ليست حذلقة في التعابير. هو نحت لغوي اجترحه علماء السياسة والاجتماع، في أمريكا خاصةً، في نهايات القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة للإشارة إلى حقل في الدراسات السياسية، يُعنى بسيرورات الانتقال الديمقراطي وصعوباتها وخصوصياتها حسب الثقافة والتاريخ الخاص لكل منطقة، وبالمتطلبات المسبقة للانتقال الديمقراطي مثل تطور المجتمع المدني أو نضوج النظام الاقتصادي الذي يستدعي إصلاح النظام السياسي، ويحاول رصد آليات لانتقال الديمقراطي الناجحة لصوغ توصيات مؤسساتية ودستورية للديمقراطيات المستقبلية. وقد ازدهر هذا المنهج في الفكر السياسي (الثقافوي بعض الشيء) خاصةً، عند استعصاء «الجزيرة» العربية عن «الموجة الثالثة للديمقراطية». كانت دورية «Journal of Democracy» من أهم المنابر التي استضافات كتابات الانتقالوجيا وكتابها.

اليوم، وعند رصد سيرورات الانتقال الديمقراطي في كل من تونس ومصر وليبيا، وأخيراً بعد الإعلان الدستوري للرئيس مرسي في مصر، يعود سؤال الخصوصيات إلى البروز: هل يكتنف الانتقال الديمقراطي في منطقتنا صعوبات من نوع خاص؟ ثقافات سياسية أبوية؟ ميل فطري عند العرب نحو السلطوية، عدم توافق الإسلام مع الديمقراطية؟ هل نحن جاهزون للديمقراطية أم علينا تحقيق متطلبات مسبقة وبطريقة ميكانيكية خطية قبل الانتقال إلى الديمقراطية؟

الكثير من المتحفظين على الربيع العربي والمتخوفين من بروز الإسلاميين ميّالون لأن يعتبروا منطقتنا بخصوصياتها الدينية والمجتمعية والثقافية غير جاهزة لهكذا انتقال. وغالباً ما يوحي هذا الميل بأن الثورة ينبغي أن تكون قطعاً حاداً ينقلنا من حالة سكون إلى حالة سكون جديدة إيجابية ومتناغمة حكماً حتى لا نقول طوباوية.

الثورة ليست إلا قطعاً مع اللاسياسة ودخول في السياسة. وهل السياسة إلا هذا الاعتمال والاختلاف والسجال واللاتناغم؟ وهل نحتاج إلى دروس توكفيلية كلاسيكية لنفهم أن الديمقراطية ليست ورداً وعسلاً ومنتهىً ولكن شرط صحي للسعي نحو عدالة أكبر وحرية أكبر؟ هل نحتاج أن نعرف أن «الإجراء» الديمقراطي الانتخابي والذي يُبسَط ذهنياً ليصبح روح الديمقراطية نفسها ليس إلا إجراءً مبدئياً؟ المماهاة العملية والآلية بين إرادة الجميع (الشعب) وتعبير «الأغلبية» المنتخَبة عن هذه الإرادة ليست مشكلتنا وحدنا. هي مشكلة كل الديمقراطيات في العالم. تصويت الأكثرية كمُشرعِن للسلطة يُقبل كإجراء يطابق في جوهره جوهر الديمقراطية. الأغلبية ليست الشعب كمجموع وفاعل سياسي. يمكن لمفهوم الأغلبية أن يفرض نفسه كإجراء ولكن ليس على المستوى الاجتماعي. في الأفق الافتراضي للديمقراطية هناك فكرة الإجماع، إجماع كل أفراد الشعب. عملياً ما يمارس، يمارس وكأن العدد الأكبر يعادل المجموع، في حين أن المجتمعات في الأزمنة الحديثة هي تجاور أفراد، بخصوصياتهم واختلافاتهم، المجتمعات هي عدد كبير جداً من «الأقليات» وعلى الفاعلين السياسيين محاولة إرضاء طموحات وآمال هذه «الأقليات» والاعتراف بخصوصياتها، المناقضة في جوهرها فكرة الجموع.

الإشكالية الأخرى والتي لا نختص بها وحدنا في سعينا نحو الديمقراطية هي أن اللحظة الانتخابية وإطلاق البرامج الانتخابية تحاول أن تتماهى مع فترة الولاية كلها للفريق المنتخب. عملياً ليس هذا ما يتم بالضرورة، وليس في هذا خيبة للديمقراطية كمفهوم. الأهم هو الشرط المناسب للسجال الاجتماعي وإطلاق المبادرات للأفراد وصيانة الحريات العامة الضامنة لاستمرار السجال.

البيّن من ديناميات المجتمع التونسي والمصري والليبي وتوافد آلاف المصريين البارحة ١١/٢٧ /٢٠١٢ إلى ميدان التحرير «لحماية ثورتهم» هو أن الفرد العربي الجديد يتمثل روح الديمقراطية الأساسية وهي المساواة بينه وبين مواطنيه في الحقوق والواجبات (مساواة افتراضية ذهنية في التصور وليس بالضرورة عيانية اجتماعية واقتصادية، فتلك معركة أخرى). هذا الفهم والتمثل الجديد لا يمكن أن يكون عكوساً، بغض النظر عما أنضجه سواء العوامل الداخلية الاقتصادية أو الاجتماعية أم الانفتاح الرقمي الواسع على تجارب الشعوب الأخرى… الخ. مع تحفظي الشخصي على كل ما هو حتمي، لكن النزوع نحو الديمقراطية هو نزوع إنساني تكاد تثبته الأحداث أنثروبولوجياً، وكتيبات الإرشاد في «الانتقالوجيا» لن تجد نفعاً، ما لم تدخل الشعوب بنفسها في حركة التاريخ وتختار ما يناسبها لتحقيق الديمقراطية.

يبقى أن الانتقال الديمقراطي في سوريا قد يلاقي صعوبات أكبر ومن نوع آخر نظراً للشروط التاريخية والظرفية للثورة السورية. من بين المعضلات التي سنواجهها كسوريين، على سبيل المثال، هي كيف سنتمكن من إرساء دولة ديمقراطية دون دولة قانون؟ ولكن كيف سنبني دولة قانون صارمة دون المساس بالمبادئ الديمقراطية في بلدٍ انتشر فيه السلاح بهذا الشكل وكأنه عقد اجتماعي جديد؟ وفي بلد عاش شمولية أربعة عقود ماهت بين الدولة والنظام السياسي لدرجة استبطن مواطنوها أن المؤسسة الحكومية هي النظام (هذا ما يفسر تدمير بعض المقرات الحكومية على يد الثوار)، وفي بلد تفككت مؤسسة الجيش فيه بهذا الشكل التراجيدي، في حين أن المؤسسات والإدارات الحكومية هي أحد الضمانات الأساسية لإرساء القانون والديمقراطية؟