في لقائك بالسوريين، المنخرطين بشكل أو بآخر بالثورة، في الداخل أو على التخوم، تلتقي بجوانب الثورة نفسها، بحلوها و مرّها، بديناميتها وسكونها، بمأساتها وملهاتها، بهزلها الكبير تجاه لعبة المصائر الكبرى وبترفها وانشغالها بالصغائر وترهاتها. على الحدود قد تلتقي بأطباء قرروا التفرغ جزئيا أو كليا للإهتمام بشؤون الجرحى من الثوار والمدنيين، يبدو عليهم الحماس والانشغال التام. تشعر أحيانا بأن الثورة قد أنزلت جموع الأطباء من عليائهم، التي تحصوا عليها ليس فقط من علومهم ومثابرتهم في الإختصاص ولكن من الدرجة الإجتماعية الرفيعة التي أولاها المجتمع للطبيب بشكل عام. لم يعد للطبيب تلك القيمة من الإعتبار “غير المستحق” أحيانا، إلا بالقدر الذي يقوم فيه بعمل ما، يخدم بعضا من الآلاف ممن ضاقت بهم المطارح والمشافي التي طاولها القصف والإقتحامات الشرسة التي لم ترحم أحد. في إختلاطهم بالثائرين المسلحين، بالثكلى والجرحى، تشعر وكأن الأطباء قد إستعادوا دورهم الإنساني المفقود جزئيا أو كليا، خارج مدارات المال والسلطة والوجاهة الإجتماعية، وخارج مألوف صورة الطبيب- البزنس مان، الذي أثقل كاهل جموع المعايدين الفقراء في أزمنة التفاوت الطبقي الواضح التي أسبغت أزمنة الأسد الإبن، بطلاء قاتم لا يعرف الرحمة. إلا أن هناك غصة كبيرة تعتمل في النفوس. مدينة كاملة هجرها أطباؤها، بعضهم لأسباب كانت وجيهة تماما، ولم تعد كذلك بعد التحرير الكامل، اللهم إلا إذا استثنينا صواريخ الأسد وقذائفه بعيدة المدى، بالإضافة إلى القصف، قائم الحدوث في أية لحظة. رغم ذلك تجد طبيبا ترك المال والجاه في أرض الحجاز، ملتحقا بالثورة، وساعيا بين “صفا” المناطق المحررة المكلومة و”مروة” المراكز الطبية التركية، الفائضة حتى الثمالة. رأيته للحظات، كان هادئا تماما، يستقبل طفلا يعاني من إصابة شديدة في البطن، من خلال دردشة بسيطة عرفت أنه صاحب اختصاص كالذهب الخالص: الجراحة العصبية والعظمية! في سؤالي عن سبب قراره المجيء هنا أجاب بشيء من الإقتضاب وهو يعاين الجرح الكبير النازف للطفل: اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا!
معالم السوريين لا تنتهي. قد تصادف امرأة يبدو عليها حسن الحال، قفلت راجعة من ولاية تكساس (على نفقتها الشخصية) للمساهمة في أمور تنظيمية ومالية تخص شؤون اللاجئين في المخيمات أو أحوال الجرحى والمصابين في المشافي التركية. يملؤها نشاط وعفوية، وقوة شخصية تحسد عليها. تناقش الأطباء والنشطاء الشباب الملكلفين بجمع المعلومات من عائلات اللاجئين وتصر على جدولة المهام والبيانات لتنظيم ما يمكن، بصرامة محببة. في اليوم التالي وإذ بها للصدفة تشارك في مظاهرة حافلة يوم الجمعة في إحدى قرى إدلب الملتهبة. كانت تلبس”تي شيرت” عليه علم الثورة وتلف رأسها بكوفية سوداء (سلك مدقق بأبيض و أسود)، وبنطال خاكي بلون العسكر، بمظهر تبدو فيه كإحدى ثائرات الإنتفاضة الفلسطينية الأولى. اعتلت المنصة الرئيسية وباشرت بتحية المتظاهرين الذين رددوا هتاف درعا الخالد ورائها “الموت ولا المذلة”، بقوة وحماسة كبيرتين. بعد ترجلها من المنصة بادرتها بالمزاح بأن من رآك ليلة أمس لا يمكن أن يصدق أنك ذات الشخص الذي يقف أمامه الآن، وبهذه الكوفية الجميلة خاصة. قالت لي شكرا وهمست في أذني أن “مكره أخاك لا بطل”. طلبت التوضيح أكثر. لقد أخبرها الشباب بأن عليها أن تغطي شعرها ورأسها، إذا ليس من الملائم أن تخرج هكذا في المظاهرة! “بصراحة كتير متضايقة، بس حسيت إني لازم شارك ووجه رسالة، بعدين البيئة محافظة شوي، لازم الواحد يحترم الناس كمان”. بعد هتاف درعا، التفتت إلى النسوة المشاركات على يمينها وحيّتهم وكل نساء الثورة، قوبلت بعدها بتصفيق يليق بها!! هناك أيضا سلاسة ما في الأمور التي عادة ما تؤخذ بصرامة مضحكة!
في بعض الأحيان تصادف أشخاصا غريبو الأطوار، بعضهم يملك درجة غريبة من الثقة بالنفس والإعلاء من شأن الذات، تقارب حدود الأعراض المرضية و”البارانويا” ذات العيار الخفيف المحتمل، والممتع أيضا. في جلسة صاخبة لأشخاص جاؤوا من حلب قام رجل في الستينيات من العمر بمقاطعة الحديث الذي كان يدور حول سير المعارك مع قوات النظام. بنبرة صوت حادة ومرتفعة، بدأ يصب جام غضبه على “الخطأ” القاتل الذي وقع فيه مقاتلو الجيش الحر، إذ لم يأخذوا بنصائحه وهو الخبير العتيد بشؤون الحرب، كونه كان محاضرا في الكلية الحربية وضابطا سابقاً في القوات المسلحة. بعد استرسال مفرط من “تكتيك” إلى آخر وأمثلة من “أحد” إلى “أم المعارك” (ما غيرها)، لا رابط بينها سوى أفكاره، وإذ به يضرب بقوة على طاولة الحضور بيديه، ثم أتبعها بالجملة التالية: “أنا لو سلّموني معركة حلب، كنت خلصت القصة بأسبوع!”. بعدها ساد هرج ومرج لم أعد أعرف بعده إن كان الحديث يدور فعلا عن حلب أم غرناطة! رجل آخر كان يحمل جهاز لاسلكي ويتحدث به طوال الوقت عن الثورة والثوار، اعتقدت لوهلة أنه أحد قادة الكتائب المقاتلة. سألته بود عن سبب انشغاله الدائم وحمله للجهاز في ترحاله. فاجأني بأنه يستخدمه للتواصل مع عائلته وزوجته، بسبب انقطاع الاتصالات أغلب الوقت، وأن ليس له علاقة بالقتال، لا من بعيد ولا من قريب!
أن تعيش الثورة من الداخل، يعني من ضمن ما يعني، أن تحاول أن تكون جزءا منها، سارقا لحظات شخوصها ومتقمصا اتجاهاتهم وتماسهم مع الواقع. الصورة ليست هي نفسها تلك الصورة المفترضة والتي تم تشكّل أجزائها من موزاييك شديد التباين، تتشارك في تشكيل وحدة “ذهنية” وتصورات عامة قد يجانبها الصواب أحيانا، ولكن تبقى أسيرة الحالة المراقبة عند بعد، دون تدخّل ما. ضمن هذا السياق، لا يعود مقاتلو الجيش الحر وكتائبه ذات الأسماء التي أضحت مثار نقاش كبير، لا يعودوا صورا من القوالب الجاهزة التي تبنى على آراء لا تبتعد عن “إطارات شاشات الكمبيوتر” في مساحات العوالم الفيسبوكية التي تحضّ على الإدمان، أكثر من حضّها على التفكير، وإنما يقترب المرء من عوالم لها ملامح وحكايات، لها طبائع وروايات. كان “الجيش الحر، بقضه وقضيضه” (انظر الجزء الأول) محاولة خجولة للدخول إلى هذه العوالم أو أجزاء منها ومحاولة التمتع بالمشهد من داخله، كشرط “لازم، ولكن غير كاف” للبدء بفهمه وتجميع أجزاءه المبعثرة بين الفضاء الإلكتروني والواقع العياني، ذي الأوجه المتعددة والمتباينة أحيانا. رغم كل ما قيل، تظل ظاهرة “الجيش الحر” و”الكتائب المسّلحة” إحدى أهم نتاجات الثورة وأكثرها مدعاة للأمل والقلق على حد سواء. لا نحتاج إلى كثير من نباهة “استراتيجيي الفضائيات” حتى نعرف أن عسكرة الثورة كانت “شرا لا بد منه”، لا بل وواجبة أيضا، اقتضتها ظروف داخلية بالدرجة الأولى وخارجية إلى حد ما، ليس أقلها مرارة حكمة السياسة البلهاء أن “موتوا بغيظكم، فلن نتدخل”. يبقى الأمل بما بعد السقوط المدوي بحدوث إجماع وطني ومؤسساتي ما، يقنع من تسلّح طوعا أو كرها بأن حقب”الأسود” العفنة لم تكن سوى سحابة صيف دامية، وأن السلاح لم يعد له وظيفة، سوى لتزيين الخزائن محكمة الإغلاق!
بعد رجوعي بفترة سألني أحد الاصدقاء الألمان عن رأيي في أن جيلا سوريا كاملا من الأطفال يعاني من الصدمة النفسية وبحاجة لإعادة تأهيل ما. قد تبدو الصورة كذلك وهناك الكثير مما يشير إلى أن الأطفال في سوريا هم أكثر الفئات العمرية التي طالها الأذى النفسي من تداعيات العنف الهائل الذي مورس ويمارس، يسأل عنه إلى حد كبير أهل النظام ومليشيات الموت التابعة له، إن لم يكن هو المسؤول الأوحد عنه. للأسف تبدو صورة الأطفال “مراقبي السماء” بقلق (انظر الجزء الثاني) الصورة الأكثر قتامة في المشهد السوري. لأنها ببساطة تخص مستقبل أبناء البلد، ممن سيحملون إرثا هائلا، ليس من الأحقاد فحسب ولكن من الآلام النفسية والجسدية أيضا. تعلمنا تجارب الشعوب الأخرى التي عاشت أهوالا مشابهة من الدمار والقتل والحروب الأهلية بأن الزمن ليس كفيلا بحل الصراعات والأزمات النفسية التي استوطنت عقول الأطفال وسلوكياتهم. إلا أن نفس تلك التجارب تعلمنا أيضا بأن طاقة الإنسان، وإن كان صغيرا، لا حدود لها وخاصة في مقارعة الألم وصنوفه المرّة. يكفي أن أتذكر “فرقة الأطفال” الغنائية من اللاجئين وهي تصدح بأغنية مهداة للساقط بشار، بينما كانت السماء ترعد بطائرات تحمل أوهاما وبراميل متفجّرة، حتى أعرف أي قوة يملكها هؤلاء الأشدّاء الصغار. مرة أخرى ستكون المرحلة التالية لسقوط الطاغية هي المفتاح الأهم على دروب التعافي النفسي والإجتماعي لجيل من الأطفال رأى وعايش ما لا يحتمل وما لا يجب أن يحتمل. لن يكون ممكنا إعادة “الأعمار” من الآلاف المؤلّفة التي أزهقت من الآباء والأمهات والأقران والرفاق لأطفالنا، ولكن يجب على كل معني بـ”اليوم التالي” أن يدرك أنّ إعادة “الإعمار” النفسي والجسدي والإجتماعي لأطفالنا ويافعينا، هي المهمة الأكثر إلحاحا والأجدى نفعا حتى تستطيع البلاد الوقوف على قدميها في السنوات المقبلة، وحتى نستطيع كآباء ومربين أن نمحو آثار حقبة “طلائع البعث” الهمجية، مرة واحدة وإلى الأبد!
وأخيرا أود أن أنهي بما بدأت:
لقد شاءت لي الأقدار أن أدخل إلى بعض المناطق المحررة في سوريا. كانت تجربة روحية و فكرية ملأى بالكثير، قررت أن أرصدها بكلمات وسطور. من نافل القول التأكيد على أن هذه التجربة “ذاتية” بحتة ولا يستقيم معها التعميم على جميع المناطق وعلى كل الحالات، كما أنها لا تعكس إلا جانباً واحداً من واقع متعدد وثري، لا يمكن رصده من زاوية محددة أو حادّة. إن زيارة المناطق الثائرة تعكس جوانب الثورة نفسها من تنوع فائق يطال كل شيء. إنه الزمن السوري الجديد بكل ما يحمل من تحديات وفضائل، بكل ما يحمل من ألم ومعاناة، بكل ما يحمل من وقائع صادمة وآمال رست على شواطىء لا تخصّها. لا تكفي بضعة أيام للتعرّف على بقعة ثائرة على التراب السوري، إلا أنها كافية تماماً ليعرف المرء أن عقارب الزمن لا يمكن إعادتها إلى الوراء.
تحفظّت شيئا ما على ذكر بعض المناطق أو الأسماء الخاصة بالأشخاص أو الكتائب، وذلك لضرورات أمنية وأخرى أخلاقية. كل خطأ أو “خطيئة” وردت بين كلمات هذا النص وتلك النصوص لا يتحمّل مسؤوليتها إلا كاتب المقال نفسه. فـ”هكذا بدا لي العالم”…!؟