينقلب سريعاً إلى حكم طغياني (وليس “دكتاتورية وطنية” وقتية)، أو يتسبب في نزاع أهلي مديد. وهو ما يحتمل أن يكلف البلد الكثير من الوقت والموارد، وربما الأرواح، إلى حين يفرض منطق أكثر اعتدالاً واستيعايية نفسه. ربما يحد من ذلك منازعات الإسلاميين أنفسهم. فالتيار الصاعد اليوم هو السلفيون، ما يمكن تسميته بشيء من التبسيط الإسلام السياسي الريفي، أما الإسلام السياسي المديني، الإخواني، فهو متراجع الوزن ولا يجد مستقراً لنفسه، بينما هو يتعرض للتجاذب من طرفين متقابلين: التيار السلفي وجمهور إسلامي غاضب منجذب إليه من جهة وتيارات وطنية علمانية من جهة أخرى.

وهذا يرتب تحديين على الثورة السورية: تحدٍّ سياسي قريب يتمثل في درء مخاطر نشوء دكتاتورية إسلامية، وتحد فكري أطول مدى وأكثر تعقيداً يتصل بالتعارض بين مدارس الفكر الإسلامي القائمة والمقتضيات السياسية والحقوقية والفكرية للديمقراطية. وفي هذا التحدي الأخير نحن شركاء لمصر وتونس والبلدان العربية الأخرى. ويبدو أننا شركاء لهما في التحدي الأول أيضاً.

السؤال المهم الآخر يتصل بما إذا كان للثورة دور منشئ في هذه الأوضاع القلقة المفتوحة النهايات، أم أنها أظهرتها فحسب، بعد أن كانت محجوبة مثل مجتمعاتنا كلها بفعل الطغيان؟

في سورية، وبفعل طول أمدها وعنفها المتزايد، للثورة دور منشئ وليس مُظهِراً فحسب، كما قد يكون الحال في تونس ومصر، البلدين اللذين يجمعان اليوم بين عدم اكتمال سقوط نظاميهما، وبين مشكلات سيطرة الإسلاميين السياسية. خلقت الحرب الأسدية طوال أكثر من عشرين شهراً استعدادات متطرفة وعدمية أحياناً في أوساط من المجتمع السوري، ونحن مهددون بأن يغدو العنف عادة عند ألوف السوريين أو أكثر، وبارتفاع مديد في حدة الانفعالات الطائفية، وهي لا تشكو من الانخفاض اليوم، حتى في أوساط المثقفين.

ليس أن هذه الاحتمالات كانت مستبعدة تماماً، لكنها ليست تفتحاً محتوماً لبذور كانت كامنة في كل حال في تكون مجتمعنا. هذا نفي للتاريخ وللخيارات والمسؤوليات الإنسانية. كان يمكن لهذه الظواهر المقلقة أن تظهر في نطاقات أضيق وبصيغ أيسر تدبراً لولا الانكشاف والإباحة الرهيبين الذين أصابا قطاعات واسعة من المجتمع السوري طوال زمن كثيف ومتماد، لا نعلم متى سينقضي.

الثورة السورية في أي طور من أطوارها، مختبر للمعرفة الاجتماعية والسياسية، لم يعرض تاريخ بلدنا في أي وقت سابق ما يقاربه من فرص للملاحظة والتأمل والتقدير، وسوء التقدير طبعاً، وليس هناك نسخة أصلية للثورة يمكن بالرجوع إليها فهم النسخة الجارية لعمليات الثورة اليوم، أو تتيح قول الحقيقة عنها. إننا مرميون في أوضاع غير مسبوقة، ولا نعرف ما القول الصحيح في شأنها، لكنه بالتأكيد ليس موجوداً في أي كتاب دنيوي (قد يكون اسمه “علم الثورات”) أو ديني محفوظ. أليس هذا تعريف الحرية أصلاً؟