أصبحت تتقيأ الدم، بعد يومين من الحمى والإقياء المتواصل. لا صيدليات طبعا، بل لا بقاليات مفتوحة… أما الأطباء فمهددون بالقتل إن استجابوا لقسم أبقراط. ابنتي الصغرى لا تزال تئن… الحركة في الشارع
صفر تقريباً. هاهو عجوز في الثمانين قطع شارعاً واحداً في ثلاث ساعات، يمشي خطوتين ثم يجلس غير آبه بالقذائف أو الرصاص. ما الذي أخرجه في هذا الوقت؟
قالت زوجتي مخمنة: زار ابنه، ثم حنّ إلى داره، منعه الابن إلا انه أصر لأن الأعمار بيد الله!
القذائف الصاروخية تتساقط بمعدل واحدة كل خمس دقائق منذ أن وصل لافروف وصول المنتصرين إلى “المتحلق الجنوبي”. تصدر أصوات انفجارية على أربع مراحل، لعلها قنابل مكسيكية، لعلها تلك التي تدعى بالفراغية، كنت أفكر في أنّ الحداثة الموقرة منكوبة لأنها لم تخترع صواريخ مطاطية؟ سقطت منها سبعة على بعد مائتي متر من الدار، فارتجت وسقطت الساعة الجدارية وسكتت عن عدّ الزمن. جميعنا صرنا نسعل من البرد إلا زوجتي. السخّانة الكهربائية لم تعد تجدي، خاصة مع تقطع الكهرباء، البراد تعطل لنفس السبب، اتصلت مراراً بالشركة فأعطتني رقم عامل الصيانة. اتصلت به فاعتذر عن المجيء إلى حارتي، وقال: حارة خطرة… شحنات الذخيرة، لا شحنات الدواء والخبز، تدخل إلى حمص مارّة من تحت الشرفة. قررت الهرب بعد إلحاح من الأهل والأصدقاء، فوافقت زوجتي أخيراً. لمَ كانت تماطل؟ هل هو المثل الانكليزي: لا مكان كالبيت. أو المثل العربي المصري: من فات داره قل مقداره! أم أنهم كانوا لا يريدون أن يتركوا حمص وحيدة، أم أنهم استأنسوا القذائف والموت وعقدوا معه عقداً اجتماعياً. هربت من حمص العدية في اليوم التاسع من شباط الأخير. الشباط الأخير للاستبداد طلبت من جاري يوسف طلبي… كان يبكي؟
قال: قتل صديق لي هو وهو زوجته وابنه ذبحا في المساكن الغربية! نسيت أن أعزيه… أخبار من هذا النوع باتت عادية. طلبت منه إخراجنا من حمص بسيارته، فوافق على إخراجنا إلى شنشار… قال: عسى أن يكفينا الوقود. أكثر ما أغاظني هو إصرار ابني، ونحن نعد الحقائب، على تسريح شعره و”تجليله”، بالمصبرات والدهون ومحنطات الشعر. ضبطت رغبة قوية في لطمه على وجهه. كانت الصواريخ تنهال على بابا عمرو.. ومع كل صاروخ أحس بلطمة في جوفي الفارغ.
اقتنعت بعدم جدوى عدّ الدبابات و شاحنات الذخيرة الداخلة إلى حمص. والحاجز تحت شرفة الدار بات هدفاً للثوار… يطلقون على الحاجز طلقة فيردون بمواويل من النار ذات الصليل.
قررت النجاة. القصف كنا تعودنا عليه. قنبلة فراغية أسقطت لوحة جدارية تحمل عليها لفظ الجلالة على سرير ابني، فحمت الوسادة بلورها من الكسر.
تعرفت مؤخرا إلى قطة أسميتها ثورة، ثم وقعت في غرامي. وهي قطة “براوية” تعيش من الزبالة. ملونة مثل كرة من الصوف المُشكّل، تشبه نمراً صغيراً، وهي حامل وبطنها ثقيل تجره على الأرض. في المرة الثانية من إطعامها استسلمت لمداعبتي وتمسيداتي على ظهرها، فباتت كل ما رأتني تحك جذعها بدراجتي وبحيطان ساقي. ثم رضيت أن أحملها، لعلها المرة الأولى التي تُحمل فيها بين حضن أنسي. وفي المرة الثالثة لإطعامها صعدت الدرج وهي تحمل بطنها الثقيل إلى الطابق السادس! مع استراحة عند كل طابق، كان ذلك جهدا شاقا على عقد صداقة يتم إبرامه! كنت أخشى أن أصعدها معي في المصعد لسببين: أن تنقطع الكهرباء بي وبها، أو أن تفهمني غلط! المهم أنّ علاقتنا وصلت إلى أنها عند مغادرتي الدار للتسوق كل مرة تلحق بي مسافة شارعين وهي تموء و تستغيث وتتهمني بقلة الوفاء والغدر.
جاري طمأنني أنهم يقصدون أحياء بعينها: بابا عمرو والإنشاءات والخالدية، لكني أرى القذائف من نافذتي في الطابق السادس تصل إلى القصور والغوطة. الحاجزان اللذان كانا على الطريق لم يباليا بنا، فهم أيضا يخافون. اقترب أحدهم منا، فصافحه يوسف بيديه الاثنتين مجاملة وتوددا… وقال: برد! قال رجل الأمن وهو ينبش شيئا في عيني يوسف: ما في برد! وصلنا إلى محطة الوقود، فنزلت من السيارة بعد أن أزحت حاجزاً. المحطة خالية من السيارات… دخلنا إلى غرفة صاحبها. كان يتدفأ ويفتح الفأل بورق الشدة (“الكوتشينة”). أحسست ببعض البلل يتسرب إلى حذائي… بلل أمطار الليلة السابقة. لعل حذائي قد ثقب بمسمار أو زجاج مكسور.
قال صاحب المحطة: لا توجد نقطة بنزين واحدة. ترجيناه، فأقسم أن المحطة خالية. قدرت، بإحسان ظن أن الحكومة تتجنب إرسال شاحنات وقود خوفا عليها، فطلقة قد تتلف صهريجاً كاملًا.
سلمت جاري مفاتيح الدار في حال طلب التفتيش وأوصيته “بثورة”؟
قال: ثورة؟
قلت: القطة.
ابتسم، وقال: على رأسي!
انتظرنا نصف ساعة في شنشنار حتى وقعنا على باص عابر.
في الطريق، الجنود منتشرون في كل مكان ودبابات صفراء اللون، وهي دبابات أحدث من التي أعرفها ومدرعة بكتل حديدية داعمة تجعلها كالقلعة… وصلنا بعد ساعة إلى جسر المزارب في حماه، نزلنا، استقبلنا رجال مخوذون ومسلحون وراء دشم وسواتر. طلب رجل أمن بطاقتي. فحصها بعين الخبير، حتى خيل إلي أنه يبحث عن صفحة ثانية أو صفحة داخلية ، أو ما تحت السطور، يحاول أن يقرأ ( د ز ن أ). بنفس العين فحص بطاقة ابني ثم عبث بشعره المسرح على طرز الحداثة… فشعرت بالإهانة. ابني لم يستنكر… قال أن هذا الأمر حصل معه كثيراً.
أوصى الجندي السائق بنا. قال: أقربائي. لكن السائق لم تعنِ له التوصية شيئاً، بدا غير مبال به، ثم قاد السيارة وكأنها دبابة معطوبة انتهت ذخيرتها…
وصلنا… خلعت حذائي فكانت بقعة من الدم في أسفل الحذاء!
اتصلنا بالطبيب، وهو خال ابنتي، فجاء سريعاً. حقنها بإبرة مضادة للإقياء فتحسنت. بعد ساعتين قبلت أن تأكل نصف موزة. شربنا جميعا من زجاجة مضاد للسعال فخمد السعال. في السابعة مساء قصصت أظافري، وحلقت شعري، على ضوء “اللوكس”. بجانب مظاهرة حموية تهتف الهتافات المعروفة. المظاهرة كلها شباب دون العشرين يبلغ عددهم ألفاً. وقفت في المظاهرة قليلًا… في العاشرة بعد الاستحمام، كنا نتسلى بالموالح ونحن نتفرج على صيحات استغاثة الطبيب محمد المحمد من بابا عمرو.