لم يشعر السوريون بحجم الفراغ السياسي القائم في سوريا إلّا بعد أن نزلوا إلى الشارع في آذار 2011. وبعد أن أعلنوا أن لا عودة عن إسقاط النظام، اكتشفوا بأن لا ظهر َ سياسياً لهم، يمكنه أن يسدّ الفراغ الذي سيتركه رحيل النظام الحالي. لم يكن هذا محبطا ً في البداية، لكنّه شكّل أزمة فيما بعد عندما امتدّت الثورة. كانت حجّة غياب البديل قائمة بقوّة في حديث عدد كبير من الفئات التي آثرت الصمت و الالتزام بـ”الإصلاحات” الرسمية من جهة، وموضع نقاش مفتوح على طاولات السياسيين في العالم من جهة أخرى. كما شكّـل هذا الفراغ السياسي المفترض واحدا من النقاط التي حُسبت لصالح النظام. أما فئات المعارضة على تنوعها فكانت في حالة من الصدمة تعادل بحجمها المعجزة التي حققها الشعب. معجزة عاش جميع المعارضين يحلمون بها، وربما كان يتوقع بعضهم أن يكون من قادتها، إلى أن صارت حقيقة سبقت توقعاتهم وقدراتهم القيادية. في بداية الحراك خيّم الصمت المطبق، صمت المفاجأة، على الكثيرين من المعارضة، قبل أن تبدأ مرحلة السباق نحو القيادة وكسب الشرعية من الشارع، على نحو ذهب بأبصار معظمهم عن المكان الحقيقي للثورة، وعن موضع الاحتياج الأساسي لهم ضمن الثورة ومسؤولياتهم حيالها.

 عاش جزء كبير من المعارضين السوريين حياتهم السياسيّة منذ بدايتها في حذاء معارضة عاجزة أمام النظام وضعيفة حياله، حتّى ما عاد بمقدورهم أن يكونوا غير ذلك؛ فهم يحتاجون للنظام كي يكونوا معارضة، مما يعني بأنّ غياب شرعية النظام وكسر هالته أمام الشعب سحبت منهم القاعدة النفسية التي يستندون عليها في تكوينهم ودورهم السياسية، فلم يعد لهم وجود حقيقيّ كقوى سياسية لا تعتمد على هذا الضرب من المعارضة العاجزة فقط.

من ناحية ٍ أخرى، كان المثقف السوري في حالة ذهول مشابهة لتلك التي أصابت المعارض. لكنّ حالة الذهول هذه لم تمنعه من أن ينخرط بشكل جزئيّ في الحراك على الأرض، و أكثر من ذلك أن يكون صوتا ضمن النشاط الإعلاميّ، سواء من خلال الظهور إعلاميّا أو المتابعة ألكترونيّا. مع استمرار الفراغ السياسي الذي فرضه عجز السياسيين السوريين وفئات المعارضة، بدأت مرحلة جديدة من مشوار المثقف السوري في الثورة، المثقف الذي بات البديل المفكر، وبدأت القنوات الإعلاميّة والحاجة الشعبية بإلباسه رداء السياسي القادر على التحليل والتفكير وتفسير الأمور من منطلق مطلع بقدر كاف، ويسمح له بارتداء الدور دون أن يكون رداء الدور فضفاضا جدّا.

ولا يتطرق هذا “المثقف السياسي” الذي يبدو خطابه الإعلاميّ أمتن وأكثر ثقة، ولا يحمل في طيّاته مشاحنات المعارضين السوريين و مزايداتهم وانقساماتهم، لا يتطرق إلى الأمور السياسية من منبع الفكر “العشائري” وشراكات الانتماء السائدة بين صفوف التجمعات السياسية المعارضة في سوريا.

سدّ هذا المثقف الفراغ بقدر ما استطاع، لكنه ابتعد بشكل كبير عن دوره الأساسي كمثقف، وبدأ يفقد قدرته الشعبية أولا، والثقافية ثانيا، على ممارسة هذا الدور بمعزل عن البعد السياسي الذي لبسه. بمعنى آخر، بات المتوقع من المثقف أن يأخذ دور المحلل السياسي بشكل ما عاد يسمح له بأن يمارس دوره المفترض كمثقف. وبهذا فقدت الثورة السورية كلّ من السياسي و المثقف الذي يمكن الاعتماد عليه، فلم يكن المثقف/ السياسي سياسيا ناجحا، ولا استطاع المثقف ممارسة دوره كمثقف  بشكل ناجح.

قلّة قليلة فقط من مثقفي الثورة التزموا بممارسة دورهم الثقافي فقط و لم يذهبوا بعيدا للممارسة أدوار أخرى في محاولات سدّ فراغات فشل آخرون بتحمّل مسؤولياتهم تجاهها.