ما المقصود بمعارضة الداخل ومعارضة الخارج؟ هل هذا التقسيم الرائج للمعارضة السورية، وللحراك الثوري، دقيق؟ أليس تداول هذا التقسيم في وسائل الإعلام، على اختلاف مقاربتها وتوجهها من الثورة السورية، متسرّعاً ومتعسّفاً؟ وعلى أية أسس تم افتراض هذا التقسيم؟ الجغرافيا أم الإيدولوجيا، أم أشكال العمل؟ هذه جملة أسئلة متكررة ناجمة عن استخدام واسع لهذا التمييز دون تحقق من جذوره في الواقع، كما نعتقد.

بدايةً، يُحيل هذا التقسيم بشكله المتداول، إعلامياً و في أدبيات المتابعين للسياق السوري، إلى معارضة الداخل بوصفها كتلة منفصلة عن معارضة الخارج، ليس من حيث تنسيق المواقف فحسب، وإنما من حيث الرؤى وآليات العمل. هذا يفترض أولاً: أن هناك توافق في الرؤى السياسية وأدوات العمل في الحراك الثوري بين من يعيش في الداخل السوري، من جهة، في مقابل توافق مماثل بين من يعيش في الخارج، من جهة أخرى. ثانياً: أن معارضة الداخل الموحدة، متناقضة في طروحاتها مع معارضة الخارج الموحدة بدورها. نعتقد أن كلا الفرضيتين على خطأ، وتقودان إلى قراءة خاطئة لواقع المعارضة والثورة السورية عموماً.

هذه الورقة تأتي في سياق محاولة فهم ثنائيات الداخل/ الخارج في الثورة السورية، ولقراءة الثنائية من خلال: البرامج السياسية، أساليب العمل، والوجود الجغرافي، وعلاقة هذه السياقات مع بعضها البعض. نعتقد بأن القراءة الدارجة الواردة أعلاه، تتبنّى تقسيم سياسي لثنائية الداخل / الخارج، مفترضة أن هذا التقسيم يعكس التقسيم الجغرافي. فيما نحاول في هذه الورقة التحقق من صحة هذه القراءة، وربما تقدّيم قراءة مختلفة لثنائية الداخل / الخارج.

يفترض أن تكون معارضة الداخل مُجمل القوى الحية التي تعارض النظام في الداخل السوري. يشمل هذا المعارضة التقليدية والتنسيقيات ومجموعات الحراك الثوري المدني والمجتمعات الأهلية والأفراد، وصولاً إلى الكتائب المسلحة على اختلافها. الأمر ذاته ينطبق على معارضة الخارج. التي تشمل بدورها المعارضة التقليدية وتنسيقيات الخارج وآلاف الأفراد والناشطين اللذين اضطروا للمغادرة، ومن كان يعيش بالخارج أصلاً عندما انطلقت الثورة. التوصيف البسيط لواقع الحال هذا يسمح لنا بالقول بوضوح أنه لا يوجد خلاف إيديولوجي ثابت وجلي يفصل معارضة الداخل عن الخارج.

لنفكر مثلاً بمكونات المعارضة في الخارج، من معارضة تقليدية، وناشطين، وأفراد وتجمعات من مختلف المشارب، يقدمون أشكال مختلفة من الدعم للثورة. لا نجد أي سبب منطقي للقول بأن كل هؤلاء يحملون أجندة أو حتى رؤية سياسية موحدة. ينتمي السوريون المقيمون بالخارج إلى المجتمع السوري ذاته الذي ينتمي إليه معارضو الداخل، والخلافات التي تنشأ بين معارضي الخارج هي ذاتها الحاصلة بين معارضي الداخل. إن الخلاف حول سلمية الثورة وعسكرتها، وأسلمتها، والتدخل العسكري الخارجي، والعلاقة مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، والأشكال المحتلمة للدولة السورية ما بعد سقوط النظام، والملف الكردي، هي نقاط خلافية فيما بين معارضي الخارج، تماماً كما هو الحال بالنسبة لمعارضي وثوار الداخل.

المعارضة السياسية التقليدية

إذا أخذنا أبرز التشكيلات الممثلة للمعارضة التقليدية، ونعني بشكل أساسي المجلس الوطني السوري، وهيئة التنسيق الوطنية والمنبر الوطني الديمقراطي (دون قصد إغفال التكتلات الأخرى، وإنما من منطلق إن ما سنقوله هنا ينطبق عليها جميعاً بصورة أو بأخرى). نجد أن لكل منها امتدادات تتوزع بين الداخل والخارج. لا نود الخوض في تقييم الأداء السياسي، أو البرامج المطروحة والوزن التمثيلي. ما نريد قوله هو التالي: أنها جميعاً تطرح برامج سياسية، يختلف أو يتفق معها السوريون، تبعاً لرؤاهم السياسية، وليس لوجودهم في الداخل أو الخارج.

يُعرّف المجلس الوطني عموماً بأنه “معارضة الخارج”، ومرد ذلك بشكل رئيسي إلى ظروف نشأته وتأسيسه ومزاولة نشاطه وتحالفاته وارتباطاته. وهذا التوصيف ليس خاطئاً كُلياً، إلا أن مصطلح معارضة الخارج هنا يبقى فضفاضاً. فبعض أعضاء المجلس هم من المعارضين اللذين تركوا سوريا بعد اندلاع الثورة، آخرون مازالوا داخلها حتى اللحظة. كما أن المجلس، عند تأسيسه، ضم كتل سياسية موجودة في الداخل، كإعلان دمشق. الأهم أنّ وجهات النظر السياسية التي يتبناها المجلس، تتقاطع مع آراء العديد من تكتلات الحراك الثوري في الداخل، سواء أكانت منخرطة في المجلس أم لا، في مواضيع أساسية، كالموقف من العسكرة مثلاً. في المقابل، منتقدو المجلس يتوزعون بين الداخل والخارج بالضبط كما جمهوره.

أما هيئة التنسيق الوطني، فتعرّف بوصفها “معارضة الداخل”، كونها عقدت مؤتمرها التأسيسي في الداخل السوري، إضافة إلى وجود معظم القوى التي أسست الهيئة في الداخل. في المقابل بعض قيادات الهيئة ورموزها يعيشون في الخارج. ومع كل مبادرة للهيئة، وآخرها مؤتمر الإنقاذ، تتجدد الخلافات حول برامجها السياسية المُقدمة مع قوى واسعة الطيف في الداخل قبل الخارج. كذلك الأمر فيما يخص رؤية الهيئة في عدد من القضايا، وتحديداً موضوع العسكرة.

المنبر الوطني الديمقراطي، يتكوّن بشكل عام من أفراد من المعارضة التقليدية، يعيش أبرزهم حالياً في الخارج، مع ناشطين شباب داخل سوريا وخارجها أيضاً. اختار المنبر القاهرة لعقد اجتماعاته التأسيسية، وإن كانت القاهرة هي حتماً “الخارج” بمعناه الجغرافي، إلا أنه من المعلوم أن خيار القائمين على المنبر، جاء ليبتعد عن خارج آخر موسوم إما بالتحكم بأداء المعارضة أو بامتلاك أجندات مباشرة في سوريا. وكما المجلس والهيئة فإن طروحات المنبر، تلقى قبولاً ورفضاً من قوى سياسية وثورية وناشطين يتوزعون بين الداخل والخارج.

في الحالات الثلاث، لا يوجد إجماع على أجندة موحدة تشمل أو تستقطب الداخل وتمثله وتعمل ضمنه حصراً، تقابلها أخرى في الخارج. منطق الأمور، والأهم واقع الكيانات السياسية التي تمثّل المعارضة التقليدية وتحديداً فيما يخص الطبيعة التمثيلية لهذه القوى وجمهورها، يبرهن على خطل مقولة معارضة الداخل ومعارضة الخارج.

الحراك الثوري

اضطر آلاف الناشطين إلى مغادرة سوريا بسبب قمع النظام وترهيبه. كما شارك آلاف السوريين المقيمين أصلاً في الخارج في نشاطات مختلفة داعمة ورافدة للثورة. تتوزّع نشاطات الحراك الثوري في الخارج عموماً بين العمل الإغاثي (بشقيه: دعم اللاجئين في الخارج ودعم المُهجرين في الداخل)، والتغطية الإعلامية والتوثيق ودعم العمل الإعلامي في الداخل، وأنشطة ثقافية تُعرف بالثورة وتحشد الدعم لها، وصولاً إلى تقديم معونات مادية أو عينية للجيش الحر. عموماً ينخرط السوريون في الخارج في هذه النشاطات، كلٌ حسب قناعاته ومهاراته وإمكاناته في بعض الأحيان.

أما بالنسبة للداخل، فيتوزع الناشطون بين تنسيقيات أو مجموعات الحراك الثوري أو تجمعات محلية مختلفة، تحوّل بعضهم (أو معظمهم في قراءة أخرى) إلى العمل العسكري في المناطق الساخنة. وهنا يجب التنويه إلى الدور المفصلي الذي قد يفرضه المكان في تحديد طبيعة عمل الناشطين، وهذا فارق جوهري عن الخارج. فمناطق المعارك وتلك التي تتعرض لهجمات متكررة من قبل قوات النظام، يزداد انخراط الناشطين فيها بالعمل المسلح، بل أنهم في كثير من الأحيان يجدون أنفسهم مجبرين على ذلك. أما في المناطق التي مازالت خاضعة لسيطرة أمنية صارمة للنظام، فنشهد انصراف عدد من كبير من الناشطين إلى الجهد الإغاثي، بسبب الارتفاع الهائل في عدد المُهجرين من جهة، ونتيجة التضييق الأمني وتصاعد حدة العنف في قمع المبادرات المدنية الأخرى من جهة أخرى. فيما بقي بعض الناشطين، في هذه المناطق، ملتزماً بخيارات الحراك المدني، من تنظيم المظاهرات، أو استخدام مظاهر تعبير مناوئة أخرى كإصدار الجرائد الثورية وتوزيع المناشير وبخ الجرافيتي.

تتقاطع بعض الأنشطة في الداخل مع نظيرتها في الخارج وبخاصة في مجالات العمل الإغاثي والطبي، والنشاط الإعلامي وتوثيق الانتهاكات. وكما هو الحال في الخارج، فإن انخراط الناشطين في فعل محدد إنما تمليه القناعات والمهارات والإمكانيات المُتاحة. فبينما لا يتحفظ البعض على الانخراط بالدعم اللوجستي والتعاون مع الفصائل العسكرية، هذا إن لم يتحول بعضهم إلى حمل السلاح أصلاً، فإن البعض يفضل تجنب العمل مع الفصائل العسكرية على اختلافها، إيماناً منهم بأن العسكرة هي مُعيق لمسار الثورة، أو اعتقاداً من البعض بضرورة الإبقاء على الفصل الواضح في خيارات العمل الثوري.

داخل\خارج: بين البرامج السياسية، طرق العمل، والوجود الجغرافي

يصح إذن القول بأن تقسيم داخل/ خارج، حين الحديث عن المعارضة (المعارضات) في سوريا يجب أن يُحصر بالمفهوم الجغرافي، لا أن يعكس تباين أجندات داخلية / خارجية كل منها يشكل كتلة موحدة ومتماسكة تقابل وتناقض الأُخرى. إن توزع المعارضين والناشطين بين الداخل والخارج لا يمثل البتة توزعهم على أجندات سياسية مُحددة بفعل التقسيم الجغرافي هذا. فالقراءة الموضوعية لكيانات المعارضة التقليدية، ولقوى الحراك من تنسيقيات وتشكيلات مختلفة، وحتى لكتائب الجيش الحر، تجعلنا نتبنى مقولة معاكسة: في سوريا يوجد برامج ورؤى سياسية متباينة، تتبناها قوى سياسية مختلفة، داخل وخارج سوريا على حدٍ سواء.

التقسيم بين معارضة الداخل والخارج يصح بالمعنى المكاني فقط، وما يستتبعه من أدوات العمل والاستعداد للتضحية ربما. فمن المعلوم أن اشتداد الخطر المحدق على ناشطي الداخل، مثّل عاملاً أساسياً في خلق ثنائية “داخل/ خارج”، لتتراوح جدالات قطبي الثنائية بين غضب الداخل (المُتحمل لأعباء الخطر اليومي والمباشر) على إدعاء وعدم فاعلية الخارج (الذي ينعم قاطنوه بأمانٍ واستقرارٍ نسبي)، وبين العتب الموجه من الداخل إلى الخارج بسبب التقصير في الدعم المعنوي والمادي. مهما يكن، فلا شك بأن ثوار الداخل (من ناشطين مدنيين وأطباء وصحفيين وسياسيين وعسكريين….الخ) يملكون قصب السبق في قيادة الحراك الثوري، فلدورهم فاعلية مباشرة، لا يمكن إنكارها، كما لا يمكن إنكار أن عموم  مبادرات نشطاء الخارج لا تقوم إلا بالارتكاز عليها. وحتى في مجال السياسة، وهو المجال الحيوي العابر للواقع الجغرافي هذا، فإن حقائق مُخيبة لا يمكن إغفالها تفيد بأن المشتغلين في هذا الحقل (من تشكيلات وأحزاب وأفراد) ممن هم في الخارج، قد فشلوا إلى حد كبير في استغلال ظروف أكثر أمناً، ومجالات حركة أكثر مرونة لخلق مظلة موحدة في المفاهيم العامة ومُقنعة لعموم الشارع السوري، كان من شأنها قيادة أو توجيه الحراك الثوري.

نخلص هنا مجدداً إلى القول: أن قراءة التقسيم داخل/خارج على أساس إيديولوجي هي قراءة مغلوطة ومُضرة بالثورة وبتنوع أدواتها. هذه قراءة لا تخلط الأمور إما بسذاجة أو بقصد فحسب، وإنما تكرس مسعىً جاهد النظام لتكريسه في خلق فصل بين المعارضات السورية من شأنه أن يمنح النظام دور الخصم والحكم، فهو من يسبغ صفة الوطنية والحرص على البلد على من يراه “معارضة داخل شريفة”، وهو من يطلق صفات العمالة والإرهاب والتخريب على “معارضة الخارج المأجورة”. يصبح التقسيم هنا معيار النظام في خلق معارضة على هواه وقياسه.

للواقع ظروفه الموضوعية، وللثورة تحدياتها الكثيرة، كلا الأمرين يحتّمان أن تتناسق وتتكامل جهود السوريين في الداخل والخارج لإنجاح الثورة. خلافات السوريين المعارضين العابرة للحدود حول العديد من القضايا تبدو بهذا المعنى مؤشراً إيجابياً، إنه أحد أوجه التأكيد على زيف التقسيمات الأيدولوجية القائمة على ثنائية داخل /خارج. هناك سوريون في أستراليا يشاطرون سوريين في حلب موقفهم الداعم لعسكرة الثورة، وهنك سوريين في كندا يشاطرون إخوة آخرين في حلب أيضاً موقفهم المشكك بجدوى العسكرة! هذا اختلافٌ مشروع بل وضروري فهو يغني الثورة ويمنحها آفاق وديناميكيات متجددة. الاختلاف بهذا المعنى هو أيضاً تأكيد على سقوط سلطة الأبد حيث الرأي الأوحد السديد والكُلي المعرفة، وحيث لا يملك السوريون أصواتاً فريدة ومتنوعة تليق بهم وبتنوعهم الغني. هذا أصبح من الماضي الآن.