توطئة
منذ أربعة عشر شهراً انطلقت الثورة السوريّة مدفوعةً بأحلام السوريين بالانتماء للعالم الحرِّ، عبر بوّابةِ الربيع العربيِّ بنقلته الأولى في كل من تونس ومصر، مضافاً إليها ردّة فعلٍ على عنفٍ دموي مزج قمعاً منفلتاً من عقاله مع أبشع أشكال الإذلال الذي لا يمكن أن ترتكبه سلطةٌ مع شعبٍ إلاّ إذا نظرت إليه كآخرَ منفصلٍ ذي قيمةٍ أقلّ. الثابت الوحيد خلال سنة الثورة الأولى هو قرار الحراك الشعبيِّ بعدم العودة، وأيضاً قرار أهل الحكم في سوريا بالمضيِّ قُدُماً في معركة البقاء في السلطة. أمّا ما تبقّى فهو متحرّكٌ. والثابت والمتحرّك ضمن الفضاء السياسيِّ السوريِّ لم ينالا حقّهما من البحث، ذلك أن المنطق الرغبويَّ أحال الوعي لاستقصاء المعلن من الخطاب السياسيِّ – وما كان معلناً عند المعارضة حتميّة سقوط النظام، رافقه خطاب النظام بنهاية الأزمة!- والتعويل عليه بشكلٍ يفوق ما تتطلّبه حساسيّة المرحلة من بحثٍ وتحليلٍ جادّين، وفي المقابل كانت التضحيات التي قدّمها الشعب السوريُّ أكبرَ بكثيرٍ ممّا كان يمكن لأيِّ محلّلٍ سياسيٍّ أن يتوقع، إنها حالةٌ نموذجيّةٌ كي يكتبَ فيها الشعراء قصة بعث العنقاء من الرماد.
خطّة العمل
1- اسم البحث: سوريا ثورة مستمرّة
2- الكاتب: قاسم الطباع.
3- مقدّمة: مدخلٌ في المشهد السوريِّ من باب استمرار الثورة وأهمّ الأخطار التي تواجهها
4- السلطة وآليّات عملها: قراءة تتوخّى النظر في: العناصر الأولى للإستراتيجية، ومستجداتها في الشقِّ السياسيِّ منها الذي عرف نقلةً مع صدور الدستور، وصولاً إلى أزمتها.
5- المعارضة وآليّات عملها: النظر في فوضى الاستراتيجيّات، المشتركات، والانقسامات، وسيطرة العفويّة.
6- خاتمة وتوصيات.
مقدّمة
مع دخول الثورة السورية عامها الثاني، وفي ظلِّ التصعيد الدمويِّ للسلطة السوريِّة التي صعَّدت مسارها من الحلِّ الأمنيِّ إلى مرحلة “الحسم العسكريِّ”، يبدو المشهد السوريُّ أشدَّ تعقيداً ممّا أمل المعارضون والموالون على حدٍّ سواء. فعلى المستوى السياسيِّ، تعمل النواة الصلبة للسلطة على إعادة بناء النظام السياسي بعد أن أيقنت أن النظام القائم لم يستطع القيام بأي من دوريه الوظيفيين: فلا هو منع نشوء الثورة، ولا استطاع إخمادها؛ وهي تقوم بذلك، كما بكل ترتيباتها، دون إشراك أيٍّ من أطراف النظام في القرار. والانشقاقات التي عوّلت عليها المعارضة مازالت محدودة، لأسبابٍ تتعلّق باستمرار الاعتقاد في الجيش بقدرة السلطة على تجاوز محنتها، ولتماسك الأجهزة الأمنيّة واستمرار قدرتها على المراقبة، وبطشها الدمويِّ الذي يطال عائلات المنشقّين. وفي المقابل فشلت الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة في إنهاء الحراك الشعبيِّ. والظروف التي ساعدت هذه الأجهزة على إيجادها، تحديداً التسلّح، أمّنت لها ما أرادته من تخويفٍ للأقليّات وتماسكٍ داخليٍّ لعناصرها، وتخويفٍ لأطرافٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ من الوقوع في فوضى “الجهاديين”؛ ولكنّها في الوقت نفسه فقدت شيئا كثيراً من القدرة على ضمان ضبط هذا الوضع، والسيطرة على امتداده بقواها الذاتيّة ضمن الشرطين الدوليِّ والإقليميّ الراهنين. أمّا على المستوى الاجتماعيِّ المتفاعل مع الحالة السياسيّة فنجد أنه من اللافت للنظر حجم التخندق من قبل الموالاة والمعارضة، وتحديداً الشّد النفسي الذي ينعكس في تفاؤلٍ غير مبرّرٍ بمعطياتٍ عقليّةٍ عن انتصارٍ وشيك، وهو ما لا يمكن تفسيره خارج دائرة حالة الدّفاع النفسيِّ في وجه الآخر.
السلطة وآليّات عملها
منذ وصول حافظ الأسد، والد الدكتاتور الحالي في سوريا، إلى السلطة، عمل على بناء شبكة حماية لسلطته الاستبدادية عبر تدعيم مكونات اجتماعية منها الطائفية والعشائرية، ومن خلال كبح التكون الوطني وتذرية الوطن السوري إلى حساسيات جهوية ترتبط كل منها بسلطته عبر حزب البعث والنقابات الصفراء، والأحزاب التابعة له التي نظمها في “الجبهة الوطنية التقدمية”، وبإشراف من الأجهزة الأمنية. ومستفيدا من الانهيار الذي أصاب البرجوازية السورية، نتيجة التأميم الذي قام به يسار البعث الذي انقلب عليه، دفع الأسد الأب، المسيطر على الاقتصاد السوري بشدة عبر “رأسمالية الدولة الرعوية”، لتشكّل برجوازية سورية مرتبطة به من عناصر قديمة وأخرى جديدة تكونت من بطانته([1]). وفي ثمانينات القرن الماضي، وفي مواجهة التمرد الشعبي الذي تعرض له، قام حافظ الأسد بتضخيم أجهزته الأمنية أضعافاً معتمداً على فقراء الطائفة العلوية، دافعاً مزيدا منهم للارتباط معيشياً بحكمه؛ ووسع من منافع البرجوازية، تحديدا في دمشق وحلب، وجعل تجاوز القانون والتهرب من الضرائب والاحتكار سبل إثراء سهلة لها. وبعد موته ورث ابنه بشار شبكة الحماية هذه، لتتأثر خلال عقد من حكمه بالتغيرات الدولية، وبإهماله لحزب البعث وجبهة الأحزاب التابعة له (اللذين كانا يفقدان كثيرا من تأثيرهما نتيجة تراجع دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي). ونتيجة تنامٍ غير مسبوق لتزاوج المال مع السلطة، تركزت الثروة في يد المجموعة الحاكمة، وتعالت السلطة على بقية المجتمع وازدرته بشكل سافر؛ وهو ما زاد الفوارق الطبقية في المجتمع، ودفع مزيداً من الشرائح الاجتماعية إلى الفقر الشديد. وإن كانت قوة الأجهزة الأمنية قد منعت تعبيرات سياسية عن الأوضاع الجديدة، إلا أنها لم تستطع القضاء على الغضب في القلوب التي خرجت إلى العلن حينما وجدت الأوضاع المناسبة.
منذ الأيام الأولى للحراك الشعبي وجدت السلطة السورية نفسها منقطعة عن المجتمع، تعاليها دعّم في ذهنها الإحساس بالغربة والشك في مكوناته؛ الأمر الذي جعلها تندفع لإشراك قاعدتها الطائفية (وأولاً لأنها المكون الاجتماعي الغالب على أجهزتها الأمنية)، من خلال خلق ظروفٍ تبعث في جنباتها الفزع؛ فعمدت إلى تنظيم قاعدتها –مدّعيةً أنها تستجيب لمطالبها- ونحتت لها الإيديولوجية الملائمة، وبهذا خطت خطواتٍ واسعةً في طريق نقلها إلى مصافّ “الطائفة السياسيّة”. في الوقت الذي سعت فيه إلى بناء “تحالفٍ طائفيٍّ” تحت عنوان “حماية الأقليّات” وفي مواجهة خصومها الذين أعملت الذبح فيهم لإجبارهم على اعتبار ما يحصل استهدافاً طائفيّاً، الأمر الذي سهّل العمل على الطائفيين في صفوف الحراك الشعبيِّ في محاولتهم تعميم تصوّرهم على بقيّته. وفقط إن نجحت السلطة في استكمال ما بدأته بهذا الخصوص يمكن لها نقل عمليّة الصراع من معادلة “شعب – نظام” إلى مأزق الحرب الأهليّة، لتطرح فيه نفسها حامية الدولة إن استطاعت؛ ولكن بكلِّ الأحوال، ومهما تعدّدت سبل تطوّر الصراع، فهي مهتمّةٌ بأن تُقبل ممثّلاً لأطرافٍ اجتماعيّةٍ تهرباً من المستحقّات المستوجبة على نظامٍ سياسيٍّ يتعرّض لثورةٍ شعبيّةٍ، بعد أن تدفع إلى تعميم حالةٍ من التوجّس من تفجّر صراعٍ واسعٍ في المنطقة([2]). وهي وجدت فعلاً دعماً روسيّاً وصينيّاً([3])، ومشاركةً فاعلةً من إيران وحزب الله، لتقديم الصراع بهذا الشكل. ولكنها بمقدار ما حقّقت نجاحاتٍ على هذا الصعيد كانت تدفع جموعاً أوسعَ من الأغلبيّة السنيّة باتّجاه الالتحاق بخصومها، ما أبان مكمناً من مكامن ضعفها البنيويّ.
كان بناء، أو إعادة بناء، حامل اجتماعيّ بقلبٍ وإيديولوجيّةٍ طائفيّين، هو المحور الرئيس لإستراتيجيّة النواة الصلبة؛ ما تبقّى من الإستراتيجية عرف تعديلاتٍ متفاوتةً خلال عام الانتفاضة الأول استندت إلى حركة الأوضاع الدوليّة والإقليميّة والمحليّة وفهم السلطة لها. ويمكن من سلوك السلطة استنتاج أنها مازالت تناور في محاولةٍ لاستعادة توازنها وهي لهذه الغاية، بمساعدةٍ حثيثةٍ من حلفائها، تحاول إجراء تعديلاتٍ على بنية النظام ليصبح أكثر ليونةً للتجاوب مع حاجاتها الجديدة. ومؤخّراً استكملت وضع دستورٍ يتناسب مع تصوّرها لشكل حكمها في الفترة المقبلة، وقد تضمن عناصر تصوّرها لتسويةٍ تظنّها ممكنةً.
تشكّل نواة الإستراتيجيّة
التعليقات الصحفيّة الأولى على انتفاضة السوريين بالغت في الادّعاء أنها قد فاجأت سلطتهم، ربّما هي قد فاجأتها في مكان انطلاقها، وإصرار المشاركين فيها على الاستمرار رغم القمع المهول الذي واجهتهم به، ولكنّ كلَّ المؤشّرات تدلُّ على أن هناك في مركز السلطة من كان يراقب الموجة الديمقراطيّة في تونس ومصر([4])، وكان يدرك أنّ هناك الكثير من المشتركات بين أوضاع البلد الذي يستبدُّ فيه والبلدان التي عمّت الثورة فيها ما يجعل السلطة عرضةً لما اعتبرته “العدوى”. ولهذا طرحوا على أنفسهم وحلفائهم السؤال الاستشرافيّ “ماذا نفعل إن امتدّت العدوى إلى سوريا؟”، لضمان الثابت في إستراتيجيّة النظام وهو”بقاء الواقع السوريِّ على حاله”. نجد أن هناك استعداداتٍ رُتِّبت على عجلٍ ما بين طرح السؤال ووصول أوّل الأجوبة، نستنتج ذلك من حجم البطش الأوّليِّ (الذي قوبلت به محاولات التظاهر والاعتصام دعماً للثورة التونسيّة والمصريّة) والمسارعة إلى تقديم روايةٍ متكاملةٍ عن “سلفيّين” و”مؤامرة”، وتحميل الخارج المسؤوليّة، والصورة الإعلاميّة المنظّمة([5]) التي صنعتها بداية فضائيّة العالم(الإيرانية) جارّةً وراءها قناتي الإخباريّة والدنيا “السوريتين”. استعداداتٌ حملت في طيّاتها كلَّ ما هو غريزيٌّ في طبيعة النظام وإيديولوجيّته. ومن التدقيق في ردّة الفعل على بوادر الحراك الشعبيّ يمكن لنا أن نستخلص عناصر الخطّة الأوليّة للسلطة التي تضمّنت عناصر استمرّت بالاتّساع وأُضيفت لها عبر الصراع مستوياتٌ أخرى وهي كما نظنُّ:
1- اتّهام الحراك بأنه مؤامرةٌ خارجيّةٌ
2- الردُّ بعنفٍ شديدٍ سعياً لمنع النويّات الأولى للمتظاهرين من الاتّساع.
3- منع المتظاهرين من التجمّع في بؤرةٍ مدينيّةٍ وتنصيب ساحةٍ للحريّة مهما كان الثمن، حتى لا يصبح هناك أمرٌ واقعٌ يعقّد سبل الخلاص منه يتيح للمتظاهرين بناء مركزٍ للنموِّ والتلاقي مع الجمهور المتذمّر من الأوضاع في البلد، وينتج قيادةً ميدانيّةً كما حصل في تونس ومصر.
4- منع الإعلام (غير الرسميِّ وغير المنحاز للنظام) من الوصول للمتظاهرين والتعريف بهم وبمطالبهم؛ كونه، إن وصل، يعقّد إمكانيّة اتّهامهم بأنهم سلفيّون، وعصابات وعملاء، ويحد بالتالي من قدرة النظام على قمعهم.
5- اعتماد القمع، والمزيد من القمع، للدفاع عن جدار الخوف، وترميم التصدّعات فيه.
6- ضمان التفاف قاعدة النظام الاجتماعيّة. وأشار تركيز السلطة من اللحظة الأولى على القطاع الطائفيّ من جمهور النظام، على عدم ثقتهم بالولاء خارج محدّداته الطائفيّة، وأبرز قناعتهم باستحالته دون الشحن الطائفيِّ. وهناك الكثير ممّا يبعث على الاعتقاد بشكهم، في بداية الانتفاضة الشعبيّة، أن يجدوا أيَّ تضامنٍ شعبي معهم، نتيجة انكشافهم طوال الزمن السابق كنظام فسادٍ ومحسوبيّةٍ وإفقارٍ لعامّة الناس، بما فيهم هؤلاء الذين يدّعون اليوم حمايتهم.
7- محاولة نقل الحراك إلى مستوى مطالب معيشيّةٍ ذات طابعٍ أهليٍّ لقطع الطريق على بعده السياسيّ. فعلى الرغم من رفع قانون الطوارئ، في محاولةٍ لإظهار بعض الليونة، إلا أن الاعتقاد الراسخ عند النواة الصلبة للنظام بأن أي عملية إصلاح حقيقي يمكن أن تجريها ستفضي إلى تفلت السلطة من بين أيديها قد أبعدَ من خياراتها “العطاءات السياسيّة”( ظهر ذلك جلياً بتراجع السلطة عن مؤتمر الحوار الذي باشر فيه الشرع)، فمالت إلى محاولة اللقاء بممثّلين تقليديّين عن الأهالي مستبعدةً القوى السياسيّة (ومن ثمّ السياسة) في محاولةٍ لرشوتهم عبر عطاءاتٍ اقتصاديّةٍ. وفي هذا نتبيّن إدراكاً، ولو كان أوّليّاً، لدى نواة السلطة عن ضرورة ترميم انقطاع حصل بين السلطة والمجتمع.
تطوّر الإستراتيجيّة
على الرغم من المحاولات الأولى للسلطة من أجل ردم الانقطاع بينها وبين المجتمع، عبر اللقاءات المكّوكيّة بالزعامات الأهليّة، فإن الفشل كان عنوان المرحلة الأولى كاملةً. فالقيادة في الميدان كانت لجيل الشباب الذين لم يَعْبَؤوا كثيراً في بداية الانتفاضة بالوجهاء وتحرّكهم. لذلك ركّزت آلة القتل جهودها للتخلّص من القيادات الشبابيّة وتحديداً الواعية منها. يمكن الاستشهاد بمدينة داريا الواقعة قرب دمشق، حيث قاد الحراكَ هناك نخبةٌ من الشباب الأكاديميّ صاحب التجربة في العمل المدنيِّ والثقافة السلميّة، المستمدّة من فكر المتنوّر الإسلاميِّ المفكّر جودت سعيد. حيث اعتُقلت كلُّ المجموعة القياديّة السلميّة هذه، وتمَّ قتل أبرز ناشطيها “غياث مطر” وانتزاع حنجرته التي كان ينادي من خلالها في شوارع مدينته بالسلميّة وبحبِّ عناصر الجيش. وهو ما حصل بالطريقة نفسها تقريبا في كلِّ مناطق الحراك، من محافظة درعا جنوباً إلى مدينة كفرنبل شمالاً مروراً في محافظتي حمص وحماه وإلى الغرب في محافظة اللاذقية وانتقالا للشرق في مدينة البوكمال ومحافظة دير الزور. وعندما فقدت النواة الصلبة أملها بقرب انتهاء الحراك عبر خنقه، وازدادت مخاوفها من امتداده، صعّدت من إستراتيجيتها عبر:
١. تطوير عمل الشبيحة، من خلال تحويلهم إلى ميليشياتٍ مسلّحةٍ على طول البلاد وعرضها. سلّحت لهذه الغاية عناصر حزب العمّال الكردستاني([6]) وسلحت القبائل في الشرق التي ترتبط مع رجالات السلطة بعلاقاتٍ وثيقةٍ نتيجة تبادل منافع العمل في التهريب؛ ودفعت الفصائل الفلسطينيّة التابعة لها إلى تشكيل ميليشيا من مروّجي المخدّرات والمجرمين؛ وشكّلت نواة ميليشيا في محافظة السويداء من مهرّبي الآثار وفئاتٍ إجراميّةٍ أخرى؛ بينما كانت عمليّة تشكيل ميلشيات بين أبناء الطائفة العلويّة أسهل، حيث يمكن اعتبار أجهزة الأمن ميليشيا طائفيّة، وكذا الفرقة الرابعة والحرس الجمهوريّ، وهي قادرةٌ على الحياة والاستمرار حتى لو سقط النظام لتوفّر التلاحم الطائفيِّ بين عناصرها، ووفرة السلاح بشكلٍ عامٍّ في مناطق سكن الطائفة بشكلٍ خاصّ، وتوفّر العلاقة بين قادتها وكلٍّ من إيران وحزب الله.
٢. الاستمرار في إرهاب الطبقة الوسطى المدنيّة، لمنعها من الخروج إلى الشارع، ومن ثمّ حرمان الحراك من قيادته المدنيّة، عبر القتل وإضعاف الرقابة على الجرائم، والتفجيرات المدبّر.
فتح مسارب لعمل الجماعات السلفيّة، التي خبرها النظام وعملت خلال عقدين برعايته، ودفعها للتسلّح، وإدعاء أنها جوهر الحراك لإثارة الرعب بين جمهوره الطائفيِّ وأوساط الشعب السوريِّ الميّال للاعتدال الدينيِّ والسياسيِّ.
٣. النيل من المعارضة عبر سياسة تمييز بينها، وتشكيل أطر مرتبطة بها (السلطة) تدعي معارضتها وتتمحور مهمتها بـ: التشكيك بالمجلس الوطني على وجه الخصوص؛ التكامل مع دموية السلطة من خلال إثارة الفزع العام من الأثمان التي يستجرها الحراك –حسب زعمهم- حين يصر على هذا الهدف، والتأكيد على استحالة التغيير الجذري؛ بناء خطاب يقول بأن لا سلام ولا عقلانية إلا بالحوار مع السلطة، والقبول بتقديماتها السياسية. وهؤلاء يعملون فعليا بديلاً عن عمل “الجبهة الوطنية التقدمية” التابعة للنظام المنهار التي أثبتت عجزها، ويشكلون جزءاً من النظام الذي تعمل السلطة على بناءه. ([7])
٤. محاصرة الحراك في البلدات الريفيّة ومحاولة خنقها، وإيصالها إلى قناعة أن الحلَّ الوحيد أمام دمويّته هو التسلّح لحماية الذات.
٥. التهديد بأن تقعَ الأسلحة الكيميائيّة التي يمتلكها الجيش في نطاق الفوضى
٦. تقديم حلٍّ سياسيٍّ تحت سقف النظام، ومحاولة إعادة بناء آليّات تكيّفٍ مجتمعيّةٍ وسياسيّةٍ
الحلُّ السياسيُّ من موقع النظام: قوننة الحكم السلطانيّ
بعد أن شرّع الدستور السوريُّ الجديد الواقع الراهن للرئيس مركزاً أوحد للسلطة، أُشيع مرّةً أخرى ما سبق وقيل عن تفويض السلطة السوريّة للروس مهمّة عرض تشكيل حكومةٍ على أطرافٍ من المعارضة. سُرّبت مثل هذا المعلومات من قبل عدة مرّاتٍ، في إحداها كان المرشّحُ هو هيثم منّاع رجل هيئة التنسيق الوطنيّة الإشكالي وغير المحبّب من قبل الحراك الشعبي (حسب لافتات رفعت ضدّه اتّهمها الرجل لاحقاً بأنّها مأجورةٌ) وفي رواياتٍ أخرى تمَّ تداول اسم قدري جميل، الرأسمالي من أصولٍ كرديّةٍ الذي يقف على رأس لجنةٍ لتوحيد الشيوعيين!.
ويبرّرُ تغيير الدستور في هذه الفترة المضطربة، وتحت النار بالمعنى الحرفيِّ للكلمة، التفكير إن كان هناك مناورةٌ محتملةٌ من قبل النظام لتجاوز تصلّبه الذي أدّى لاجتماع قرار التخلّص منه داخليّاً وخارجيّاً للمرّة الأولى منذ الانقلاب الذي أتى بالأسد الأب للحكم. مشكلة النظام، التي يدركها ولابدَّ بعد ما يقارب السنة من انتفاضة تتّسع بدل أن “تخلص” (حسب ما ردّد إعلامه، وركّزت أجهزته القمعيّة كلَّ جهدها ليحصل) كانت في تصلّبه الداخليِّ والخارجيّ، وافتقاده قدرة تكييف قطاعاتٍ من الشعب السوريِّ معه (بعد أن كانت خلال فترة نشأته إحدى مميّزاته التي قيل فيها ما يشبه الشعر).
أن تقوم السلطة السوريّة بتغيير المادّة الثامنة من الدستور، وهو أحد المطالب الرئيسية للانتفاضة الشعبيّة، وتعمد إلى تشريع سلطةٍ غير محدودةٍ للرئيس تتيح له السيطرة على الحكومة وإن كان على رأسها معارضٌ، وتضمن سيطرته على مجلس الشعب وإن حوى معارضين، دون إجراء أيّ حوارٍ (علنيٍّ على الأقل) مع المعارضة -يدفع للتفكير إن كانت توضّب عرضاً يمكن لها تقديمه لأطرافٍ من معارضةٍ لم يعد بالإمكان تجاوز وجودها، بل لعلّها تظنُّ أن هذه الأطراف يمكن أن تكون جزءاً من مخرجها بعد أن ضمنت وقوف كلٍّ من الصين وروسيا معها بهذه الجديّة وتخوّف إسرائيل من إمكانيّة التغيير الراهنة. بل أن هذا السلوك يبعث على الاعتقاد بأن السلطة قررت الانقلاب على النظام الذي ورثته، وبناء آخر جديد يضمن ديمومة سطوتها.
الإستراتيجيّة كما تظهر بآخر تطوّراتها تنقسم إلى شِقّين (بعد أن كانت تنحصر في الحلِّ الأمنيِّ): شِقٍّ أمنيٍّ، وصل لدكِّ المدن والبلدات بالمدفعيّة، يعتمد على التخوّفات الدوليّة والإقليميّة من فوضى اجتهدت السلطة في توفير عناصرها؛ وشقٍّ سياسيٍّ، يتمحور حول جمع كلِّ سلطات الدولة في يد رئيسٍ يشارك الأجهزة الأمنيّة صلاحياته، وتمدّه بأسباب السيطرة الكافية لاستمراره، ممّا يجعله قادراً على تحمّل معارضة تلتزم الخطوط الحمر التي يحدّدها، فيسمح لها بالمشاركة في الانتخابات والحكومة ويضع على صدرها وسامَ الوطنيّة التي يحتكرها.
الإجابة عن إمكانيّة نجاح مثل هذه التسوية يمكن أن تحتوي بعض التسرّع إن ظننّا أنها تقف عند شخص الرئيس (الذي لا بدَّ أن نواة السلطة مازالت متمسّكة به، وتضع باستمراره، حتى اللحظة، معنى النصر أو الهزيمة)؛ فالعناد عند هذا الشرط من قبل السلطة يمكن أن يتراجع إن وجدت أنّ رحيله سيكون مشابهاً لرحيل الرئيس اليمنيِّ علي عبد الله صالح، رحيل يشبه البقاء بكلِّ المعايير. أو إن وجدت أنها التضحية التي لا مفرَّ منها للاستمرار في الحكم. مع العلم أن ذلك لن يكون إلا بإطار تسويةٍ مع الدول الغربيّة الكبرى غير الراغبة حتى اللحظة بالتدخّل العسكريِّ، والمتخوّفة من أن يؤدّي دعم المعارضة بالسلاح إلى تقوية قوى الإسلام الجهاديّ ومنه القاعدة نفسها، ومن السعة التي قد يصلها صراعٌ يدفع ليكونَ طائفيّاً، ولكن المصرّة في الوقتِ نفسه على تراجع العلاقة بين سوريا وإيران، إن لم يكن هناك إمكانيّةٌ لفكّها فوراً، وعلى حصول تغييرات جوهرية في النظام السوري.
مأزق إستراتيجيّة السلطة
لم يكن التعنّت الذي أظهرته السلطة ناتجاً عن غياب من يدرك من قادتها أهميّة التعامل مع التغيّرات التي تضرب المنطقة، كما فعلت المملكة المغربيّة مثلاً ومازالت تحقّق النجاح، ولكنها البنية التي تصلّبت خلال العقد الأخير نتيجة: غياب مؤسّسها وبراغماتيّته وقدرته على الانعطاف السريع حين الحاجة دون مراعاة أحدٍ في نظامه؛ الابتعاد الزمنيّ بين مرحلة التأسيس التي أتت، رغم كلِّ ما يمكن أن يُقالَ عن عيوبها، استجابةً لمواجهة تصلّبين اعتريا الحكم قبلها وهما التصلّب الداخليّ والخارجيّ، العيب الذي عاد النظام ووقع فيه؛ التقدير المبالغ فيه للقوة العارية على أنها الحلُّ لأيِّ مشكلةٍ يمكن الوقوع بها، وتراجع سبل التسويات حتى من باب توزيع المنافع؛ التناقض بين مركبات الحياة السياسيّة والاقتصاديّة التي تقودها، التناقض بين محاولة السير في ليبراليّةٍ اقتصاديّةٍ مع الإصرار على الانغلاقٍ على الداخل، وهو ما عبر عن سعيٍ مستحيل، استناداً إلى قدرات البلد، للانفتاح مواربةً على السوق العالميّة في محاولةٍ لمنع الديموقراطيّة والاستئثار بمنافع الانفتاح من قِبَلِ عصبةٍ مزجت بين الاستبداد السياسيِّ والثروة؛ وفي نفس الوقت منع المجتمع من إنتاج آليّات دفاعٍ عن النفس، وأخرى للتكيّف. ويدرك النظام أنه عاجزٌ عن تجاوز هذه التناقضات لأنها أُسسُ حكمه وضامنُ استمراره، ومن عجزه تنتج الاستحالة السياسيّة للخروج من أزمته التي ما هي إلا نتاج تلاقي إرادة الخارج مع الداخل على إسقاطه.
في الواقع العمليِّ الذي تظهر فيه الاستحالة سابقة الذكر، تصبح إستراتيجيّةً تعتمد على إغلاق قدرة الخارج على التدخّل عبر رشوة بعضه وتخويف البقيّة من انتشارٍ واسعٍ للفوضى، وعلى سحق الحراك، وإجراء عمليّةٍ سياسيّةٍ محدودةٍ بالمشاركين فيها والمستفيدين منها بعد جعل الرئيس ملكاً مطلق الصلاحيات، هي أفضل مدخلٍ للفوضى وليس للنصر. ونجد ذلك في:
– داخليّاً، حتى اللحظة لا يوجد ما يؤشّر بأنه يمكن لأحدٍ، خارج دائرة المعارضة التي صنعتها السلطة، أن يقبل الدخول في لعبتها السياسيّة الجديدة أقلّه قبل أن تستكمل سحق الحراك الشعبيِّ. بعدها ربّما يمكن للقوى المنضوية في هيئة التنسيق أن تستمرَّ بلعبة العقلانيّة وتدّعي بأن هناك منجزاتٍ لانتفاضةٍ مهزومةٍ وتدخّلاً في اللعبة السياسيّة. وفي هذا الاشتراط يكمن مأزق إستراتيجيّة النظام في غياب أيِّ مؤشّرٍ يدلُّ على أنّ العنف يمكن أن يقضي على حراكٍ يكتسب تجدّده من حيويّةٍ شعبيّةٍ تأخذ أشكالٍ جديدةٍ كلّما ضربت بعنفٍ، كردّة فعلٍ على العنف، ولقناعة المشاركين أن انتهاءَ حراكهم يعني أربعين عاماً أخرى من الذلِّ. لذا هناك معادلةٌ مستحيلةُ الحلِّ من موقع السلطة، بين فعلٍ يجعل من ردّة الفعل القمعيّة مصدر قوّةٍ لاستمراره، وبين عمليّةً سياسيّةً ما يقدّمه النظام منها يتطلّب لنجاحه قمع الفعل الشعبي أولاً.
– داخليّاً وخارجيّاً، تؤدّي إستراتيجيّة السلطة لتحويل الحراك السلميّ إلى أزمةٍ – تحديدا عبر تشكيل الميليشيا، واعتماد العنف، والدفع إلى مشارف الحرب الأهليّة، والتخويف من اتّساع عنفٍ طائفيٍّ في عموم المنطقة([8]) – إلى خلق ظروف حربٍ أهليّةٍ لا يعود بعدها للتهديد بها من معنى، ويخسر أهل الحكم نتيجتها، بشكلٍ متواصل، شيئاً من أحاديّة سلطتهم، ليس فقط لمصلحة خصومهم ولكن أيضا لمصلحة ما خلق من ميليشيا ولأجهزتهم نفسها التي ستميل في سياق تصاعد ظروف الحرب الأهليّة لمساحةٍ أكبر من الاستقلاليّة.
– أدّى اندفاع السلطة لاستثارةٍ عصبيّةٍ طائفيّةٍ للعلويين إلى تنامي عصبيّةٍ سنيّةٍ مواجهة، لم يكن ليستطيع الطائفيون من بين خصومها النجاح في تحقيقها في مجتمعٍ تميل الأغلبيّة السنيّة فيه إلى الإيديولوجية القوميّة، وتفضّل أغلبيّة البرجوازيين بين صفوفها وطنيّةً سوريّةً ليّنةً. وزادت دموية السلطة من هلع قاعدتها الطائفية، حين استخدمتها في عنفها الدموي بشكل سافر([9])؛ فمن طبيعة الاجتماع البشريّ أن تهلع الأقليّات من عنفها الخاص حين توجّهه لأغلبيّةٍ، وإن كانت الأخيرة غير مسلّحةٍ بعد، أو قليلة التسليح، فهذا لن ينقصها وسائل الردّ، إن اقتنعت بأنّها مستهدفةٌ كطائفة، بالتحديد في عالمٍ أصبح أكثر انفتاحاً ويميل للتغيير في سورية. من جانبٍ آخر أدّى الاندفاع لضمان الحامل الطائفيِّ إلى تضييع الدرع القوميّ الذي كان النظام يتحامى فيه حين أظهرت طائفية السلطة زيفه([10]).
– على الرغم من الحديث عن خطر التدخّل الخارجيّ، إلا أن ما حصل تعدّى التدخّل إلى انفتاحٍ كاملٍ للداخل على الخارج. وهو ما نبّه له معارضون سوريّون من أبرزهم ميشيل كيلو، الذي أكّد مراراً أن رفض النظام السوريّ التسوية سيؤدّي إلى مستجدّاتٍ تضعف دور كلٍّ من النظام والمعارضة في تقرير مستقبل البلد. صحيح أن إصرار السلطة على الحلِّ الأمنيِّ المتصاعد ناتج عن طبيعتها ومن ذهنيتها، لكن التطمينات الأمريكيّة الأوربيّة المتكرّرة (وأحياناً دون مبرّرٍ واضحٍ) للنظام بأنها لن تتدخّلَ عسكريّاً شجّعته على التورّط أكثر. نعتقد أن السلطة في سوريا تفعل ما هو متوقَّع منها في الدوائر السياسيّة الغربيّة، وتدفعنا قناعتنا بأنّ إسقاط النظام كاملاً بإيديولوجيته (هي واقعٌ فعليٌّ بغضِّ النظر عن كون نواة السلطة تزدريها) وجيشه ومؤسّساته هو غاية سياسة للدول الغربيّة الكبرى. ومراقبة كيف تسقط الشرعيّة الشعبيّة لهذه المؤسّسات نتيجة مشاركتها في قتل السوريين، تدفعنا إلى الاعتقاد بأن السلطة الحاكمة في سوريا تفعل ما تريده منها الدول الغربيّة، حينما تفعل ما هو متوقّعٌ منها. وبما أنّ النواة الصلبة لا تبدي أيَّة نوايا جديّةٍ لإجراء إصلاحاتٍ ديموقراطية، تعلم بأنها هي الخاسر الأساسيّ منها، وبما أنّ الجيش السوريَّ لا يمتلك أيَّة استقلاليّةٍ عن هذه النواة تسمح له بالانفصال عنها ليضغط عليها للتنحّي، أو لإسقاطها لمصلحة فتح الحياة السياسيّة الداخلية- فإنّ المرجح هو أن تستمرَّ نواة السلطة في فعل ما هو متوقَّعٌ منها؛ وهو بالضبط استنفاذ شرعيّة النظام ومقوّمات قوته حتى النهاية. وهو ما لن تتدخّلَ الدول الغربيّة لوقفه بالتأكيد، بل ستترك الوقت الكافي للسلطة لفعله، بل لعلّها تتدخّل إن وجدت أن الإرادة الواعية للسلطة أدركت منزلقها، وسعت لإيجاد مخارجَ فعليّةٍ ذات طابع وطني ديموقراطي، وهذا ما لا يوجد أي مؤشرات لإمكانية تحققه. وفي هذه الصورة يصبح الدور الروسي مطلوباً غربيّاً لسببٍ مضافٍ عن تبرير عدم الجديّة في خطواتٍ عمليّةٍ لوقف الأزمة السوريّة، ألا وهو إعطاء التطمينات الكافية للسلطة السوريّة للغرق في المستنقع بنشاطٍ أكبر.
المعارضة وآليّات عملها
لمحة عن المعارضة السوريّة قبل الثورة
منذ عام 5200 وهناك محاولاتٌ في سوريا لخلق فضاءٍ للمعارضة([11])، بعد أن كانت آخر الحملات الأمنيّة في التسعينيات من القرن الماضي قد أنهت آخر جيوبها، ودفعت ما تبقّى منها إلى تجميد وضعه والاكتفاء بحدود العلاقات الفرديّة. للدقة، أدّى الإفراج عن المعتقلين السياسيّين في نهاية حكم الأسد الأب، وبداية حكم ابنه، إلى ظهور محاولات إعادة بناء الأحزاب التي كانوا منضويين فيها، ولكن دون أملٍ واضحٍ بأن يستطيعوا انتزاع فضاءٍ سياسيٍّ ليعملوا فيه. فقط مع ربيع دمشق، حين قامت نخبةٌ من المعارضين بكسر حاجز الصمت في مملكته، وأنشأوا منتدياتٍ ليلتقوا ويتحاوروا ويتفاعلوا مع جيل الشباب، وبدا أنّ فضاءً سياسيّاً قد ينشأ. وعلى الرغم من المنع والتنكيل، وحملات الاعتقال في صفوف هذه النخبة، إلا أنها أصدرت “إعلان دمشق”([12]) وقامت بتشكيل بنيةٍ سياسيّةٍ معارضةٍ بالاسم نفسه… وإذا كان جور أهل الحكم في سوريا وفسادهم وإغلاقهم الحياة السياسيّة، حتى على قطاعاتٍ متزايدةٍ من النظام نفسه، قد وحّدت رغبةَ معارضته في التخلّص منه، إلا أنها رغبةٌ أوّليةٌ غير حاسمةٍ عند أوساطٍ منها. وبعض المترددين يعزون ذلك لقناعتهم بأن النظام قويٌّ مكينٌ، وأنه فاسدٌ أزعرٌ لا تردّه أخلاقٌ وطنيّةٌ لا يمتلكها عن فعل أيِّ شيءٍ، ويستنتجون أنه لا يمكن الخلاص منه، وأن محاولة فعل ذلك ستدخل البلد في أتون حربٍ أهليّةٍ مستعرةٍ قد تودي لامتحان الانقسام. كما أن هناك من المعارضة من يشارك النظام في إيديولوجيته. وإذا كنّا نترك موضوع البحث في إيديولوجيا المعارضة وحواملها الاجتماعيّة ( من طبقيّةٍ وطائفيّةٍ وخلافه) إلى بحثٍ آخرَ مختصٍّ، إلا أن التنبيه لها أمرٌ له أهميته لاستحالة تفسير بعض المواقف دون فعل ذلك.
إستراتيجيّات المعارضات
منذ انطلاق الثورة السوريّة لم يكن للمعارضة إستراتيجيّةٌ واحدةٌ. الاشتراك لفظيّاً بين الأطراف الرئيسة منها على الهدف النهائي “إسقاط النظام” أتى تحت ضغط الحراك الشعبيّ، ودون كثيرٍ من الاقتناع لدى أطراف من المعارضة، ومنها هيئة التنسيق الوطنيّة التي فضّلت أن ترفع شعار “التغيير الديمقراطيّ” لإبقاء أفقٍ سياسيّ لإجراء تسويةٍ مع النظام، وإن ادّعت لاحقاً أن تغيير النظام متضمّنٌ في شعارها الذي لا يتوقف عند إسقاطه ولكنه يحدّد البديل. والتمييز بين معارضات ثلاث أصبح واضحاً للعيان: واحدة صنيعة النظام (مثل معارضة قدري جميل)؛ وأخرى هي هيئة التنسيق التي تتوافق مع النظام على الكثير من الإيديولوجيّة التي يعلنها وتنافسه على أحقّيتها، وتسعى لأن ترث موقعه وعلاقاته إن سقط، أو تشارك في إعادة بناء النظام إن لم يفعل؛ وثالثة تنطلق من عداءٍ كاملٍ مع النظام على كلّ الصعد، إنْ بـالإيديولوجيّة أو بالنظرة للعالم، بالإضافة لتناقض تحالفات كلّ منهما، وهي لا ترى من سبيلٍ إلا إسقاطه لبناء سوريا الجديدة، وهذه هي المنضوية في المجلس الوطني. وثبت خلال عامٍ من الثورة، أنّ أيّة محاولةٍ لتجميع نقاطٍ مشتركةٍ بين كلّ هذه المعارضات ضربٌ من الاستحالة، تحديداً إن لم يصبح النظام على شفا الهاوية، عندها يمكن تصوّر وضع نقاط برنامجيّة بين هذه الأطراف، وتحت ضغط القوى العظمى الدوليّة التي ستهتم بأن يكون هناك فترةٌ انتقاليّةٌ سلميّةٌ. وتبيّن، بدلالة خطاب أطراف “المعارضة”، أنّ العداء ما بينها يصل في الكثير من الأحيان للتصاعد فوق عداء كلٍّ منها للنظام أو يساويه. ولن يخفي النداء ببناء دولةٍ مدنيّةٍ ديمقراطيّةٍ من قبل أطراف المعارضة، الخلاف بينهم حول بقاء النظام أو سقوطه، ليس فقط لأن “الجبهة الشعبيّة للتغيير والتحرير” معارضةٌ زائفةٌ بناها أفرادٌ من النظام وبالتعاون مع الأجهزة الأمنيّة، ولأنّ “تيار بناء الدولة” مستوعبٌ من قبل النظام، ولكن، وبشكلٍ رئيس، لأنّ هيئة التنسيق الوطنيّة تنوس بين إجراء تسويةٍ تتمناها مع السلطة وخيبة أملها من الوصول لهذا الهدف التي تجعلها تبقي لها رابطاً بمطلب الحراك الشعبيِّ بإسقاطه، بينما يتمسّك المجلس الوطنيُّ بإسقاط النظام كهدفٍ وحيدٍ له. ولهذا، ولكون المجلس والهيئة هما طرفا المعارضة فعلاً، ولو اعتبرنا البقيّة معارضةً فدورهم سيبقى محصوراً بالاستقطاب لأحد الطرفين الأساسيّين(أو النظام!) فسيكون الأكثر إفادةً محاولة فهم إستراتيجيّة هذين الطرفين إن وجدت.
لمحة عن المجلس الوطني
المجلس الوطني السوري هو جماعة سياسية سورية تضم أغلب أطياف المعارضة منها: الإخوان المسلمون وإعلان دمشق والمؤتمر السوري للتغيير ومستقلين اُعلن عن تشكيله في 2 أكتوبر 2011 في اسطنبول. ([13])
تكوّن المجلس الوطني السوري لحظة إعلان تشكله من 310 أعضاء بالتوافق بين مجموعات المعارضة المختلفة([14]):
· الحراك الثوري
· كتلة المستقلون الليبراليون
· إعلان دمشق
· المنظمة الآثورية
· الأخوان المسلمون وحلفائهم
· ربيع دمشق
· الكتلة الوطنية الكردية
· الكتلة الوطنية
· شخصيات وطنية
يمكن القول أن المجلس الوطنيُّ ينطلق من الضديّة مع النظام، نتج ذلك من طبيعة تشكيلته التي حوت طرفين رئيسين:
1- الإخوان المسلمون، الذين لم ينضووا في يومٍ من الأيام في كنف النظام ولم يتعرّضوا لمحنة مشاركته في نقاطٍ من إيديولوجيته، كما حدث مع غيرهم ممّن ولد في حاضنةٍ إيديولوجيّةٍ ( قوميّة، يساريّة) اجتماعيّة (برجوازيّة صغيرة من منشأ ريفيٍّ غالباً) جمعته مع حزب البعث. وامتاز الإخوان بأنهم خالفوا، إلى درجة التناقض، حزب البعث في كلِّ خياراته السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة.
2- تحالفاً من الليبراليين وفي القلب منهم حزب الشعب، والأخير بقي متماسكاً في عدائه لسلطة حافظ الأسد منذ انقلاب الأخير واستلامه السلطة، في عام 1970، ولم يغيّر من موقف الحزب التعديلات في إيديولوجيته، بالعكس من ذلك يمكن اعتبار الصراع مع سلطة الأسد أحد الأسباب الرئيسة للتغيّرات الفكريّة التي طرأت عليه. ومن بين القوى السياسيّة السوريّة نجد الكثير من العناصر الوطنيّة السوريّة، بتعقيداتها، متبلورةً بشكلٍ واضحٍ في حزب الشعب.
استراتيجيّة المجلس الوطني
يشبه المجلس الوطني([15]) الحراك الشعبيّ في مكوّناته الاجتماعيّة والإيديولوجيّة، ولكن الأكثر أهميةً أنّهما يشتركان في استنتاجاتهما عن النظام واستحالة التلاقي معه في منطقةٍ وسطى. وحتى اليوم يبرّر هذا التشارك سبب اعتماد الحراك للمجلس على الرغم من إخفاقاته، والقصور الذي اعترى عمله، وغياب برنامج العمل لديه، حتى بحدود العلاقات الدولية التي عوّل الحراك الشعبيّ عليه للعمل فيها. انطلق المجلس ممّا بدا له مسلّمات، أو هكذا أوحى لجمهوره، وجعلها إستراتيجيته ومنها: سقوط النظام حتميّ، لأنّ الدول الغربيّة والإقليميّة المعادية للنظام ستقوم بما يلزم لسحب الشرعيّة الدوليّة منه وضرب حصارٍ دوليٍّ عليه. ولأنّ الدول الغربيّة ستجد نفسها في محطةٍ من الصراع في سوريا معنيّةً بالتدخّل المباشر لإسقاط الأسد. فجعلت من هذين الهدفين إستراتيجيّةً أوليّةً لها بالإضافة لطرح نفسها بديلاً عن النظام وضامناً للفترة الانتقالية بعده. من هذا نستنتج أنّ المجلس الوطنيَّ جعل ركيزة إستراتيجيته هي أن يكون المعبّر عن الانفتاح بين الداخل والخارج، لذلك استبطن مؤسّسوه شرطاً مازال مقياساً لتحالفاتهم وهو أن يكون ليّناً بما يكفي مع التطوّرات دون خطوطٍ حمر جديّةٍ، تعطّل الانتقال لأيِّ احتمالٍ إن كان عسكريّاً أو سياسيّاً. وفقط عنف النظام المهول وطائفيته هما من جعل مبرّراً لهكذا طرحٍ عند شعبٍ كان حتى وقتٍ قريبٍ متطرّفاً في اعتداده باستقلاليّته.
لمحة عن هيئة التنسيق الوطنيّة
هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي أو كما تعرف اختصاراً “هيئة التنسيق الوطنية” جماعة سوريّة معارضة تتألف من عدّة أحزاب سياسيّة، وشخصيّات معارضة مستقلّة، من داخل سورية وخارجها. تأسست الهيئة عقب اجتماع ممثلي بعض الأحزاب السياسيّة السورية، وبعض الشخصيات المعارضة المستقلّة في بلدة “حلبون” التابعة لمحافظة ريف دمشق في 6 تشرين الأول/نوفمبر عام 2011. ([16])
تتألف هيئة التنسيق من عدّة أحزاب يساريّة سوريّة بما في ذلك الأحزاب الكرديّة الرئيسيّة الثلاث:
1- حزب الإتحاد السرياني
2- حزب الإتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي
3- حزب العمل الشيوعي السوري
4- حزب البعث الديموقراطي العربي الاشتراكي
5- تجمع اليسار الماركسي
6- حركة معاً من أجل سوريا حرة ديمقراطية
7- الحزب اليساري الكردي في سوريا
8- حزب الاتحاد الديمقراطي
9- الحزب الديموقراطي الكردي في سوريا
10- الحزب الديموقراطي الكردي السوري
11- حركة الاشتراكيين العربي
تتمحور استراتيجية هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي حول معارضتها الشديدة لأي شكل من أشكال التدخل الخارجي، والتأكيد على سلمية الثورة، والتغيير الديمقراطي، مع إصرار على “الوحدة الوطنية”.
وقد قدم المؤسسون برنامجهم السياسي بشكل توصيات، تم إلقائها في المؤتمر العام ( المجلس الوطني الموسع ) لهيئة التنسيق الوطنية على أنها نتائج لنقاشات المؤتمرين([17])
استراتيجيّة هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغير الديمقراطية
قامت إستراتيجية هيئة التنسيق على التضاد مع استراتيجية المجلس الوطني، ذلك أن الهيئة قامت على الشك بقدرة الحراك على إسقاط النظام من جهة، والخوف من احتمال تدخل خارجي من جهة أخرى، والخوف من العسكرة والطائفية من جهة ثالثة. وقد تجلى هذا في لاءاتها وفي عدم تبنيها لمقولة إسقاط النظام حتى مرحلة متأخرة مقارنة بالحراك والمجلس الوطني. فمنذ بداية تشكيلها، قامت هيئة التنسيق على لاءات ثلاث: “لا للتدخل الأجنبي، لا للعنف، لا للطائفية”، حتى بدت وكأنها ردٌ على هواجس سياسية أكثر مما هي تشكل معارض يسعى للاندماج بالحراك الشعبي المتصاعد؛ وقد ساعد على إشاعة هذا الاعتقاد إغفال الهيئة لشعار”إسقاط النظام” في مرحلة تأسيسها. إلا أنّ تطور الأحداث في سورية كشف عن غياب تأثير الهيئة في مجريات الأحداث، وانعدام سبل تأثيرها حتى ضمن حدود هواجسها، وتناقض بين أقنومها الإيديولوجي(السيادة والوحدة الوطنيتين) وبين انفتاحها بدورها على أطراف خارجية (إيران، والصين وروسيا). وبينما تغلق سلطة الاستبداد، من خلال عنفها الدموي، أية إمكانية للحلول السياسية، تصر الهيئة على “الحل السياسي”، والحوار مع أركان النظام السوري (الأمر الذي يرفضه الشارع المنتفض والمجلس الوطني)؛ وإن وضعت شرطاً “للتفاوض” أن يكون من تتحاور معه غير ملوث بالدم أو الفساد، ولنا أن نبحث عمن ينطبق عليهم هذا الشرط. وفوق ذلك، وبعد مرور أكثر من سنة على انطلاق الأحداث، وبالرغم مما يشاع بعض الأحيان عن قيام «محادثات» جانبية بين الهيئة والسلطة، فإن الهيئة في واقع الأمر لم تحصل من السلطة إلا على «الصفر»: فلا هي أفادت الشارع بشيء، ولا هي أفادت نفسها بأي اعتراف رسمي، سواء من السلطة أو من الشارع. وهناك الكثير من الدلائل على أن الأخيرة تسعى للاستفادة من الحركة السياسية للهيئة، التي تشيع إمكانية الحوار، من أجل تمرير “حوارها” مع المعارضة التي تصنعها بنفسها.
في واقع الحال، ظهرت هيئة التنسيق كالتقاء لحساسيّاتٍ أقلويّةٍ(طائفية- أثنية) ([18]) مع الشريحة المتأخرة من المعارضة، التي اعتادت العلاقة مع النظام من موقع الخائف من بطشه، المداري لإرادته حتى التقيّة، وهذا ما حتّم تركيز الهيئة على مشتركات تشكّل الهواجس الجامعة لأعضاء التحالف (وتشترك بنيويا مع هواجس الكتلة السياسية الاجتماعية الملتفة حول النظام)، قدّمتها على الانخراط في الحراك الشعبيّ. إلا أن تطوّر الحراك، عبر بناه الأهليّة بشكلٍ رئيسيٍّ والتضحيات والإصرار الشعبيّين غير المسبوقين، دفعت الهيئة لتطوير رؤيتها واستعدادها، ولكن للأسف دون خطواتٍ عمليّةٍ يمكن الاعتداد بها حتى تلك المتضمّنة في برنامجها، اللهم إلّا المشاركة بالدعوة إلى الإضراب([19]).
خاتمة
إذا كانت القضيّة السوريّة تزداد تعقيداً، فإنّ العالم سيجد نفسه أمام معضلةٍ يمكن له حلّها بأساليب مجرّبةٍ من قبله: التدخّل العسكريّ لإسقاط النظام؛ تغذية حربٍ أهليّةٍ وفّرت السلطة أرضيّةً ملائمة لها، وانتظار نتائجها التي ستكون بكلِّ الأحوال ضعفاً سقيماً للسلطة؛ إعلان سوريا دولة فاشلة، وهو ما يمكن مقاربته بإعلان أنّها مصابةٌ بالطاعون، ثم عزلها تماماً لتتعفّن. وفي كلِّ هذه الحالات سيكون على المعارضة أن تتصرّفَ من موقع المسؤوليّة، فتنظر بالضرر الذي سيلحق بالبلد دولةً وشعباً وتتصرّف بناءً على مصلحتهما. ما يدعو للخوف في هذا الصدد، هو أننا لم نشهد، في الوقت الذي كانت السلطة تدمّر أسس الدولة والوحدة الوطنيّة ما يدلّ على أنّ المعارضة، أو طرفاً منها، قادرة على تأدية هذا الدور. حتى ادّعاءات هيئة التنسيق بهذا الشأن غير دقيقةٍ، لأنّها عجزت عن التحرّر من مشتركاتها الإيديولوجية مع النظام المنهار ومن العداء مع الغرب. يستوجب القيام بهذه المهمة القدرة على فعل شيئين في الوقت نفسه: وضع برنامجٍ داخلي عملي لإسقاط السلطة، واضحٍ ومنفتحٍ على العالم؛ والتأسيس على وطنيّةٍ سوريّةٍ جديدةٍ. المجلس الوطنيُّ لم يفعل ما يكفي في سبيل الوحدة الوطنيّة، أما هيئة التنسيق، بمزيجٍ من الإيديولوجيّة والتقيّة، فلم تفعل شيئاً بالمطلق. الاستمرار على هذا الحال سيقدّم كلَّ المعطيات الكافية لرمي سورية في مهبِّ رياح الخارج. يمكن للمعارضة الانعطاف إن امتلكت جرأة المراجعة، وعملت جديّاً على ضرورة التلاقي على برنامجٍ موحّدٍ من النقطة التي وصلتها بعد عامٍ من الثورة، أي الوعي بأن الانفتاح بين الداخل والخارج حصل فعلاً، والتركيز على الداخل لضمان وحدةٍ وطنيّةٍ تبدو مهدّدةً بجدّيةٍ، والعمل من موقع الدولة ومسؤوليّاتها التي استقال عن القيام بها أهل الحكم (بل انتقلوا ليهدّدوها بالعمق) والارتقاء بالحراك من خلال تطوير آليّاته وإشراك الفئات المدنيّة بسبلٍ متعدّدةٍ، كلُّ ذلك ضمن تركيز العمل بشكلٍ أفضل في ظل قيادةٍ موحّدةٍ تجمع العناصر الديموقراطية في هيئة التنسيق مع قطبي المجلس الوطنيِّ الأخوان المسلمون وحزب الشعب.
ونعتقد أنّ هذه الغاية يجب أن تُوضَعَ في الذهن أثناء رسم إستراتيجيّة المعارضة التي نقترح أن تستفيد ممّا يلي:
بخصوص مواجهة الطائفيّة
من المفيد اليوم للحراك، ومن أجل النجاح في التعامل مع هذا التحدّي، الإقرار بأنّ السلطة الحاكمة في سوريا حظيت ببعض النجاح في مخطّطها لتقسيم المجتمع؛ وتالياً البدء في تقليب سبل إفشاله حتى يتمَّ التمكّن من تجنّبِ الحرب الأهليّة. ولعلَّ أهمَّ هذه السبل هي تطوير المبادرات الأهليّة التي جهدت على تخميد ردّات الفعل، وتوضيح التوريط الذي تعمل عليه السلطة، من خلال خلق آليّات تلاقٍ وحوارٍ وتعاونٍ وتكافلٍ.
السلميّة المحميّة
ومن نافلة القول الإشارة إلى أنّ مواجهة أخطار عمليّة تستوجب خطواتٍ عمليّةً. إلا أنّ إهمال المعارضة السوريّة للبديهيات يستوجب إعادة التذكير بها. ومنها أنّ قادةً هربوا من البلد، وآخرين لم تطأ أقدامهم أرض وطنهم في هذه الظروف، ومن لم يعرف عنه أيّة مشاركةٍ في التظاهر، من الصعب أن يقنعوا الشعب على الاستمرار بالتظاهر والحفاظ على السلميّة في الوقت نفسه في مواجهة آلة قتلٍ مثل التي يواجهونها. وإذا كانت خصوصيّةُ الانتفاضة السوريّة، المتأتّية من خصوصيّة النظام وطبيعة المجتمع السوريّ، تحدُّ من قدرتها على استلهام تجارب غيرها، فإن النظر في تجربتها نفسها يساعد على استخلاص سبل العمل الكفيلة في تجنيبها الأخطار وتقدّمها على طريق تحقيق غاياتها النبيلة من حريّةٍ وعدلٍ ومساواةٍ. ونجد أحد الأمثلة البارزة في العلاقة التبادليّة بين اتّساع المشاركة الشعبيّة واستمرار سلميّتها. ونذكر كيف أن خروج مدينة حماه بمئات الآلاف خلال عدّة أسابيع قد أدّى لرفع الروح المعنويّة لعموم الشعب السوريِّ، وأحرج النظام بادّعاءاته عن ضيق الشريحة التي تتحرّك ووصمه إيّاها بأنّها “عصابات”، وشجّع قطاعاتٍ متزايدةً من السوريين على التظاهر، وثبّت سلميّة الثورة لفترةٍ معتبرةٍ. إلا أنّ الوقوع في فخِّ الادّعاء بأنه من الممكن أن تستمرَّ الثورة السلميّة في سوريا دون حمايةٍ، ونحن نشهد اجتياح جيش السلطة للمدن والأحياء وندرك إستراتيجيّة الاستنزاف التي تعتمدها، سيكون ترفاً لا يرتكبه إلا متواطئٌ مع السلطة.
أحسنت المعارضة عملاً حينما وافقت على “خطة عنان”، وركّزَت اهتمامها على المطالبة بتطوير عملية دخول المراقبين الدوليين وآليّةٍ عملهم؛ طالما أن الاحتمالين الناتجين عنها سيكونان لمصلحة الحراك، فأما سيتاح وقف آلة القتل ومن ثَمّ فسح المجال للتظاهر السلميِّ (وهي نواةٌ إستراتيجيّةٌ سلميّةٌ تصون البلد في مواجهة إستراتيجيّة النظام التي تفكّكه وتدفعه للانسحاق) أما ستفعل السلطة مرة أخرى ما هو متوقع منها، ما سيؤدي إلى تلاقي أوسع من الداخل السوري والخارج الدولي على الإطاحة بها.