للمرة الثالثة على التوالي، خسر اليسار الانتخابات المركزية في النظام السياسي الفرنسي. يمكن أن يُعزى هذا الفشل الثالث في بعض أوجهه إلى المساوئ التي سُجلت لحزب العمال البريطاني وإلى وصول المحافظين إلى السلطة منذ عام 1979 ولمدة تقارب الثمانية عشر عاماً. إلا أن المقارنة هنا ليست عقلانية. لأنه حتى لو أخذ اليسار الفرنسي موقعاً كان الأكثر انخفاضاً في تاريخه، إلا أنه يبقى شديد الحضور، اجتماعياً وانتخابياً وجغرافياً ، مواقعه لم تتداع.
في الحقيقة، إن كان هناك أزمة فهي ذات طبيعة إيديولوجية. ترجع إلى الصدأ الكبير في قاعدة المرجعيات والمعتقدات التي أطلقتها الاشتراكية الفرنسية تاريخياً وإلى الصعوبة التي تجدها في تجددها ضمن سياق ليس سياقها الطبيعي؛ سياق اتسم بصدأ الدولة كخالق للعامل الاجتماعي، وذلك بفعل صعود فردانية التفضيلات والخيارات، وكذلك اتسم بصدأ الإطار الوطني لتشكيل التسويات الاجتماعية. هذه التطورات لا تخص المجتمع الفرنسي وحده، ولكنها أثقلت مجتمعنا بشكل خاص، وذلك لأن مركزية الدولة لم تكن يوماً ذات سمة وظيفية وحسب؛ وإنما هذه المركزية كان لها بعد هوياتي كذلك.
من وجهة النظر هذه، فالرهان بالنسبة لليسار مضاعف: لا يتعلق الأمر هنا فقط بإعادة النظر في علاقته بإرادوية الدولة- الموروثة لديه، من التقليد الاشتراكي ومن التقليد الفرنسي أيضا، وإنما أن يعمل ليترك له هذا التغيير مصدراً للتمايز عن اليمين.
فكل الصعوبة تكمن هنا في: كيف يمكننا أن نبقى قوة يسار حاملة لقيم خاصة مع تخففنا من بعض المعتقدات والرؤى، بما يجعلنا مواكبين للمجتمع الذي نعيش فيه؟
هكذا، وقبل وضع برنامج جديد أو تطوير مشروع جديد أو تحقيق خلاصة جديدة، على اليسار أن يتحلى بلغة جديدة، وأسلوب جديد في طرحه للخطاب السياسي. ينبغي على هذا الإعلان الجديد للخطاب السياسي أن يتركّز على ثلاثة محاور: فهم جديد لعلاقة السياسة بالمجتمع، رؤية أكثر انفتاحاً وأقل حتموية بالنسبة إلى التغير الاجتماعي، وعلاقة مع التغيرات العالمية لا تكون محض دفاعية.
ليس لحزب سياسي أن يحوِّل المجتمع
اليسار الفرنسي هو وريث تقليد ثوري تأسس مخياله السياسي، ومن ثم ثبت، حول ما دعاه لينين محقاً بنموذج “الدولة والثورة”. في المعارضة، غالباً ما قدم اليسار نفسه كثوري، وخاصةً لموازنة تأثير الحزب الشيوعي، ولكن ما لبى بدايةً هماً تكتيكياً أصبح مع مرور الزمن عنصراً مركزياً في الثقافة السياسية، لدرجة أنه حتى بعد انهيار الحزب الشيوعي فإن الحزب الاشتراكي تابع توجهه السياسي ضمن هذا الإطار، وذلك لأن التهديد يأتي هذه المرة من اليسار المتطرف.
وبرؤية تغييرية للمجتمع، تبنى الحزب الاشتراكي توجهاً قلل فيه من أهمية “الخطوات الإدارية”، أو بالأحرى الإصلاحية باعتبارها قليلة الطموح على المستوى الاجتماعي. المفارقة هنا هي أن إحدى نقاط القوة للاشتراكية الفرنسية كانت تاريخياً الاشتراكية الإدارية والتي تًدعى كذلك الاشتراكية المحلية “municipal”، ولكن يمكننا القول أن هذه الاشتراكية نمت بعيدة عن المشهد الوطني وسجالاته الإيديولوجية.
وهكذا نشأ تصور كامل عن السياسة اليسارية التي لم تكن تنكر الواقع فحسب بل فوق ذلك تقلل من أهميته، ويتم ذلك تحديداً باسم رؤية متخيلة عن التغيير الاجتماعي الذي ينبغي أن ينبع من قوة سياسية “تغييرية”.
على اليسار أن ينأى بنفسه عن هذا النموذج، وعليه أن يفعل ذلك خاصة لأن طموح حزب سياسي إصلاحي، حتى ذلك المنبثق عن تقليد ثوري، لم يعد بإمكانه تحويل المجتمع. هذه الفرضية قد تفاجئنا، لذلك علينا توضيحها.
في عالمنا اليوم، حيث إيقاع التغيير الاجتماعي يتسارع بشكل ملحوظ وقوي بفعل اللعبة المتقاطعة للتجدد والتقادم، فإن أي حزب سياسي يتغير بسرعة أقل بكثير من المجتمع. أي منتسب للحزب الاشتراكي يمكنه أن يلحظ بسهولة أنه يتحول بفعل المجتمع أكثر مما يتحول المجتمع بفعل حزبه. بطريقة ما، لا شيء يُدهش في ذلك، وهو يؤكد تقادم فكرة الحزب الطليعي.
بنفس الطريقة، فإن الفكرة القائلة بأن الحزب السياسي يجب أن يحمل في يديه مشروعاً مفتاحياً لتحويل المجتمع تجد نفسها هي الأخرى مُدانة، ذلك أن “السياسي” لم يعد بإمكانه أن يمتلك إمكانية أو إدعاء إمكانية شموله المجتمع. “السياسي” لم يعد “كلاً”. مع ذلك، كونه لم يعد “كلاً” هو أمر لا يدينه بحد ذاته، فهو أكثر من أي وقت مضى حاضر في كل شيء. السياسي يغذي كل أبعاد الحياة الاجتماعية وبشكل متنامٍ، لأن تدخله أو أحكامه أصبحت مطلوبة أكثر فأكثر في مجتمع معقد حيث أي حل كان ليس سهلاً بطبيعة الحال.
ببساطة، عوضاً عن التدخل من موقع المشرف وبطريقة مباشرة، عليه، أي الفاعل السياسي أن يفعل بتفاعله مع الفاعلين الاقتصاديين أو الاجتماعيين أو الثقافيين الآخرين. إن ما ندعوه الحكم “gouvernance” ليس في عمقه إلا هذا التبدل الطبوغرافي للسياسي، وفعله أفقي أكثر مما هو عامودي.
نظراً لهذا التغير وإن أردنا أن نقبل بصحته، سنلاحظ بسهولة أن كل الشروخ المزعومة بين الإدارة والتحويل تفقد تقريباً كل معنى لها. يبقى من المستحيل أن نفكر بشكل مفيد عن دور حزب سياسي في مجتمع ما إن لم نتساءل مسبقاً عن طبيعة ومضمون المطلب السياسي كما يصوغه المواطنون.
إلا أنه في المجتمعات الحديثة وشديدة الفردانية، العلاقة بالسياسي لا تتشكل عند الأفراد إلا انطلاقا من تجاربهم المُعاشة. لا يمكن لأولئك الأفراد أن يبنوا تصورهم عن العالم الذي يعيشون فيه إلا عبر ما يختبرونه بشكل ذاتي. هم إذاً لا يستشرفون ولا يقيّمون السياسي، انطلاقاً من الطموحات النظرية والمجردة للأحزاب السياسية، ولكن انطلاقاً من إمكانية أن يدخل هذا السياسي في تجاربهم المعاشة ليحسِّن مضمونها ويغني معانيها. هذه العوالم المُعاشة أصبحت أكثر تعدداً، لأن الأفراد أصبحوا يرتبطون بعدد متنامٍ من الشبكات والمواقف. الأفراد لم يعودوا يعيشون في عالم مشترك، ولكن في مجموعات كثيرة من “العوالم” تقاطعاتها وظيفية واعتباطية وفردية، حيث أن الانتماء إلى عالم مُعاش لا يعطي بالضرورة مفتاحاً لفهم الانتماء إلى عوالم أخرى. يمكننا حتى أن نذهب بتفكيرنا إلى أن الفرد يبحث عن إعطاء معنى لحياته عبر التخفيف من عدد عوالمه المُعاشة دون البحث عن إضفاء تناغم على هذه العوالم. بهذا يسعى الفرد إرادياً إلى فصل حياته العائلية عن حياته المهنية فصلاً تاماً حتى لا تسرقه هذه الأخيرة كلياً. مع العولمة وما يتبعها من إمكانيات اللامكانية الحسية قد يتمكن الفرد من العيش في محيط مهني منفصل كلياً عن بيئته الواقعية والمباشرة. بذلك أصبح المرء يشكل أقل فأقل جزءاً من منظومة، مما يجعل مفهوم “مشروع المجتمع” لحزب سياسي حامل له مفهوماً إشكالياً أو حتى وهمياً. ينتظر الأفراد أن نزودهم بأدوات ووسائل لتطوير مشاريعهم في المجتمع أكثر مما يصبون لأن نقدم لهم مشروع مجتمع. علاوةً على ذلك فهذا المشروع لن يتوصل للوفاء بوعوده.
يبقى الحزب السياسي حلقة أساسية للحصول على السلطة، ولكنه ليس إلا حلقة في دينامية تحول أوسع بكثير، حيث ”السياسي” يغذي ولا يقود.
نظرة أكثر انفتاحاً للتغير الاجتماعي
المحور الثاني الذي يجب أن يعمل حوله اليسار في خطابه السياسي هو التصور عن التغير الاجتماعي، غالباً ما يُنظر إلى هذا التغير بمفردات جد حتموية، لها مدلولات سلبية. على العموم، يُنظر إلى التغير الاجتماعي على أنه مُقلق ومهدِّد وسلبي ويعود إلى اليسار إيجاد التوازنات السابقة والتي تًقيّم عادةً على أنها أكثر إيجابية. لا يعود هذا التصور إلى الصدفة. هو نتاج ثقافة ماركسية قديمة في بعدها الأكثر كوارثية وفي الأمثلة والتجميل بمفعول رجعي للسنوات الثلاثين المجيدة وفي النظرة الإصلاحية للوضع الاجتماعي القائم والتي ترجع في الحقيقة إلى الغياب التام لنظرة قويمة للتغير الاجتماعي. هكذا وبفعل قوة الأشياء، بُنيت شرعية قوة اليسار بناءً على طموحها بأن تصلح ما أفسده اليمين. اليسار يُعرّف بهذا على أنه تصليح. “هم يهدمون ونحن نرمم.” المشكلة هي أنه علاوة عن الصيغ الحتمية للتفكير فقد تطورت نظرة محافظة للتغيير (“الرجوع إلى الوراء”)، لا تستطيع أن ترى هذا التغيير إلا من خلال الحتمانيات الثقيلة والسلبية حكماً والمولدة للتشاؤم الاجتماعي. الأخطر من كل ذلك هو لا واقعية هذه النظرة التصليحية#، كما يشهد على ذلك موقف الحزب الاشتراكي من موضوع مستقبل التقاعد. يتم الحديث عن الأمل ولكن بطريقة صورية صرفة. ولكن حقيقةً ما يتم إبرازه هو المآسي الاجتماعية والاختلال الاقتصادي. لا يتم إبراز ما يمكن أن يكون إيجابياً في التغير الاجتماعي، وما يمكن أن يؤمنه من فرص، وتطوراته غير المنتظرة والطارئة والتي ينبغي انتهازها. علاوة على ذلك فيُنظر إلى كل شيء من خلال موشور اقتصادي. استقلالية السيرورات الثقافية والأنثروبولوجية غائبة تماماً على سبيل المثال. حتى عند الاشتراكيين الأكثر إصلاحية فإن نقطة الانطلاق في كل التحليلات والتفسيرات هي دائماً اقتصادية، مما يقود إلى تأويلات حتمانية. إلا أن كل البنى الاجتماعية لها سمة تطورية وديناميكية. ففي مجال إعادة الإنتاج، لا يوجد مقيدات فحسب، هناك أيضاً ممارسات اجتماعية. إذاً، ففي التغير الاجتماعي، لا يوجد حتمية فحسب. هناك الطارئ وغير المنتظر وغير المتوقع، هناك تشعب. في اليسار لا يتم التحدث عن هذه الاحتمالات، وكأن التحدث عن هذه الفرص والاحتمالات يُعتبر نوعاً من التنازل الإيديولوجي لصالح الوضع القائم.
تقدم لنا الإنترنت المثال الأفضل. فهاهي أداة وجدت منذ ما يقارب الأربعين عاماً وكان لتطورها أن يأخذ منحىً آخر لو أن أفراد بعينهم قرروا عكس ما قرّروه. في الحقيقة، من أطلق شعبية الانترنت هم باحثون من سيرن في جنيف ، اخترعوا لغة HTML، الشرط الضروري لوضع الانترنت موضع الخدمة، وسرعان ما قرروا أن يجعلوا منها ملكية عامة متاحة للجميع، لا ملكية خاصة. كان بإمكانهم ذلك ولكنهم لم يفعلوا، ومن الواضح أنه لم يكن بإمكانهم استشراف النتائج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لخيارهم. وهكذا فإنه بمحض حادث طارئ، أو، بعبارة أخرى، بفعل خيار، خُلقت أكبر ملكية عامة في القرن الواحد والعشرين. لدينا هنا مثال لحقيقة اجتماعية لا يمكن اختزالها فقط بالحتميات الواقعية أو المفترضة للرأسمالية المعولمة. من جهة أخرى من خلال مسألة التحميل عبر الانترنت، فإن رهان موضوع المجانية لم يكن يوماً مطروحاً بهذه القوة في السجال العام في حين أنه من المفترض أن سلعنة العالم يمكنها أن تلخص وحدها الواقع الاقتصادي والاجتماعي لزمننا المعولم. وهنا نرى أن الشرخ ليس إيديولوجياً كما كانت تقليدياً مسائل الملكية، الأمر أكثر تعقيداً بكثير ويتعلق بصعوبة التفكير بنموذج اقتصادي للمجانية. من الطبيعي أن يكون أكثر صعوبة على حزب سياسي أن يبرز الطارئ والصدفة واللايقين من أن يبرز التطورات الحتمية والمقلقة. ولكن الحزب اليساري لا يمكنه أن يكون المتلقف الوحيد للمخاوف الاجتماعية وأن يضعها على خشبة مسرح السياسة، ينبغي عليه كذلك أن يساعد أولئك الذين يجدون أنفسهم فيه، أن يشرع بالتفكير بشكل آخر مختلف.
إعادة التفكير بالسوق وبالعالم
هذا ما يقودنا إلى طرح مسألة علاقة اليسار بالعولمة، والتي، في عمقها، ليست إلا المسمى الجديد للتغير الاجتماعي. من المناسب أن نترك جانباً التقييمات المعيارية لهذه العولمة التي تقود إلى الاختيار بين “نسخة سعيدة” وأخرى بائسة. إرجاع العولمة إلى هذه الصفات ليس له أي معنى تقريباً.
لا ينبغي على اليسار أن يترك بأي حال من الأحوال نقده للرأسمالية المعولمة. ولكن ينبغي عليه أن يمسك الميزان بإنصاف أكثر حين يقارن اختلالات التوازن التي تولدها العولمة وبين الفرص التي تفتحها. إلا أن هذا العمل لم يُنجز. حين طابق آرائه بكسل مع راديكالية منظمة “أتاك” المناهضة للعولمة أو مع التشاؤمية البوفيية (نسبة لجوزية بوفيه، نقابي يساري معاد بعنف للعولمة) أعفى اليسار الإصلاحي نفسه بأن يطور تفكيره الخاص حول العولمة والتي كانت لتسمح له برؤية أقل حتمية وأقل مانوية وبنّاءة أكثر.
بادئ ذي بدء فلنتذكر معاً ما هي العولمة حقاً. إنها في القرن الواحد والعشرين، مجموعة من سيرورات التداخل بين المجتمعات بفعل التبادل، حيث أنه ليست الاقتصادات من تجد نفسها في تنافس فحسب بل منظوماتها الاجتماعية كذلك. هذا ما يجعل صدى رهاناتها أقوى بكثير داخل المجتمع.من نتائجها أنها تجعل تعريف التسويات الاجتماعية الجديدة أكثر صعوبةً، رغم أن فرضية تشوه القيمة المضافة لصالح الرأسمال وعلى حساب العمل لم تُبرهن أبداً.
من وجهة نظر اليسار، فإن العولمة هي موضع نقد لأنها تحرض عدداً من الطفرات والاختلالات. هي تخلق خاسرين ورابحين في المجتمع. ميكانيكياً هي ليست لصالح الجميع، على الرغم من الدينامية بين الرابحين والخاسرين هي سلسة ومعقدة بشكل كبير في آن معا. ولكن ليس بتسويدنا للوحة العالم نقترب من تأويل سديد أو حلول ناجعة؛ علاوةً على ذلك، نرى جيداً أن العولمة هي عنصر يبرز كل أنواع الضعف الذاتي أكثر منها قوة استئصال للتنوعات الوطنية. فرنسا هي أكثر البلدان الأوربية المهددة بإزالة التصنيع. ولكن إزالة التصنيع تلك ليست مرتبطة على الإطلاق بشكل تنافس غير نزيه. فرنسا من بين الدول المتقدمة التي تعد نسبة استيرادها للمنتجات من بلدان العمالة الرخيصة من أضعف النسب، بالمقابل هي بلد يستورد أكثر فأكثر منتجات من بلدان متطورة، مما يدل على أن سوء التخصص في الصناعة الفرنسية هو السبب، وليست العولمة في مشاكلنا.
يُلاحظ في علاقة اليسار بالعولمة وجود عائق سياسي كبير. فاليسار لا يتساءل في أي لحظة من اللحظات عن العلاقة الممكنة بين سيرورات العولمة وبزوغ عالم متعدد الأقطاب. ولكن في حال أن أقطاب قوة بزغت، فذلك لأن العولمة تساهم في تنقل الأمكنة حيث تُخلق مصادر غنى جديدة. اليوم أصبحت فكرة “العولمة الأمريكية” قديمة ومتجاوزة، ليس لأن الولايات المتحدة لا تستفيد من هذه العولمة بل لأنها لا تستفيد ميكانيكياً أو لوحدها. في الحقيقة، العولمة في القرن الواحد والعشرين تشير إلى نهاية عائدية الغرب من العالم. من وجهة نظر يسار يشهر أمميته، من الصعب أن نصد الطريق على هذا التطور الرئيس، إلا إن أردنا الاغتناء لوحدنا دوناً عن الآخرين. طبعاً من الممكن أن نفهم صعوبة أن يبتهج اليسار من تطور قد يضع أصحاب أجور الشمال موضع الخطر أو أن يعمق اللامساواة. ولكن بمقدار ما يصعب الحفاظ على الوضع القائم، فمن المفضل التأقلم مع عالم يتغير وأخذ مكان ما بدل رفض تغيير لا يمكننا صده.
يبقى هناك نقطة مركزية هي الصلة بين العولمة واللامساواة. هنا أيضاً، من وجهة نظر يسارية تقليدية، كون العولمة تزيد من اللامساواة هو أمر يفقدها شرعيتها، ولكن مرة أخرى، الواقع ليس قابلاً للاختزال بتبسيطات من هذا النوع. أولاً ودون أن ندخل في تفاصيل تقنية بحتة، علينا أن نعرف عن أي لا مساواة نتحدث، عن اللامساواة بين البلدان أم بين الأفراد؟ من جهة أخرى عندما نتحدث عن اللامساواة بين البلدان، هل نتكلم كما لو أن الصين وبتسوانا تزانان بنفس المقدار، أم أننا نوازن هذه النتيجة آخذين بالحسبان تعداد سكان كل بلد؟
لأنه بحسب ما أخذناه بالحسبان من معايير، تختلف الأجوبة. اللامساواة بين البلدان تزداد بشكل لا يقبل النقض. ولكن إن وازنا هذه المقارنات نسبة للسكان، فإن اللامساواة تتراجع منذ ما يقارب الخمسين عاماً. إحصائياً، العنصر الصيني هو المسؤول عن هذا التطور.
ومع ذلك فلا يمكن إنكار أن اللامساواة في المجتمعات نفسها تتعمق. هنا أيضاً يجب أن نفكر بالمسألة بتعقيداتها كلها. في المقام الأول، كون اللامساواة تزداد عمقاً، لا يعني على الإطلاق أن المجتمعات لا تتطور. وكون اللامساواة تزداد عمقاً فهذا لا يعني أن الأفراد يزدادون فقراً. إن مماهاة اللامساواة مع التراجع غير المحتمل والحتمي هو بكل بساطة لا أساس له. لنأخذ مثال الصين. اللامساواة تزداد عمقاً على الأقل منذ خمسة عشر عاماً. ولكن ليس لأن اللامساواة تزداد يكون الصينيون لا يتقدمون أو لا يغتنون. إن متوسط حياة الصينيين بمجملهم يرتفع بشكل ملحوظ، ولكن بعض المجموعات تحصد امتيازات أكثر من غيرها. لذلك فلا تناقض بين نمو معدل اللامساواة وبين تراجع الفقر بالمعنى المطلق.
بالنهاية، علينا أن نفهم أن اللامساواة ليست التعبير الوحيد عن الديناميكية المتوحشة. السبب الرئيس في زيادة اللامساواة هو الهوة الشاسعة بين أجور العمل الذي يتطلب أهلية معينة وبين العمل الذي لا يتطلب أهلية. فمن المناسب إذاً أن نعمل على ردم هذه الهوة بالعمل على رفع مستوى التأهيل بشكل عام للسكان أو بأن نتجنب بأن يهمش عمل غير المؤهلين أكثر مما هو مهمش.
بالواقع هنا بالذات نجد أن النظرة النيوليبرالية هي الأكثر ضعفاً والأكثر قابلية للدحض. لأنه وبعكس ما تؤكد هذه النظرية، فالعولمة لا تقلل ميكانيكياً من اللامساواة بحجة أن التبادل يدعم حالة الكوادر المؤهلة في الشمال والطاقات غير المؤهلة في الجنوب. الحقيقة أكثر تعقيدا بكثير. ففي كثير من بلدان الجنوب، العاملون المؤهلون هم المستفيدون من رفع مستوى التطلب في العمل، إما لأنهم يأخذون عمل العاملين غير المؤهلين أو لأنهم يستفيدون من منافسة الأسعار بينهم وبين عمال الشمال المؤهلين. (مهندسو المعلوماتية الهنود على سبيل المثال).
كل ذلك لنقول أنه لن يفيدنا بشيء أن نفكر بكل تلك الرهانات بمفردات إيديولوجية بحتة. اقتصاد مفتوح هو بشكل أساسي مصدر للغنى والاقتصاد المتنامي. ولكن في نفس الوقت، الاعتقاد بأن الانفتاح كاف للازدهار هو تناقض. الانفتاح لا ينتج مفاعيل محمودة إلا إن تم التفكير به ضمن إطار استراتيجي عام وليس كهدف بحد ذاته.هنا أيضاً ليس من الضروري أن نثق ثقة كبيرة بالليبراليين، الذين يجدون أن الانفتاح مفيد دائماً للبلدان النامية. المثال الذي يُعطى غالباً هو مثال لبرلة الأسواق الزراعية التي يتم تقديمها وكأنها سعادة صافية. ولكن هذه الحجة ليست دقيقة بالمجمل. إن كانت أوربا قد قررت أن تفتح أسواقها الزراعية للمنافسة العالمية، فقد استفادت بعض البلدان، ولكن بعض البلدان الأخرى تضررت تضرراً بالغاً. ومن بين هذه الأخيرة المتضررة هناك بعض البلدان الإفريقية المستفيدة من دخول امتيازي للأسواق الأوربية وبالتالي محمية.
الرهان بالنسبة لليسار ليس بالتخفيف عن الناس القلقين أو طمأنتهم بجعل مخاوفهم وبؤسهم نسبية. رهان اليسار هو تقديم حلول لكربهم. ولكن، مرة أخرى، على هذه الحلول أن تتأقلم مع عالم اليوم وألا يُفكر فيها ماضوياً.
لنأخذ مثالاً واحداً، مثال العمال غير المؤهلين، كيف يمكن مساعدتهم؟ بطبيعة الحال، يمكننا أن نساعدهم بإعادة تأهيلهم، ولكن هذه الإمكانية ليست متاحة لجميع غير المؤهلين. بالنسبة لمعظمهم، الحل يكمن في دخولهم سوق العمل، ولكن في فرنسا هناك الكثير من العوائق لدخول غير المؤهلين سوق العمل، عوائق ذات طبيعة تنظيمية متنافية مع التنافس.
علاوةً على ذلك، علينا أن نرى بوضوح أن تقدير عمل المؤهلين لا ينسف حاجتنا إلى عمل غير المؤهلين. لا يمكن أن نعمم فكرة أن العمال غير المؤهلين سيتأثرون حتماً بالمنافسة مع البلدان ذات الدخول الضعيفة. هناك منجم من الأعمال لغير المؤهلين، غير خاضعة للمنافسة العالمية. ليس على مسلّم طلبيات البيتزا أن يخشى لامركزية أماكن العمل.
السؤال إذاً هو التالي: هل يمكن لإزالة العوائق عند دخول سوق العمل أن تتيح فرص أكبر للعاملين غير المؤهلين؟ هذا يحيلنا إلى سؤال جوهري، قد يكون الأكثر جوهرية بالنسبة لليسار: هل من الممكن العودة إلى آليات السوق لتقليص اللامساواة؟ هذا هو السؤال الحقيقي ، وليس السؤال المجرد أن نعرف إن كان اليسار يقبل اقتصاد السوق أم لا.
ولتوخي الدقة أكثر، السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه على اليسار هو أن نعرف ضمن أي مقياس يمكن إدخال منطق السوق التحفيزي إلى جهازها المختص بالنضال ضد اللامساواة. ولكن حتى الآن كان هناك نوع من التحفظ من جانب اليسار لتجاوز الآليات البسيطة في إعادة التوزيع.
أسلوب اليسار ومن ضمنه إعطاء الأولية للعمل والذي أنهك حرفياً ، لأي درجة يجد اليسار صعوبة في اللعب على التحفيز الاقتصادي، في مجتمع، لا تعود الدولة فيه قادرة على تأمين أوضاع ولكن مسارات، هذا الإنقلاب يصبح أساسياً
. إلا أنه من الواضح أن اليسار خائف من أن يدخل في منطق التحفيز، من جهة لأنه يخشى أن يعترف، أنه في اقتصاد ما من الممكن أن يكون هناك مثبطات للعمل، ومن جهة أخرى لأن السوق يبدو لليسار كدوامة مورّطة.
طالما أن اليسار لا يعترف بأن السوق يمكنه أن يشكل رديفاً فعالاً في النضال ضد اللامساواة، سيستمر بالتزامه بنموذج صوري، بحقيقة غير موجودة في الواقع.
أن يظهر اليسار وبشكل مشروط عدائية لكل فكرة تطرح رفع رسوم التسجيل في الجامعات، والذي من شأنه أن يقدم لخصخصة أملاك عامة، هذا الأمر يظهر لأي درجة لا يدرك اليسار مساوئ النظام الحالي والميزات المحتملة لنظام أكثر إنصافاً حتى لو كان ظاهرياً أقل مساواتية. في الواقع، كيف يمكننا أن نصدق أن الحفاظ على نفقات الدراسات الجامعية شبه مجانية من شأنه أن يشكل تقدماً في مجتمع يتسم باللامساواة ؟ ما معنى أن نكون من اليسار وأن نقبل بأن يحظى أولاد الأغنياء وأولاد العمّال بنفس الحقوق بالضبط ، في حين أن الإنصاف يعني أن تكون هذه الحقوق متناسبة مع دخول أهاليهم ؟
أن يكون نظام العودة إلى العمل في فرنسا ضعيف الأداء إلى هذا الحد هو بقايا –فرنسية جداً- لفكرة أن سوق العمل ليس كغيره من الأسواق. إلا أن كل سياسات إدارة العودة إلى العمل التي نجحت في العالم هي تلك التي تمثلت تمثلاً كاملاً أن سوق العمل هو كغيره من الأسواق، حيث ينبغي اقتراح أفضل عرض مقابل الطلب وذلك عبر المتابعة الفردية لطلبات العمل. على هذا المستوى لا يمكن إنكار تأخر فرنسا.
يمكننا أن نكثر من الأمثلة لنرى لأي درجة الثقافة السياسية الفرنسية متحفظة وبعمق على آليات السوق. وفي هذا الإطار فقد ضخم اليسار هذا التوجس.
أدوات الضبط
يبقى هناك رهان كبير أخير هو رهان ضبط العولمة. في الواقع، في عالم تصبح فيه الدول صغيرة جداً بالنسبة لمشاكل كبيرة وفي بعض الأحيان تصبح الدول كبيرة جداً بالنسبة لمشاكل صغيرة، تصبح مسألة الضبط أساسية لحماية الدول والهويات والأنظمة السياسية الوطنية وبشكل عام التفضيلات الجماعية لكل مجتمع، في ظل غياب ديمقراطية عالمية. حتى في فضاء معولم، تحافظ المجتمعات، رغم كل شيء، على تواريخها الخاصة وتقاليدها الخاصة.
كيف يمكننا إذاً أن نضبط العولمة، علماً أن كل دولة لا تملك نفس التعريف للعولمة
أن نفهم فوائد المنظمات الموجودة
الطريقة الأولى تقتضي بأن نثق بالمنظمات متعددة الأقطاب الموجودة، عوضاً عن أن نبحث عن التقليل من شأنها. أكبر خطأ لليسار في هذا الشأن هو الاستمرار طويلاً في نقد منظمة التجارة العالمية فقط لأن حركة (آتاك) أو التجمع الفلاحي يتكلمون بالسوء عنها. إلا أن منظمة التجارة العالمية ليست حقاً ما نعتقده. قد يكون فيها الكثير من عيوب الإدارة، ولكنها تقدم الكثير من المزايا، منها أنها تتيح للأكثر ضعفاً أن يقدمون شكاوى بحق الممارسات غير النزيهة للأكثر قوة. هذا الإجراء ليس مضموناً دائماً ولكن المنظمة هي المكان الوحيد حيث يمكن عمل ذلك. حالة منتجي القطن الأفارقة، الذين خُنقوا من منتجي القطن الأمريكان، الممولين بقوة و ينزعون من الأفارقة كل فرصة للتنافس تشهد على ذلك. صحيح أن منظمة التجارة العالمية تساهم في لبرلة التبادلات، ولكنها مع ذلك تفرض دائماً قواعد في هذا الخصوص. ومن هنا تأتي الصعوبة في إجراءاتها، والتعقيد الفائق في مفاوضاتها. اليوم، الدول النامية هي الأكثر تمسكاً بمنظمة التجارة العالمية والتي تريد وضع المنظمة في خدمة تقدمها. أما بشأن لبرلة التبادلات، فينبغي على اليسار أن يأخذ موقفاً أكثر توازناً، ليس بدافع التوازن بحد ذاته، ولكن بكل بساطة، لأن الحقيقة متعددة الأوجه. ضمن توجه عام، لبرلة التبادلات مفيدة للنمو والتطور.
ولكن على عكس الليبراليين، لا ينبغي التفكير باللبرلة إلا كسيرورة ضمن سيرورات أخرى. إن لم تتبعها السيرورات الباقية، لا تكون إلا وهمية، بل أسوأ من ذلك، ضارة. بالتناظر مع ذلك، من الملائم أن تتخلى حركات مناهضة العولمة الفرنسية عن فكرتها الغائمة التي تقول بأن مقاومة انفتاح الأسواق هو هدف سياسي بحد ذاته، مزدرية بذلك كل تحليل معمق لفوائده ومساوئه.
دمقرطة المنظمات متعددة الأقطاب
للمفارقة، فمنظمة التجارة العالمية، من بين منظمات أخرى، هي من أقل المؤسسات حاجة للديمقراطية لأنها متمتعة بقدر عال منها. فالقرارات فيها تُتخذ توافقياً والأكثر سلطة يُجبرون على التعامل والتداول مع الأقل منهم سلطة. إلا أنها المنظمة الوحيدة على هذا الشكل. حتى لو لم تكن قمة الثمانية منظمة بالمعنى الدقيق للكلمة، إلا أنها شتيمة حقيقية للتعددية العالمية. انفتاحها على الدول النامية أساسي. وكذلك إصلاح بنك النقد الدولي طالما أن تمثيل البلدان النامية فيه فادح في ضآلته. بنك النقد الدولي هو مؤسسة مأزومة، بما أن البلدان النامية لم تعد بحاجته، فقد راكمت هذه الأخيرة ما يكفي من الاحتياطي يجعلها في غنى عن احتياطاته. وهذا ما يظهر مرة أخرى لأي حد تتغير موازين القوة بخلقها لرابحين جدد.
يبقى هناك بعد مهم لدمقرطة الحياة العالمية، هو أنها قد تمر عبر ارتباط المجتمع المدني بخيارات الإدارة والحكم العالمين. في الواقع، هناك العديد من المنظمات غير الحكومية تقوم بدور مهم في التحذير والإدلاء بالخبرة، وخاصة في مجال البيئة والتنمية. إن التوافق الكوكبي حول التغير المناخي لم يكن ليوجد لولا مجتمع باحثين طوّر نتائج متقاربة حول الموضوع.
على مستوى التنمية، فإن المنظمات غير الحكومية تلعب أيضاً دوراً غير قليل لصالح بعض البلدان النامية لمساعدتها على الدفاع عن وجهة نظرها في منظمة التجارة العالمية.
يبقى أن نعرف إن كانت مأسسة وجود المنظمات غير الحكومية ممكنة، أو حتى محبذة. ولكن في هذا المجال لا إجماع على الإطلاق. الدول النامية على العموم لا تحبذ ذلك لأنها ترى فيه مساً بسيادة الدول، علاوة على ذلك فهي تخشى أن تكون التفضيلات التي تدافع عنها المنظمات غير الحكومية هي تفضيلات الدول الغنية، وهو، على فكرة، أمر ليس خاطئاً تماماً ، هذا ما يظهر مرة أخرى خطأ الخلافات السياسية حول العولمة كخلافات بين مناصر ومعاد. اليوم، وباستنادنا على مثال منظمة التجارة العالمية، يمكننا أن نحصي على الأقل ثلاث خطوط تمايز: بلدان غنية/ بلدان نامية؛ بلدان ناشئة/ بلدان فقيرة؛ بلدان “هجومية”/ بلدان “دفاعية”. هذا الخط الأخير الذي يضع البلدان الراغبة بمزيد من الانفتاح مقابل البلدان غير الراغبة به هو خط غير متجانس، لأن بعض البلدان شديدة الهجومية في مجال وشديدة الدفاعية في مجال آخر. فالهنود يودون أن تفتح الدول الغنية حدودها لعامليهم المؤهلين ولكنها تتحفظ فيما يخص لبرلة زراعتها. البرازيليون يريدون أن تتخلى أوربا عن كل دعم لزراعتها ولكنهم غير مستعدون لنزع الحماية عن صناعتهم. الأوربيون يريدون دخول الأسواق الناشئة، ولكنهم لا يريدون أن يقوم انفتاح أسواقهم الزراعية بثمن اختفاء مزارعيهم. كل العالم تقريباً لديه مصلحة بمزيد من اللبرلة وبقدر أقل من اللبرلة في آن، مما يجعل أي اتفاق أصعب فأصعب ومما يجعل العودة إلى الحمائية قليلة الاحتمال.
صياغة المواصفات# العالمية وفق تراتبية معينة
كل العالم متفق على أن إحدى الرهانات في المنافسة العالمية هو تنظيم تراتبية المواصفات بشكل لا تتفوق فيه معايير التبادل والسوق على كل المواصفات والقيم الأخرى، بيئية أو اجتماعية أو ثقافية. من وجهة نظر اليسار، من الواجب أن تُحمى القيم غير السلعية من لبرلة معممة للتبادلات تحت مسمّى أن هناك قيم غير سلعية. الأوربيون يجعلون من أنفسهم دعاة هذا الاتجاه بدفاعهم عن تعددية وظائف الزراعة وعن التعددية الثقافية ورفض المعدلات الوراثية، مبدأ الحذر أو رفض عروض فتح بعض الخدمات لمنظمة التجارة العالمية كالتعليم.
ضمن هذا المنظور، تُطرح مسألتين، على أي أساس ينبغي إعادة ترتيب المواصفات؟ ومن ثم كيف يمكن تنظيمها؟
هاتان المسألتان شديدتا التعقيد وأكثر صعوبة مما تبدوان. إذا أخذنا المسألة البيئية على سبيل المثال، فإن أولية المواصفات البيئية على المواصفات التجارية حين تتنازع فيما بينها ليست مقبولة من الجميع. علاوة على ذلك، فهناك قائمة مهولة من المواصفات البيئية. فرهانات التغير المناخي ليست بمستوى المواصفات التي تمس المخلفات السامة. علينا إذاً أن ننظم تراتبية المواصفات فيما بينها، ولكن كذلك علينا ضمن كل منظومة معيارية ترتيب الرهانات. علاوة على ذلك، ليس من المؤكد أو حكماً مقبول أن المواصفات غير السلعية ينبغي أن تكون المفضلة. يمكن لذلك لأن يفتح طريق الاستغلال، خاصة عندما تكون المعايير من أصل مؤسسات خاصة. فأي لوبي تجاري قوي ومنظم يمكنه أن يجد المعيار البيئي الجيد الذي يسمح له بأن يقف في وجه استيراد بعض المنتجات. هذا هو حال أوربا أو الولايات المتحدة. من جهة أخرى، حتى عندما يكون لدينا مواصفات عالية تشدد على بعض الدول النامية، علينا أن نتأكد أنها قادرة على التأقلم مع مواصفاتنا كي لا يخسروا كثيراً.
لذلك، لبرلة التبادلات بشكل غير مشروط ليس مقبولاً. بالنسبة للبيئة والأمن الغذائي، علينا أن نتمكن من تعريف نظام لتنقل الموارد والخدمات يميز حالات ثلاث:
_ موارد لا تستدعي تقييدات معينة اللهم إلا التقنية والتنظيمية منها.
_ موارد تشكل خطراً على الصحة والبيئة والتي تجعل مشروعاً وضع آليات لتحديد تبادلها.
– الموارد التي يشترط في تنقلها بعض القواعد التي تُعلم عنها وتخط أثرها الاجتماعي والبيئي. فللمستهلك الحق بأن يتأكد أن اللعبة التي اشتراها على سبيل المثال ليست مصنعة بأيدي مساجين صينيين أو مصنعة بخشب غير مرخص.
إن حقل التفكير حول كل تلك الرهانات لا ينتهي، إلا أن التقدم على هذا النهج لن يوقفه مجلس أمان اقتصادي أو قمة الثمانية، حتى لو وُسعت. على هذا المستوى، هناك تناقض فريد من نوعه عند البعض، اليسار على سبيل المثال، الذين ينتقدون منظمة التجارة العالمية مع مطالبتها في الوقت نفسه بأن تأخذ بعين الاعتبار البيئة والمواصفات الاجتماعية، إننا بتصرفنا هذا نقوي أكثر فأكثر دور منظمة التجارة العالمية وهو شيء غير محبذ. ولكننا بالمقابل نستطيع أن نتصور حلولا وسطية كتلك التي ندعم تطوير الاجتهادات القضائية لمنظمة التجارة العالمية، ونجعلها أكثر تنبهاً للرهانات البيئية، ويبدو أن هذا هو الحال.
التقدم يمر أيضاً عبر إرساء شبكات للإدارة العالمية تجمع الدول والخبراء والمنظمات غير الحكومية والفاعلين في القطاع الخاص، هذه الشبكات من شأنها الشروع بخط توجهات معيارية قادرة أن تفرض نفسها على مختلف الفاعلين وعبر مختلف الأقنية، تشكيل لوبيات ضمن الدول، تعريف الممارسات الحميدة والممارسات السيئة، إلخ. الطريقة المثلى لجعل تراتبية المواصفات تتقدم هو جعل بعض المبادئ مشرعنة عند الرأي العام قبل أن تبت بها المؤسسات الدولية.
من الطبيعي ألا يكون هذا متناقضاً مع إنشاء مؤسسات جديدة متعددة القطبية، مثل المنظمة العالمية للبيئة. ولكن ينبغي ألا ننتظر الكثير من هذه المؤسسات غير الموجودة حالياً والتي لا يوجد إجماع عالمي حولها. بالمقابل، فإن إنشاء شبكات للإدارة العالمية يمكن أن يتم بسرعة في ثلاث مجالات: البيئة والمواصفات الاجتماعية والنقد# العالمي.
العولمة تبدأ من عندنا
أخيراً، علينا أن نتوقف عن رؤية العولمة كفزاعة بينما هي في كثير من الأحيان تظهر ضعفنا الخاص، صحيح أن العولمة، على سبيل المثال، تؤذي صناعتنا. ولكن السؤال الحقيقي هو كيف يمكننا الرد على ذلك. إلا أن أسباب ضعف تنافسيتنا، لا تنتج أساساً عن انفتاح كبير لأسواقنا بقدر ما تنتج عن اجتماع عاملين أساسين: اختصاص غير أمثلي في الصناعة وتواجد غير كاف في الأسواق الناشئة، وخاصة للمؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم. من هنا علينا أن ننطلق في التفكير وليس من عودتنا إلى المغالاة في الحماية، ذلك أن المعطيات والوقائع ثابتة: فرنسا هي في آن من أكثر البلدان الأوربية المهددة بإزالة صناعتها وهي إحدى أضعف البلدان في استيرادها من البلدان ذات الدخول الضعيفة.
في مواجهة ذلك، لا يوجد وصفات سحرية ولكن إمكانيات حقيقية لا علاقة للإيديولوجيا بها: دعم الخلق والبحث للذهاب نحو فضاءات جديدة ذات قيمة مضافة كبيرة؛ تأهيل المواطنين أكثر وأكثر عبر التعليم والدورات التدريبية؛ خلق فرص جديدة للعاملين غير المؤهلين. يبقى أن نتساءل بعد كل ذلك تساءلاً مشروعاً ما معنى أن نكون من اليسار في مقابل اليمين. علينا أن نقبل أنه بين كل هذه القوى، لا يوجد فروق شاسعة لأن اليمين الفرنسي ليس يميناً فائق الليبرالية. مع ذلك فهاتين القوتين لهما سمات مختلفة لأنهما لا يمثلان دائماً نفس المجموعات الاجتماعية . يميل اليمين إلى الاعتقاد أن مصالح مختلف الفئات الاجتماعية تنحو إلى الالتقاء. اليسار على هذا المستوى أكثر حذراً وهو محق في ذلك. ببساطة، بدل الانطلاق من حالة جمعية لم تعد موجودة، كي يصنع اليسار خير الجميع، عليه أن ينطلق من خصوصية مواقف الأفراد لبناء الحالة الجمعية.
من جهة أخرى، وبطبيعة الحال، تميل هموم اليسار إلى الأكثر ضعفاً وهشاشةً. ضمن هذا المنظور فهو أكثر تنبهاً لسيرورات إعادة التوزيع لهذه الفئات المجتمعية. ولكن الحال أن هذا الهم بالنسبة للأكثر ضعفاً لا يمكن أن يُعبر عنه فقط من خلال آليات إعادة التوزيع وتدخل الدولة. على اليسار أن يزاوج بين إعادة التوزيع والتحفيز. إن لم يفعل اليسار ذلك، فللمفارقة ستكون الطبقات الشعبية هي الأكثر إبتعاداً عنه، لأنها أكثر فأكثر تشعر بنغص أن تكون حياتها بهذه الصعوبة وأن تستسهل بعض الفئات الأخرى تلقيها السلبي لإعادة توزيع دون تحفيز.