الثورة السورية ليست معصومة. الثورة تخطئ. لكن الثورة ليست خطأ. إنها الصح الأكبر الذي صنعه السوريون منذ نصف قرن.
الثورة هي جملة أفعال المقاومة التي مارسها ملايين السوريين خلال نحو عام ونصف من الثورة، مقاومات اجتماعية وسياسية وعسكرية قام بها سوريون مثلنا، يرتكبون الأخطاء والخطايا مثلنا، ليسوا ملائكة ولا قديسين. ومن الثورة، وليس من خارجها أو من فوقها، أنشطة وأفعال تعترض على بعض ممارساتها، مع ما هو معلوم من الطابع اللامركزي، بل “الفوضوي” للثورة السورية. ليس هناك أي ضمانة بأن تتناسق هذه الممارسات ذاتيا أو تُسيِّرها “يد خفية” ما نحو التوافق مع قيم العدالة والمساواة والحرية. فرصة هذا التوافق أكبر له كلما تطور ضمن الثورة ممارسات تقوم بدور الضمير، تراقب وتعترض وتحتج.
ليست الثورة شخصا مزودا بوعي وإرادة موحدين (الأشخاص أنفسهم قلما يكونون موحدي الوعي والإرادة، والصراع قائم في قلب كل إنسان)، ولا هي حزب أو عقيدة أو تيار متماثل مع ذاته دوما. ولا هي عجل مقدس مثل “المقاومة” التي جعل منها حزب لبناني معروف نهجا لتقديس ذاته وتوقع حظوته بتكريم خاص من الجميع، وذريعة للوقوف إلى جانب النظام الأسدي القاتل.
من شأن قيامنا بذلك اليوم أن ينزع القداسة عن الثورة ويؤنسن أنشطتها أو ينظر إليها كأفعال بشرية، معرضة، ككل الأفعال البشرية، للزلل والجور والعدوان. بالعكس، يمكن لإضفاء القداسة على الثورة أن يؤسس لسلطة مطلقة، تستمد شرعيتها من هذه الثورة المقدسة، وتستأصل من لا يوافقها القيم، بمن فيهم غير قليل من الثوريين أنفسهم. سيكون الأكثر ثورية هو من يزايد في تقديس الثورة، وهو ما يمر حتما بتدنيس أو تخوين غيره. ومن وراء عبادتها على هذا النحو، يتخذ أشخاص مبرؤون من الوساوس الأخلاقية من الثورة مطية لإشباع مطامحهم السلطوية وحيازة سبق على غيرهم. هذا مألوف في تاريخ الثورات، العنيفة منها بصورة خاصة (سواء كان العنف اضطراريا أو اختياريا)، وهي لذلك توصف بأنها تأكل أبناءها. هنا أيضا فرصتنا أكبر في اجتناب الأسوأ من هذه الاحتمالات بقدر ما تحاسب الثورة ذاتها اليوم أو تظهر لها “نفس لوامة” تحاسب “نفسها الأمارة بالسوء”.
ينبغي الإقرار أن احتمالات النجاح في هذه المهمة ليست أكيدة في ثورة مجتمع معنّف طوال عقود، ووجهت بعنف مجنون من قبل نظام عدواني، ودفعت إلى المواجهة بالعنف. لدينا هنا مستويات متعددة من الغضب، ليس الغضب من النظام القاتل غير أكبرها. هناك غضب المقيمين ممن غادروا أو من هم أصلا في الخارج، وغضب المعتقلين ممن لم يعتقلوا، وغضب من يقعون تحت القصف على من يسكنون في مناطق هادئة، وغضب الثوار الميدانين على “ثوار الفيسبوك” والنت، وغضب المقاتلين على غير المقاتلين. وغضب النازحين الداخليين، وغضب اللاجئين، وغضب أهالي الشهداء، وغضب المناطق التي تعرضت للمجازر والدمار. تحت السقف السوري كثير من الغضب الذي قد يتفجر عنفا متعدد المستويات بدوره. ونحن السوريون لا نملك لغة عامة مشتركة، يقبل جميعنا التعبير عن نفسه بها. والافتقار إلى اللغة العامة ربما يبقى التفاعل بين السوريين أسير الانفعال والغضب والعنف طوال سنوات. وهو ما يعززه أيضا تواضع مستوى النخب السياسية في بلدنا بفعل قلة الممارسة.
ومن شأن مزيج الغضب والعنف والضعف السياسي وغياب اللغة المشتركة أن يفتح بابا للأخطاء والمآسي الكبيرة، يسهم تقديس الثورة في أسرنا في دائرتهما، وليس في الحد من مخاطرهما. ولذلك فإن مقاومة تقديس الثورة فعل ثوري أصيل، فيما يمهد تقديس الثورة اليوم لمصادرتها بعد سقوط النظام.
الثورة عملية تأسيسية، كسر عنيف للدوام القائم وخرق جذري للشرعية القائمة، وهدم بالغ الشدة للبنيان السياسي والاجتماعي والقانوني واللغوي القائم. ويتواتر في التاريخ أن تكون عملية الكسر هذه عنيفة. وكلما كانت مقاومة الأوضاع القائمة أشد، وكلما حاول القائمون عليها إطالة عمرها بالعنف، كان مرجحا للثورة أن تكون أشد جذرية وعنفا. هذا أيضا ينال من جهودنا لضبط هذه العملية الكبرى الجموح التي لا تتكرر كثيرا في تاريخ المجتمعات. من حيث نطاقها وعدد المشاركين فيها ونسبتهم من السكان وحجم الانفعال والعنف والدمار المواكب لها، والذي يبدو سائرا في اتجاه التصاعد إلى مدى لا نعلمه، الثورة السورية هي أكبر حدث تاريخي عرفه بلدنا منذ نشوء كيانه المعاصر قبل نحو قرن.
لكن للفاعلية التأسيسية للثورة وجها آخر، بنّاءاً، يحيل إلى ما نقوم به من أنشطة إيجابية، ما نؤسس له من استعدادات وعادات جديدة. تجاربنا اليوم هي تراثنا وتقاليدنا غدا. والثورة تحطم تقليدا وتؤسس لتقليد جديد. قام النظام الأسدي على الاعتباط والعنف السائل والتمييز، والثورة تقوم من أجل القانونية وضبط العنف والمساواة. هذا يقتضي منا العمل على مقاومة الأفعال والنزعات المتعارضة مع قيم الثورة، بخاصة تلك التي تجعل من الثورة عنفا تدميريا أعمى أو التي تنساق نحو الثأر، وإبدال تمييز بتمييز.
لسنا مترصدي زلات، ولا طالبي كمال. إننا مشاركون بالثورة بوسائلنا المختلفة، ننصرها مظلومة في كل حال، وننصرها ظالمة بالأخذ على يدها.