“العرب ضيوف وينبغي أن يلتزموا حدود الأدب”. هذا ما صرّح به سابقاً أحد الناطقين باسم النظام السوري، بالتزامن مع نشاط مؤيد للثورة أخذت تشهده أحياء في دمشق، يسكنها فلسطينيون؛ مخيم اليرموك بالدرجة الأولى.
عبر عقود، زاود هذا النظام على العرب جميعاً في ما يخص القضايا العربية وتمثيله لها. التواضع لم يكن سمته في هذا الخصوص، فوجوده صمام أمان العروبة وسر بقائها، وهو المؤتمن على جميع قضاياها! العرب ضيوف على قضاياهم. ولا يخرج الفلسطينيون عن هذا، فهم لا يملكون من قضيتهم إلا ما يرتضيه النظام السوري لهم؛ ضيوف عليها أيضاً. الحكم بخيانة “القضية” على هذه الجهة الفلسطينية أو تلك كان أمراً شائعاً في أدبيات النظام، وقد هيأ لهؤلاء “الخونة” مكانا ينالون فيه عقابهم وإعادة تأهيلهم قوميا ووطنيا، التسمية الشائعة له ستغدو “فرع فلسطين”. لم تكن هذه الأخيرة إلا شأناً داخلياً وقضية مقدسة في دعاوى النظام، فإذا كان أبناؤها ضيوفا عليها، فكيف سيكون الأمر عندما يتعلق بشأن سوري داخلي؟ بالطبع عليهم أن يتأدبوا، وإلا! لو خرج الفلسطينيون في سوريا مسبحين بحمد هذا النظام ومنددين بالمؤامرة التي تحاك لسوريا بسبب مواقفها “المشرّفة من القضايا العربية” ومطالبين بسرعة الحسم والقضاء على المتآمرين بأي وسيلة؛ لو فعل الفلسطينيون ذلك، لما طُلب منهم أن يتأدبوا، فهذه هي السليقة العربية الأصيلة التي لا تنطق إلا بالحق. في العام الأول للثورة، في ذكرى النكسة، وكان قد مضى على الثورة السورية بضعة أشهر، حاول النظام السوري ترحيل أزمته عبر توتير جبهة الجولان الساكنة منذ عقود ومن ثم إرسال رسالة لمن يهمه الأمر، بأنه هو ضابط إيقاع الاستقرار في المنطقة. هذه الرسالة لن تكون من خلال الجيش طبعاً، إذ ستثبت الأيام القادمة أنه ليس في هذا الوارد أبداً، وبأن رسالته العقائدية سيؤديها في مكان آخر تماماً. آنذاك، وبتنسيق أمني مع بعض الفصائل الفلسطينية، وعبر استغلال بعض المشاعر المشتعلة عند الشباب الفلسطيني، توجه المئات من فلسطينيي سوريا باتجاه الجولان واقتحموا الحدود ودخلوا الأراضي السورية المحتلة. الاعلام السوري كان مواكباً للحدث وهو ينقل هذه “الهبّة الشعبية”. لم يخرج أحد من أهل النظام ليذكر الفلسطينيين بأنهم “ضيوف” وعليهم أن “يتأدبوا” رغم تدخلهم بشأن سيادي تضبطه معاهدات ومواثيق وقعها والتزم بها النظام السوري طوال عقود! وما سيحدث بعد ذلك، أن الفلسطينيين سيهبون غاضبين مستنكرين هذا الاستخدام الرخيص لقضيتهم العادلة ودماء أبنائهم، وسيستهدفون بعد تشييع الشهداء الذين قضوا على أرض الجولان برصاص اسرائيلي، مبنى الخالصة، أحد ملاحق فرع فلسطين في مخيم اليرموك.
ما يصح على الفلسطينيين يصح على السوريين أيضاً في “سوريا الأسد”. لم تكن سوريا قبل الثورة للسوريين؛ ضيوف أيضاً. من هنا، فإن الموت والتنكيل كان مصير من اعترض منهم على هذا. القتل بكل بساطة هو استنكار من النظام على مطالب هؤلاء السوريين ناكري الجميل. لسان حاله يقول: كيف لمن أسكنته وأطعمته وعلمته أن يتجاسر عليّ، أنا سيد البيت؟ فسوريا لآل الأسد الخالدين، بينما السوريون طارئون وضيوف مرحب بهم ما لم ينسوا فضل أسيادهم!
الثورة السورية، ليست إلا محاولة استعادة سورية لأهلها، وتحريرها من “الأسدية” التي قامت بأسر البلاد والعباد، سنين طويلة. وما يرتكبه النظام منذ بداية هذه الثورة، ليس شيئاً آخر إلا محاولة “تحرير” سوريا من المعاني التي يتضمنها هذا النصاب الحق، ومن هؤلاء السوريين الذين يؤمنون به.
الشعارات التي علت في بداية الثورة، والتي انتظم حولها الحراك الثوري، كانت واضحة في مغازيها وغاياتها: “الأمة السورية” هي الأمة التي آن لها أن توجد بعد أن طمست لصالح “الأمة الأسدية” التي اجتهد النظام عبر عقود على صناعتها وتكريسها بقوة الحديد والنار، وها هو اليوم يقاتل متسلحاً بإجرام قل مثيله، في سبيل استمرارها وبقائها. مستقبل سوريا، يتوقف على من سينتصر في هذا الصراع، “سورية الأسد”، أم سوريا التي سيعيش السوريون في رحابها بكرامة وعدالة؟
الآن، يختلط الدم السوري بالدم الفلسطيني، والقاتل واحد بالطبع. يقصف الفلسطينيون بالطائرات التي وجدت لقصف أعدائهم وتحرير أراضيهم. تغريبة فلسطينية أخرى تضاف إلى رصيد الفلسطينيين. ربما هذا هو ثمن تحرير قضيتهم التي كانوا ضيوفاً عليها، و بداية لاستعادة مضمونها العادل والتحرري، بعد أن كانت إحدى أهم القوائم التي يستند عليها عرش الاستبداد والقهر.