مقدمة
لا يحتوي المقال إجابات بل يطرح أسئلة من أجل إثارة الرغبة في الاجتهاد أكثر في التفكير في موضوع لطالما كان مهماً قبل الثورة ومازال مهماً في الثورة وسيبقى مهماً لمستقبل سورية.
انشغلت أحزاب المعارضة السورية قبل الثورة بكثير في توصيف النظام السوري، واستخدم الكتاب فيها مصطلحات سياسية شائعة بقوالب جاهزة من مثل: نظام دكتاتوري عسكري، أو نظام فاشي، أو نظام بونابرتي… ولكن السمة الجوهرية للنظام السوري كانت منذ مدة طويلة وما زالت هي السمة الأمنية فيه.
لم ينشغل مفكرو وكتاب هذه الأحزاب في دراسة النظام الأمني في سورية إلا بقدر المعلومات المتوفرة نتيجة الخبرة الشخصية والحزبية للنشطاء السياسيين في التعامل مع المخابرات السورية أثناء الملاحقة والتخفي والاعتقال والتحقيق (والتفاوض أحياناً)، وكذلك بقدر ما توفره من معلومات خبرة السوريين من غير الناشطين سياسياً في التعامل اليومي مع الأجهزة الأمنية في تدخلها المباشر وغير المباشر في كل شاردة وواردة من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وكانت ترشح أحياناً معلومات شحيحة في الصحافة الأجنبية عن تركيب هذه الأجهزة الأمنية وبعض قياداتها.
تعاقب على الأجهزة الأمنية عدة قادة وعمل فيها عدة ضباط ثم تركوها وأتى غيرهم ولم يتأثر مرة عمل هذه الأجهزة بهذه التنقلات، وبقيت فروع الأمن في وقت ما من التسعينات أسابيع طويلة دون قادة لها (بوجود علي دوبا على رأس عمله طبعاً) ولم يتأثر عملها، وهذا يدل على وجود ديناميكية داخلية في طريقة عمل هذه الأجهزة، فكل من فيها يعرف دوره ومهامه ويستمر بالقيام بها في كل الظروف.
ماذا يميز هذه الأجهزة الأمنية عن غيرها من الأجهزة المشابهة الموجودة في كل دول العالم؟
المعرفة سلطة
احتكرت هذه الأجهزة الأمنية المعرفة بالواقع السوري مدة طويلة وما تزال تفعل، وهي معرفة اجتماعية واقتصادية وسياسية أيضاً، فسورية بلد ليس فيه أية شفافية منذ عشرات السنين بحكم عدم وجود مؤسسات مدنية وسياسية حقيقية وعدم وجود إعلام حقيقي فيه، ويكفي أن نشير هنا إلى أن كل أحزاب المعارضة كانت عاجزة عن إصدار برامج اجتماعية واقتصادية ذات قيمة واكتفت ببرامجها السياسية الأيدولوجية (وكانت الأيدولوجيا هنا نوعاً من وعي مزيف لواقع مزيف… أي عماء مزدوج).
اكتسبت المخابرات السورية عبر تراكم معرفتها خلال مدة طويلة مهارات في التعامل مع الشعب السوري كأفراد وكعائلات وعشائر وطوائف وقوميات، بالإضافة إلى خبرتها في إدارة كل مؤسسات الدولة والمنظمات الوسيطة بين الدولة والمجتمع بطرق غير مباشرة. لقد ورثت الأجهزة الأمنية عبر تاريخ الدولة السورية كله ورثت بعضها البعض في كل العهود، ومن الطبيعي أن يكتشف سوري ثمانيني مثلاً وجود معلومات عنه في “ملفه” تعود إلى أيام صباه حين ألقى قصيدة في مدرسته الإعدادية وكان فيها انتقاد للحكم في سورية في وقتها، كما حاول تاجر سوري ثري متغرب وله “ملف” أمني منذ الثمانينات أن “يمحو” ملفه بكل الطرق الممكنة بما فيها طلب ذلك شخصياً من رئيس الجمهورية على أساس أن قصته قديمة وأصبح مع النظام ولم يعد يهتم في حياته إلا بالبزنس، ولكن تبين له أن الرئيس “غير قادر” أو (غير راغب في ذلك)، وظل هذا التاجر يعتمد على الموافقات الأمنية في دخوله إلى سورية وخروجه منها في كل مرة يفعل ذلك.
هناك تصريح شهير معروف لغازي كنعان أثناء الاحتلال السوري للبنان عندما خاطب بعض اللبنانيين قائلاً “أنتم ماهرون في التجارة فاتركوا الأمن والسياسة لنا”، وهناك تصريح شهير للواء منصورة بعد انتفاضة الكورد عام 2004 عندما “بهدل” محافظ الحسكة قائلاً له “أنا ساويتهم 30 حزب وأنت ساويتهم حزب واحد”… لا يمكن أن نغفل خبرة المخابرات السورية مع الشعب اللبناني والفلسطيني أيضاً… خبرة أذاقت هذين الشعبين الأمرين… وقد وفر لبنان للأجهزة الأمنية السورية مجالاً واسعاً لخبرات مكتسبة بالتعامل مع معظم الأجهزة الأمنية في العالم… ولا ننسى دور هذه الأجهزة الأمنية في سورية عبر ستار “القيادة القومية” أحياناً في العلاقة مع تنظيمات معارضة لأنظمة الحكم في كل دول الجوار وفي دول بعيدة جداً عن سورية، بالإضافة إلى دور مراكز التشيع في سورية في السيدة زينب وغيرها في حكومات العراق بعد سقوط نظام صدام حسين (طيف واسع من المعارضة العراقية كان مقيماً في سورية سنوات طويلة ومنها المعارضة الكردية أيضاً)، ودور هذه المراكز الشيعية بعلاقتها مع شيعة دول الخليج أيضاً (هذا الدور أهم بما لا يقاس من دورها في حركة التشيع في سورية نفسها، والتي بقيت محدودة الأثر وذات طابع رمزي استفزازي طائفي). وهناك دور أيضاً للأجهزة الأمنية في لواء اسكندرون ومع الأحزاب التركية المعارضة.
نادراً ما تغير نظام حكم في العالم كله ورغب في عرض أرشيف المخابرات في الحكم السابق على الصحافة والرأي العام في بلده كي يقرؤه عامة الناس والخبراء (الثورة البلشفية فعلت ذلك مع أرشيف المخابرات القيصرية الروسية، وألمانيا بعد توحدها نشرت بعض أرشيف مخابرات ألمانيا الشرقية).
عدم المساءلة
تركت حرية التصرف المطلقة للأجهزة الأمنية في حياة البشر فيما يخص حريتهم وسلامتهم وشرفهم وسمعتهم وحياتهم نفسها تركت شعوراً طاغياً عند أفراد الشعب السوري بسطوة النظام على مصيرهم اليومي، فكانت هذه الأجهزة الأمنية حاضرة في السلوك الشخصي والعام لكل شخص في سورية، ولم تسلم من ذلك أحزاب المعارضة نفسها كما لم تسلم كل أشكال التمرد الشخصي والاجتماعي بما فيها التعبيرات الأدبية والفنية والفكرية أيضاً. المخابرات السورية هي أهم ما طبع السمات السورية الخاصة في كل شيء تقريباً.
لقد اكتسبت المخابرات السورية عند الشعب السوري شيئاً فشيئاً صفات إلهية من مثل “كلية المعرفة” و”كلية القدرة” و”كلية الوجود”… ولنا أن نتخيل كيف يكون شعور المسؤولين عن هذه الأجهزة الأمنية تجاه أنفسهم عندما يصدقون أنهم يملكون كل هذه الصفات لمدة طويلة من الزمن ودونما رقابة أو محاسبة، فعندما يكونون قادرين على السجن والقتل والاختطاف والإخفاء وعلى تجنيد العملاء ومنح المال وحجبه وتلفيق التهم وتشويه السمعة والمس بحرية وكرامة وشرف وحياة أي شخص دون أي وازع سوى الوازع الشخصي. فمن هو هذا الشخص مهما كانت كفاءته ومهارته وأخلاقه الذي يمكن أن يؤتمن ويعطى هذه الصلاحيات غير المحدودة ولا يسيء أو ينتهك أو يبطش… هذه المناصب والوظائف ببنيتها نفسها وصفة للاستبداد والفساد المطلقين لأي شخص كان.
وقد مر وقت في سورية في بداية التسعينات انتشرت فيها “أسطورة الأمان” بسبب نتائج القمع الرهيب في الثمانينات وإخضاع المجتمع السوري نفسه، وتدخل الأجهزة الأمنية حتى في مشكلات الجرائم غير السياسية، فقد كانت فروع الأمن تحقق وتعتقل بطرقها الخاصة في قضايا مثل التهريب وسرقة السيارات وتجارة العملة وقطع الطريق والسلب والنهب الخ، ثم في النهاية تحيل المتهمين إلى القضاء حسب اختصاصه… لقد دب الرعب حينها حتى في “المجرمين” أنفسهم، ولكن شيئاً فشيئاً مع انتشار الفساد داخل الأجهزة الأمنية نفسها بطريقة غير مسبوقة كما هو الحال في أجهزة الدولة الأخرى، المدنية والعسكرية، ذهبت هالة الأمان هذه عن سورية إلى غير رجعة.
تعدد الوظائف، تعدد الوجوه
في غياب وجود مؤسسات حقيقية في سورية شاركت الأجهزة الأمنية بفعالية في كل نواحي الحياة في سورية من إعلام ودبلوماسية وسلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية وسائر الفعاليات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. المخابرات السورية لا تُختصر برئيس فرع المخابرات وجيش المخبرين وعناصر المداهمات والجلادين والمحققين.
تحدث الكثير من الزوار الأجانب لسورية من سياسيين ودبلوماسيين وصحفيين عن عدم وجود مؤسسات رئاسة في سورية، فحتى في القصر الجمهوري لم يجدوا سوى مكاتب لضباط القصر والحرس الجمهوري وضباط الأمن… كان النظام السوري عبر عشرات السنين “خارجياً” أكثر منه “داخلي”، لأنه اعتاد على عدم وجود شعب ورأي عام ومعارضة ومؤسسات داخلية… وكان يتعامل وكأن البلد ملكه، كما اعتاد العالم الخارجي على التعامل مع هذا النظام كركن وحيد في سورية لا منافس له، ولا شك أن كل مؤسسات الدول العربية والأجنبية أدركت أنها تتعامل في سورية مع مؤسسات وهمية يقبع خلفها مخابرات (وعسكر).
“ضربة المعلم”: هذا النظام الأمني الرهيب هو الذي خلق هالة الديكتاتور الوهمية، فعندما مرض حافظ الأسد في الثمانينات وانقسم كبار الضباط أثناء غيبوبته بين مؤيد لأخيه رفعت ومعارض له وتحالف المعارضون لرفعت ضده ثم شفي الديكتاتور فأخرج رفعت من البلاد كما أخرج بقية الضباط المعارضين لرفعت أيضاً من سورية ثم أعادهم واحداً واحداً، فمن ساعده في “ضربة المعلم” هذه غير الأجهزة الأمنية؟ وهل يشك أحد أن كل هؤلاء الضباط الكبار بما فيهم رفعت نفسه كان لهم ملفات أمنية مثلهم مثل أي شخص آخر في سورية؟ ولكن لنفترض أن الرئيس وقتها لم يشف من مرضه ومات فعلى من كانت الأجهزة الأمنية ستجتمع كرئيس للبلاد غير رفعت؟ وهل بالضرورة وقتها أن يكون من عائلة الأسد؟ وما ذا تغير من الثمانينات حتى الآن في هذه الأجهزة الأمنية بطريقة تعاملها مع رئاسة الجمهورية وعائلة الأسد؟
قال علي دوبا عندما استلم منصبه بدل حكمت الشهابي في بداية السبعينات “الزمن الذي كان فيه المعارض السياسي يعتقل أياماً أو شهوراً ثم يخرج ليصبح بطلاً ويستمر في عمله السياسي قد انتهى… الذي سيدخل السجن السياسي الآن لن يخرج منه”. ولم تكن هناك محاكمات، ثم في نهاية التسعينات بدأت المحاكمات الصورية للمعارضين بأثر راجع في البداية وانتهت بأحكام طويلة الأمد مفصلة على القياس تقريباً. لقد عملت أحزاب المعارضة السورية في شروط قاسية من القمع لمدة طويلة وفي ظل غياب مجتمع مدني حقيقي في سورية وعدم وجود حراك شعبي (باستثناء ما حدث في الثمانينات في بعض المدن السورية). هذه الأحزاب التي اقتصر عملها فعلياً على صيغة “جريدة وموزعون” (باستثناء الطليعة المقاتلة التي حملت السلاح) في أوساط نخبة مثقفة وطلاب جامعات غالباً أصبح صراعها عملياً مع المخابرات وأثبتت المخابرات في حربها على أحزاب المعارضة، ويا للمفارقة، أنها هي “الحزب الأكثر تنظيماً والأرقى وعياً” إذا استعرنا تعريف الأحزاب “الطليعية” لنفسها.
تفاوضت المخابرات مع أحزاب المعارضة أحياناً لأنه لا توجد مؤسسة أخرى قابلة للتفاوض السياسي، كما أن النظام نفسه لم يسمح أصلاً بالاعتراف بهذه المعارضة كمفاوض سياسي مع أي جهة كانت في سورية، ولذلك كله عندما بدأت الثورة السورية أثير الشك حول هيئة التنسيق وعلاقتها بالنظام لأن الناس في سورية لم يكونوا أصلاً يعرفون أحزاب هذه الهيئة وطرق عملها السابقة واللاحقة وعلاقتها بالمخابرات من كر وفر وتخف وعلانية وسجن وحرية وحرمان من حقوق مدنية ومنع سفر وإلغاء المنع وإعادة الاعتقال والتساهل حيناً والتشدد حيناً آخر في بعض المجالات… وعندما بدأت أحزاب المعارضة تعمل خارج سورية وتدعو إلى مؤتمرات خارج سورية سارعت المخابرات السورية لتسريب معلومات شخصية وعامة عن شخصيات المعارضة المعروفة كي تنزع أي هالة شخصية ممكنة لأي شخصية معارضة، ولتزرع الشك بين شخصيات المعارضة نفسها… وحتى الآن ما زال البعض يستغرب كيف تخرج بعض شخصيات المعارضة خارج سورية بطرق نظامية وتعود إليها بطرق نظامية، ويثير هذا البعض الشك عند الآخرين بمصداقية هذه الشخصيات، وهذا كله يدل على جهل الكثيرين في سورية بطرق العمل السياسي في ظل وجود مثل هذا النظام الأمني، وجهل أيضاً بطرق عمل المخابرات السورية… المخابرات السورية لها وظائف سياسية أيضاً، وتتصرف أحياناً كحزب سياسي حاكم.
المخابرات السورية تدرك جميع أمراض المعارضة السورية الموبوءة بنرجسية المثقفين وحساسياتهم الشخصية تجاه بعضهم البعض وتشككهم بالآخرين عبر تاريخ طويل من الانشقاقات التنظيمية والانتقال بين المواقف السياسية المختلفة في ظروف مختلفة، وما ترك كل ذلك من مشكلات تنظيمية وفردية لا يخلو منها حزب معارض.
العقل المفكر للنظام الأمني
ما هي مرجعيات النظام الأمني الفكرية وما هي ثقافته؟
لا ننسى أنه يوجد في النظام السوري تاريخياً ما يسمح له باعتبار نفسه مركزياً في إقليمه باعتبار أن دول مثل لبنان والأردن والشعب الفلسطيني اللاجئ بتنطيماته المختلفة خرجت من سورية الكبرى تاريخياً وبقيت سورية الحالية بنظامها المركزي الأمني الأقوى مقارنة مع هذه الدول والكيانات الضعيفة نسبياً. وقد سمحت سياسة حافظ الأسد الخارجية في لعب دور إقليمي ودولي قوي (في ظروف دولية مناسبة حينها)، كما سمحت للنظام الأمني أن يشترك في نشاطات مختلفة طالت دولاً عربية مجاورة وغير مجاورة ودولاً أجنبية أيضاً. ولا ننسى أن السلك الدبلوماسي وسفارات أية دولة في العالم تعتبر في إحدى تعريفاتها مركزاً لعمل المخابرات فكيف هو الحال في دولة أمنية من الطراز الأول مثل سورية؟ أتاح إخضاع المجتمع والدولة السورية للنظام الأمني عبر عشرات السنين الانصراف إلى النشاطات خارج سورية بعزيمة أكبر. كل ذلك يسمح لنا بافتراض أن هذا النظام الأمني لم يفهم يوماً الشعب السوري بل إنه انطلق من تصورات عن هذا الشعب تشبه تصورات المستشرقين عن الشرق. تعامل هذا النظام مع الشعب وكأنه يرى نفسه والآخرين بصيغة “نحن” و“هم“، وكأننا أمام معرفة تخيلية عند هذا النظام الأمني للمكان والزمان والأشخاص، معرفة تراكمت خلال خمسين سنة وغاب عنها حتى كل التغيرات التي طرأت على الشعب السوري خلال هذه الفترة الطويلة، وهي تغيرات لا بد وأنها حدثت بالرغم من هذا النظام الأمني وبطريقة عجز بنيوياً عن ملاحظتها. يمكن أن نلاحظ أن النظام الأمني في تعامله الحالي مع الشعب السوري في الثورة يبدو وكأن هذا الشعب أجنبي بالنسبة له، أو يخيل للبعض أن النظام الأمني نفسه أجنبي ولا يمت للشعب السوري بصلة. يبدو النظام الأمني وكأنه يريد إعادة تشكيل الشعب من جديد حسب تصوراته عنه كأفراد وجماعات مختلفة. إن مشهد “احتلال” سورية مدينة مدينة يوحي وكأن هذا النظام الأمني أدرك فجأة ربما أنه لم يعد يعرف الشعب السوري كما كان يتصوره سابقاً، وأنه يريد اكتشافه من جديد مثل أي دولة أجنبية تحتل بلداً آخر.
كيف تعامل النظام الأمني مع الثورة السورية؟
اكتشفت القرى والبلدات وحارات وضواحي المدن الثائرة أنها تقع في “حرم” فروع الأمن المختلفة، كما اكتشفت بأثر راجع أن فروع الأمن هذه كانت تعتبرها ضمن “حرمها” قبل الثورة بكثير، فهي تعرف كل شيء عن سكانها وتتدخل في حياتهم ابتداء من رخص البناء والمحلات التجارية وحتى الموافقات الأمنية الشهيرة التي “تنازل” النظام في إحدى “إصلاحاته” عن 70 نوعاً من الموافقات الأمنية فقط! كان الأمر أشبه بتعامل إقطاعي في العصور الوسطى مع أقنانه أو عبيده المتمردين.
تعرف الجمهور الثائر في الاعتقالات الأسبوعية أو اليومية أحياناً على مختلف فروع الأمن بطريقة تشبه خبرة الناشطين السياسيين في زمن الصمت في مملكة الخوف… ولم يعرف أحد لماذا برز في الثورة دور المخابرات الجوية بالذات؟وما هو تقسيم العمل الحقيقي (غير الجغرافي) بين فروع الأمن المختلفة في الثورة؟ وبماذا اختلف عما كان عليه قبل الثورة؟
وعندما بدأ القتل بإطلاق النار عن قرب وعن بعد بواسطة القنص وبواسطة الرمي العشوائي، ثم القصف البري عن بعد (وأحياناً المجازر)، والقصف الجوي بواسطة قوى عسكرية وأمنية، بالإضافة للشبيحة، ظلت المخابرات هي اللحمة الجامعة لكل هؤلاء وهي التي تتابع يومياً وتنسق وتشرف على التعامل مع الجرحى والشهداء والمعتقلين والجنازات والمفاوضات مع الأهالي بخصوص التشييع والتظاهر، بالإضافة إلى التعامل مع المقاومة المسلحة.
لقد تعلم الجمهور الثائر خلال شهور كل ما تعلمته المعارضة السياسية خلال سنوات طويلة من دروس مختلفة، وزاد عليها الجمهور دروساً في كل أنشطة الثورة التي لم يتح لهذه المعارضة السياسية تعلمها. وقد برزت تجربة المقاومة الشعبية المسلحة في الثورة كتجربة لا سابق لها (إلا تجربة الطليعة المقاتلة، وهي تجربة حزبية محدودة نسبياً) وأصبحت هذه المعارضة بكل تاريخها شيئاً من الماضي البعيد والذكريات.
ولكن أهم نتائج الثورة كانت تعرف السوريين على بعضهم البعض، دون وساطة المخابرات وجهازها الإعلامي والثقافي هذه المرة، تعارف حدث في المعتقلات وأماكن اللجوء داخل وخارج سورية (وفي المغتربات وفي العالم الافتراضي أيضاً). لقد اكتشفوا أنفسهم أولاً واكتشفوا الآخرين بمرارة أحياناً وبسعادة أحياناً، ولكنهم بدؤوا يعرفون بعضهم البعض ويتعرفون على سورية الحقيقية. وكانت أهم المفاجآت للجميع هي النظام السوري نفسه الذي حكمهم عشرات السنين وصار الجميع يسأل نفسه: كيف عاش أهلنا وعشنا نحن مع هذا الوحش طوال هذه السنين؟
أدرك الثوار سريعاً الدور الذي لعبه “العواينية” في خدمة المخابرات وعالجوا الأمر بطرق مختلفة. وقد استهدف المسلحون الثوار فروع الأمن أكثر من مرة في أكثر من مدينة، وجرى خطف لبعض ضباط وصف ضباط وعناصر الأمن شمل أحياناً قيادات أمنية كبيرة قديمة وحديثة، مع محاولات لاغتيال البعض بطرق مختلفة، ولكن لم يظهر الثوار المسلحون والمدنيون حتى الآن توجهاً يبرز تقديراً أكبر للدور المركزي للأجهزة الأمنية في قمع الثورة السورية وفي إدارة الحرب على المجتمع السوري التي يقودها النظام السوري.
كان من المتوقع وبعد شهور قليلة من الثورة فقط أن الديناميكية السياسية في النظام في تعامله مع الثورة ستتجلى في الأجهزة الأمنية، وقد كان واضحاً بعد استخدام الجيش في قمع الثورة في كل سورية أنه لم يعد هناك أمل في أن يحدث في الجيش السوري ما حدث في جيوش تونس ومصر أو حتى في اليمن، وانتظر البعض خروج شيء يشبه “مجلساً أمنياً أعلى” يأخذ المبادرة من قلب النظام في إيجاد حل “سياسي” ما ولكن ذلك لم يحدث، وصار البعض يتساءل هل أصبح النظام الأمني في سورية ضيقاً ومفصّلاً على مقاس العائلة الحاكمة والمالكة أو على مقاس الطائفة السياسية العلوية؟
لا شك أن الثورة ومجرياتها خلال أكثر من سنة وثلاثة أشهر فتحت أبواب سورية لعمل أجهزة أمنية عربية وأجنبية على نطاق واسع، ولكننا لم نعرف إلى أي حد وصل عملها في التغلغل في الأجهزة الأمنية السورية. وإذا كان من المقدر للنظام السوري أن “يتفسخ” يوماً من داخله، فكيف سيكون شكل تفسخ المخابرات السورية التي تشكل سلسلة العقد الجامع للمركب الأمني العسكري التجاري للعصابة الحاكمة؟
جرى الحديث أحياناً عن “إصلاح” الأجهزة الأمنية في المرحلة الانتقالية وعن دور روسي مقترح في جهاز المخابرات العسكرية تحديداً، كما تم تقديم ورقة متواضعة لرؤية المعارضة حول إصلاح الأجهزة الأمنية تتضمن كلاماً عاماً عن تقليص ودمج وإعادة النظر في الصلاحيات… ولكن كيف تفكر بعض القوى السياسية المعارضة في الداخل والخارج في التعامل مع هذه الأجهزة الأمنية في الحلول السياسية المطروحة عن مرحلة انتقالية مختلفة بوجود أو بدون وجود الأسد؟ مع من تناقش وتحاور وتفاوض هذه القوى السياسية من قادة الأجهزة الأمنية وعلى من تضع آمالها في الجيش “الوطني” وفي المخابرات “الوطنية”؟
أحس السوريون بعد تخاذل كل دول العالم “الصديقة” للثورة أن هذه الدول تحسب حسابات معينة للنظام السوري، فما الذي يخيفهم منه؟ ولماذا يخافون زواله؟ وهل المعني هنا النظام الأمني تحديداً؟ وكيف يحمي هذا النظام الأمني (أو يهدد) أمن اسرائيل وأمن تركيا وأمن دول الخليج وأمن أوربا وأمن أميركا؟ وما هو دوره في النظام الأمني الإيراني العراقي اللبناني؟
الخلاصة
لا شك أن تغيراً كبيراً قد حدث في الأجهزة الأمنية بعد موت الديكتاتور ووراثة الجمهورية خلال 12 عاماً، ولا شك أيضاً أن تغيراً جوهرياً قد حدث ويحدث في هذه الأجهزة الأمنية خلال الثورة السورية في الأشهر الستة عشر الماضية. لا أحد يرغب في إعطاء دور المخابرات السورية حجماً أكبر مما هو عليه، ولا أحد يرغب أيضاً في التقليل من أهمية المخابرات السورية فيما يحدث الآن وفي المستقبل في سورية. هناك نقص معرفي واضح في الثورة السورية في هذا المجال حيث لا نجد سوى تخمينات وتوقعات، ولا شك أن الأجهزة الأمنية للدول المختلفة تملك معلومات أكثر عن هذا الموضوع، ولكن التفكير في المخابرات السورية مهم جداً في تصور أي مرحلة انتقالية في سورية وفي النظام القادم في سورية الجديدة. تشكل الأجهزة الأمنية السورية إغراءاً كبيراً للحفاظ عليها باستثنائيتها وصلاحياتها لأي نظام قادم مهما كان لونه وشكله، فما لم تحدث ثورة جذرية تقلب النظام القديم رأساً على عقب فمن المتوقع أن تستمر المخابرات السورية بلعب دورها المركزي بشكل أو بآخر. من المهم بذل جهد معرفي أكبر في فهم دور الأجهزة الأمنية وفي وضع تصور واضح ومفصل لمستقبل هذه الأجهزة في الجمهورية الجديدة المدنية الديموقراطية التي ينشدها الجميع.