لم يكن الإعلام الدولي دائم الودّ حيال الثائرين في سوريا. لأشهر متعاقبة، تحول العديد من هؤلاء الثائرين إلى صحفيين فوريين يرصدون انتفاضتهم ويوثقون القمع العنيف الذي مارسه النظام السوري ضدها، وذلك عبر التقاط الصور وتحميل مقاطع الفيديو بهواتفهم النقالة ونشرها على مختلف الشبكات الاجتماعية. مع ذلك فإن وسائل الإعلام النافذة تنوّه دائماً في تغطية هذه الأحداث إلى عدم إمكانية التأكد من صحة هذه الصور استناداً إلى مصادر مستقلة، بما يوحي أن تلك الوسائل وحدها هي التي تستحق الثقة. ورغم أن النظام في دمشق لم يسمح بغير دخول شحيح لوسائل الإعلام الأجنبية إلى البلاد، مع متابعتهم دوماً من قبل مرافقين أمنيين، فإن ما كان يوثقه السوريون أنفسهم اعتبر غير موثوق.

مع ذلك، تجاسر عدد متزايد من الصحفيين الشجعان على التسلل إلى سوريا مجازفين بالتعرض لمخاطر كبيرة، ونشروا تقارير عن الأحداث ذاتها التي حاول النشطاء وضعها أمام أنظار العالم. وعموما كان المتمرسون من الصحفيين قادرين تماماً على التمييز بين الدعاية المباشرة لنظام يقاتل من أجل بقائه وبين المعلومات الحقيقية الصادرة من مصادر أخرى متنوعة. وفي غالبيتها الساحقة، أعطت التقارير المقدمة حول سوريا فرصة  لـ”الجانب الأخر” لإسماع صوته، وعلى الأقل أوردت وجهة النظر المعارضة، وإن بغرض تحقيق نوع من التوازن. في بعض الحالات، لم يجد الصحفيون مجالاً لمراعاة مزاعم النظام، بخاصة عندما كانوا يقدمون تقاريرهم من المناطق المأهولة بالسكان، التي تتعرض للقصف العنيف من قبل قوات بشار الأسد.

ومن حي بابا عمرو البائس في حمص، الواقع تحت حصار وقصف قوات النظام طول شهر شباط الماضي، شهدت الراحلة ماري كولفن عشية موتها بقذائف النظام على ”الوضع المزري” و”انعدام الرأفة بالمدنيين الذين لم يتمكنوا من النجاة بأنفسهم”. ومثل كولفن، قدم معظم من استطاعوا الدخول إلى سوريا الدلائل على ما تتعرض له الانتفاضة الشعبية من قمع على يد النظام، قبل وبعد أن تطور ضمن هذه الانتفاضة مقاومة مسلحة.

مجزرة داريا

روبرت فيسك، وهو مراسل حربي متمرس غطى الأحداث في المنطقة على مدى عقود، كسر هذا النسق على نحو مفاجئ، وسمح لنفسه بالانزلاق والتحول إلى شريك في حملة النظام الدعائية، بدل أن يكون شاهداً.

في 30 تشرين الأول2011، كان فيسك الذي يعمل مراسلاً لصحيفة الانبندنت البريطانية، ويعاد نشر تقاريره على نطاق واسع، ضيفاً على التلفزيون السوري في مقابلة مطولة، بدا فيها أسلوبه المباشر والحاد عادة خافتاً، وبشيء من الخنوع أشار على مضيفه بأنه يخشى أن الوقت يضيق أمام السلطات السورية لقلب الوضع لصالحها. وفي مقال مكرس في مجمله لبثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد الإعلامية، نقل عنها حكايات بالغة الغرابة، دون أن يضيف إليها بعض تعليقاته المميزة. فلم يجادل مثلاً في ادعائها بأن “المتطرفين” الذين يقودون الانتفاضة بحسب رواية النظام اتهموا خبازة مسيحية في حمص بإضافة الويسكي للخبز. خلال الأشهر القليلة الماضية، تشكلت مقالات فيسك عن سوريا من تعليقات أكثر مما هي تغطيات صحفية، مع تركيز متزايد على سيناريو المؤامرة الخارجية، ومع مثابرته على تذكير القراء بأن الحكومات التي تنتقد نظام الأسد ليست أمثلة طيبة عن الحرية والديمقراطية. هذا صحيح بالفعل في حالات عديدة، لكن ليس له علاقة مباشرة مع انتفاضة الشعب السوري التي، علاوة على ذلك، يكثر فيسك خلال تغطيته لها من استعمال المصطلحات الطائفية التي سبق له أن انتقدها سابقا بخصوص تغطية غزو العراق واحتلاله.

لكن ما كان حتى لتحويرات تحريرية وفيرة من هذا الصنف أن تبشر بقرار فيسك الصادم بأن يلتحق صحفيا بقوات النظام السوري المسلحة، وهو الذي كان صرح في وقت سابق (22 كانون الثاني 2003) بأنه “ليس للصحفيين أن ينضووا تحت جناح العسكريين”. في سورية، انضوى فيسك تحت جناح عسكر النظام السوري في حلب، مصاحبا قائد العمليات في المدينة، ثم فعل الشيء نفسه في دمشق وضواحيها الواقعة تحت مرمى نيران قوات النظام. لقد صدمت مقالته عن مذبحة داريا الفظيعة تحديدا الكثير من السوريين.

في مقاله عن المذبحة الذي نشر يوم 29 أغسطس 2012، تحدث فيسك عن تفاوض جرى بين النظام والمتمردين في داريا حول تبادل الأسرى. ويوضح فيسك أنه حين فشلت المحادثات لم يبق أمام النظام خيار غير اقتحام المدينة، الأمر الذي تسبب بمقتل مئات من سكان البلدة. ليس هناك أدنى احتمال في رواية فيسك لأن تكون قوات الأمن هي التي قتلتهم. بل على العكس، يشير دائماً إلى قناصة “المتمردين”، ويتكلم على قصف بقذائف الهاون استهدف القاعدة العسكرية التي انطلق منها برفقة قوات النظام (مطار المزة العسكري على أرجح تقدير)، ويبدو أن “المتمردين” هم من أطلقوا القذائف، ومن داريا نفسها. وهم أنفسهم أيضاً من هاجموا العربة التي كانت تقل فيسك مع نخبة من ضباط جيش الأسد عندما كانوا يخترقون داريا. والحمد لله أن العربة كانت مصفحة، فلم يصب الصحفي الشهير بخدش. كما ينسب إلى الثوار اقتحام المنازل، كسر الأواني، حرق السجاد، ومصادرة قطع غيار الكمبيوتر، ربما “بغرض استعمالها كقطع غيار تنفع في صناعة القنابل”، على ما يقول.

وهو لا  ينسب أبداً إطلاق النار إلى القوات المسلحة للنظام التي اقتحمت المدينة، بل إلى “الجيش السوري الحر” الذي يعتبره الجهة الوحيدة الممارسة للعنف. حتى أنه لا يذكر أن للجيش الحر أسباباً منطقية، من وجهة نظره على الأقل، لتنفيذ أعمال عنف من هذا القبيل. في ردها على المقال أشارت “لجان التنسيق المحلية” في داريا إلى أن فيسك لم يلتق أي معارض أو ناشط من البلدة وقت المذبحة أو في أي وقت آخر. وطوال أيام من الاتصالات بأصدقائنا في داريا لم نتبين نحن أي أثر على الإطلاق لقصة تبادل الأسرى التي نسبها فيسك إلى “سكان” في البلدة. ثم، ما هي العلاقة بين فشل مفاوضات تبادل الأسرى والمذبحة؟ ولماذا يقتل المقاتلون في المعارضة سكان بلدة هي من المراكز الناشطة للثورة السورية؟ لم يقدم فيسك أي تفسير لهذا، مكتفياً بالقول أن مقاتلي الجيش السوري الحر هم سبب فشل المفاوضات، على عكس قوات النظام التي حاولت تحرير الرهائن قبل اقتحام المدينة، بشهادة ارتضاها فيسك من الضابط الذي كُلف بالمهمة، ونقل عنه أيضاً أن الضحايا هم على قرابة بموظفين حكوميين، ومنهم ساعي بريد قتل لمجرد كونه موظفاً حكومياً.

هذه الحكاية تشبه رواية النظام عن مجزرة الحولة في مايو 2012، حيث قيل يومها أيضاً أن ضحاياها كانوا من الموالين للنظام، تم قتلهم بسبب قرابة تربطهم بعضو في مجلس الشعب. من المعروف اليوم أن هذا محض افتراء، وأن هذه المجزرة، مثلما أكد تحقيق مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في منتصف آب الماضي، هي من تنفيذ قوات النظام وعصابات الشبيحة. فهل من المعقول أن يكون مصدر معلومات الصحفي المنضوي عن المجزرة الجديدة هو نفسه “معبد الحقيقة” الذي كان قد ألهم لجنة التحقيق الحكومية حقائقها حول مجزرة الحولة؟ ومثلما هو الحال في الحولة، ليس صحيحاً على الإطلاق ارتباط ضحايا مذبحة داريا بالنظام أو قرابتهم لأعضاء الحكومة. هذا فضلاً عن أن فيسك نجح في عدم قول شيء عن خمسة أيام طويلة من القصف على داريا، وفق النسق المألوف من قبل قوات النظام قبل اقتحام أي بلدة أو مدينة، كما لم يعط حتى العدد الصحيح الموثق الكامل للضحايا: 245 في مقاله، بينما هو أكثر من ضعف هذا الرقم في الواقع.

إلى ذلك كله، يتعذر التصديق بأن فيسك لا يدرك مدى خوف سكان داريا من قوات النظام، الذي اشتهر منذ عقود بقدراته الإجرامية الاستثنائية، ليسألهم وهو في صحبة قوات النظام المقتحمة لبلدتهم عمن قتل هؤلاء الضحايا. وما يقوله عن أنه سأل بعضهم وهو على مبعدة عن قوات النظام مثير للسخرية. فمن يأت برفقة قوات النظام هو في نظر عموم السوريين، وليس فقط في عيون سكان بلدة تتعرض لمذبحة، من النظام.

إلى ذلك  أكدت مصادر موثوقة من المشفى الميداني في داريا لـ”لجان التنسيق المحلية” أن عصابات النظام هي من قتلت أهل حمدي قريطم الذي ذكره فيسك في مقالته، وقوات النظام هي من أطلقت النار أيضاً على زوجة خالد يحيى زوكاري وابنته.

زيارة السجن

كما لو أن مصاحبة فيسك لقوات النظام يوم مجزرة داريا لم تكن كافية، لم يجد الرجل ما يعترض عليه في أن يؤخذ إلى أحد السجون (أحد فروع الأمن على الأرجح)، حيث التقى بأربعة من الجهاديين: سوريين، فرنسي من أصل جزائري وتركي، متهمين بالقيام بعدة أعمال إرهابية، بما في ذلك تفجيرات آذار 2012 في منطقة القزاز في دمشق. في مكتب الضابط المسؤول عنهم، شرع السجناء في إخبار فيسك عن القصص التي يحاول النظام ترويجها منذ شهور. عند نقطة معينة، طلب فيسك من الضابط المسؤول إخلاء مكتبه لينفرد بالمعتقلين، وهو ما امتثل له الضابط ببساطة، وإن بعد حث خفيف من الصحفي البريطاني. وإذا بقي وحده مع محاوريه من السجناء الذين قدم لهم الدجاج ورقائق البطاطا، أجاب” هؤلاء الإرهابيون” عن أسئلته وشاطروه قصصهم. أبلغوه مثلاً أنهم تعرضوا لبعض “المعاملة السيئة” (وليس للتعذيب)، وفقط في اليوم الأول لاعتقالهم. وأخبره أحدهم أنه تلقى زيارة من أبيه وأمه وأخته، وهو وضع لا يكاد يحلم به السجناء في سوريا، بخاصة إن كانوا من الإسلاميين و”الإرهابيين”.لعل فيسك، وهو يستمع إلى أولئك الرجال يروون قصصهم، عَجِب لحظه الاستثنائي في أن يلتقي بجهاديين يروون بالضبط الرواية التي يفضلها النظام عنهم كأناس ينشرون الفوضى في البلد: إنهم جهاديون حقاً، بعضهم أجانب تلقنوا التعاليم الجهادية في تركيا وأفغانستان، وأنهم تأثروا بالتحريض الذي تعممه قناة الجزيرة، وبعض ناشري الكراهية من المشايخ الطائفيين، وأخيراً وليس آخرا أن أمير قطر كان يحرض على الثورة في سورية.

لافت للنظر أن فيسك لم يقل شيئاً عمن رتب له  الزيارة، ولماذا يا ترى كان هو  الوحيد الذي اختير لهذا السماح السخيّ من قبل نظام معروف عنه حظر عمل الصحفيين واعتقالهم وقتلهم (أكثر من 62 قتلوا أثناء تغطية الثورة السورية، أكثرهم  صحفيون غير محترفين من الثائرين). كما لم يهتم بحقيقة أن هؤلاء الموقوفين (إن كانوا موقوفين فعلاً، وليسو مأمورين بتمثيل دور الموقوفين بترتيب من المخابرات) يقولون ما يناسب النظام بالضبط. الواقع أن كل ما يقوله فيسك يتبع الخط الدعائي للنظام: الثوار السوريون إرهابيون، بين صفوفهم يتواجد مقاتلون أجانب، العديد منهم لصوص ومغتصبون وقتلة، وكلهم خاضعون لتأثير قوى دولية متآمرة. من المفهوم أن يحاول النظام قول هذا، لكن من غير المفهوم أن يقوله فيسك، أومن غير المفهوم ألا يشتبه بأن النظام يستغفله.

لقد قضيت (ياسين) سنوات طيبة في السجن بتهم أخف من تهم هؤلاء الإرهابيين الذين تدرب أحدهم، التركي، على أيدي جماعة طالبان في أفغانستان هذه، ولم يزرني يوما صحفي أجنبي أو محلي، أو أي جهة حقوقية دولية أو محلية. ولم يحصل مثل ذلك مع مئات من معارفي وأصدقائي المعتقلين طوال عقود. يجب أن يكون السيد فيسك موثوقاً جداً من قبل النظام حتى يحظى بهذه الفرصة النادرة. ومن معرفتي المباشرة بعالم المخابرات والسجون أقدر أن مدير السجن الذي زاره السيد فيسك عرف أنه رجل “مدعوم” ونافذ. ولا شك أنه خطر بباله أن هذا الرجل المعافى الأحمر الوجه “منا وفينا”، ولعله أعجب بقدرة النظام الذي يخدمه على تأليف القلوب. والغريب أن السيد فيسك الذي يبدو مجاب الطلبات في دمشق لم يطلب زيارة زميله الصحفي والحقوقي مازن درويش الذي لم تزره زوجته الشابة ولا أحدا من ذويه بعد 7 أشهر من اعتقاله، ولا زميله الآخر حسين غرير الصحفي الذي ترك وراءه زوجة شابة وطفلين، ولا سليل درايا يحيى شربجي (32 عاماً) المعتقل منذ عام والذي ربما كان في وسع السيد فيسك إعلامه بآخر أخبار بلدته.

وربما تسمح علاقة فيسك الجيدة بالنظام بزيارة سجون أخرى، تفيض بعشرات الألوف من المعتقلين، سجناء الضمير ممن صودرت حريتهم فقط لأنهم يطالبون بحقهم في حرية التعبير والرأي. ولكان بالتأكيد حقق سبقاً صحفياً لو فعل. بخاصة أن هؤلاء المعتقلين ليسوا أقل حاجة للدجاج ورقائق البطاطا من الجهاديين، ولربما كان من شأن الزيارة أن تعطيه فكرة أكثر أمانة عن الثورة السورية. في سوريا، قام روبرت فيسك بما نهى عنه مطولاً صحفيين آخرين. هل لأنه وقع تحت تأثير سحر النظام، تشرب مبادئه، أم فقد فجأة غريزته السليمة في الحكم على الأمور؟ أم تراه أصبح تابعاً طوعيا لدعاية النظام، ولو كي ينفرد عن غيره بهذا الموقف. الضحية الأولى للحرب ليست الحقيقة، بل المدنيين العزل، وروبرت فيسك تخلى عنهم وعن الحقيقة معاً.