ليست مهمة الأخضر الإبراهيمي كمبعوثٍ للأمم المتحدة والجامعة العربية مثالاً حسناً عن مزايا الدبلوماسيّة والسياسة إﻻ، اللهم، لأولئك الذين يفهمونها تعبيراً أعمى عن ميزان القوى بوصفه مؤشراً للقدرة على إلحاق الأذى دون أيّ حساب. فقط هكذا، وبهذا المنطق، لفلسفة الأخضر الإبراهيمي معنى، وإن كان ضائعاً في ﻻ معنى دمويّة نظام المجزرة.

ﻻ حلّ ثالث لسوريا، إما “الحلّ السياسي” وإما “الجحيم”. هذا هو العنوان العريض لأفقٍ ضيّق.

قبل أن نفكّر بخصوص أيّ حلّ سياسي يطرح أولئك الذين ينطق الأخضر الإبراهيمي بهواهم علينا أن نقف قليلاً ونتخيّل أيّ “جحيم” يقصد؟ هل يعني أن تُقصف المخابز ومحطات الوقود المزدحمة الطوابير؟ هل يقصد أن يدكّ طيران جيش النظام المدن والأحياء والقرى؟ هل يشير إلى إمكانيّة حدوث مذابح لبشرٍ عُزّل يتلذذ مقترفوها بتشطيب أجساد ضحاياهم بالسكاكين قبل هرس رؤوسهم بالكتل الاسمنتيّة المنهارة بين أنقاض بيتٍ قد قُصف؟ أهذا هو الجحيم الذي يهدد الأخضر الإبراهيمي بنيرانه إن فشل “الحلّ السياسي”؟

لم يطرح الأخضر الإبراهيمي حتّى هذه اللحظة مبادرةً سياسيّة متكاملة، وما يفعله حتّى الآن، عدا استفزاز مشاعر ضحايا همجيّة وبهيميّة عصابات الأسد، ليس إﻻ انتظار توافق القوّتين العالميتين على موقفٍ تجاه قضيّة أشعلت حنين روسيا لأيام الحرب الباردة (وأحلام من لم يقتنع بعد أن اﻻتحاد السوفيتي قد انتهى قبل عقدين ونصف). من هنا تأتي سلوكيات وتعبيرات الشخصيات القياديّة الروسيّة المثقّلة بالرغبة المحمومة للفت أنظار العالم على مقدرة روسيا على التصرّف بعنجهيّة الدول العظمى. هكذا، ودون استحياء، يقيّم وزير الخارجيّة الروسي خبرة معاذ الخطيب السياسيّة من منظورٍ متعجرف ومتعالٍ في ذات الوقت الذي يعلن فيه أنّ بشار الأسد يرفض الخوض في أيّ سيناريو يحتوي على أفكار تزيحه، جزئياً أو كلياً، من السلطة. ﻻ يمكن فعل شيء تجاه هذا، يقول ﻻفروف. هذه، على ما يبدو، هي سياسة “الحلّ السياسي” التي يُعاب علينا الجهل بها.

من جهةٍ أخرى، ﻻ يبدو أن للولايات المتحدة رغبة جدّية في بدء حربٍ باردة جديدة مع روسيا، فالواقع الاستراتيجي والاقتصادي يحتّم عليها التفاهم مع روسيا في مواضيع كثيرة كالمستنقع الأفغاني ومعاهدات الحدّ من انتشار الأسلحة النووية، كما أن تعاون روسيا، أو حيادها على الأقل، ضروريّ لمعالجة الملف الإيراني دون الوصول إلى الخيار العسكري. ولعلّ المقالة المشتركة لمادلين أولبرايت وإيغور إيفانوف، كبار مسؤولي السياسة الخارجية السابقين لكلّ من الولايات المتحدة وروسيا، والمنشورة قبل أيام قليلة في النيويورك تايمز، تعبيرٌ جيّد عن الروح السائدة في العلاقات المرجوّة بين القوتين، وهي روحٌ ﻻ تجد لسوريا مكاناً إﻻ في إشارة عابرة تقول: “ويمكن لاختلاف المنظور أن يكون في بعض الأحيان حادّاً حول سوريا وحقوق الإنسان والديمقراطيّة”، إﻻ أن الاستدراك يأتي بعدها مباشرةً:”بيد أن الاختلافات مهما كان تعقيدها وألمها ينبغي ألا يحجب التطور في العلاقات على جبهات أخرى. من المهم ألا نقاطع الحوار حتى بشأن القضايا التي تختلف فيها المواقف بشكل جذري”.

بقراءة هذا الواقع الدولي نجد أن لا غرابة في أن ينحدر درك “الحوار” بين القوتين العظمتين إلى مصاف التباحث حول هل يرشّح بشار الأسد نفسه عام 2014 أم لا. أي، بتعبيرٍ آخر، بات ما يُطرح في سوريا، بعد أكثر من ستين ألف شهيد حسب إحصائياتٍ للأمم المتحدة نُشرت الأربعاء، أقلّ حتّى من “الحلّ اليمني”. ليس هناك فقط غيابٌ كامل لإرادة المجتمع الدولي لمحاولة تحقيق العدالة بخصوص المئات من جرائم الحرب الموثقة، والتي تكفي كلّ واحدة منها لتعبيد الطريق إلى محكمة الجنايات الدوليّة لسوق رأس النظام والمسؤولين العسكريين والأمنيين، بل أن السينكيّة التسوويّة تريد أن تفرض على السوريين أن يبقى من شنّ حرباً إباديّة وحشيّة ضدهم رئيساً حتى عام 2014 “وسنرى بعدها ما نفعل”. يرون هم، ﻻ نحن.

المضحك أن أبواق النظام واعتذارييه هم من يتحدّث عن “مؤامرة كونيّة”..

في واقع الحال، ليس رأي الأخضر الإبراهيمي وسيرغي ﻻفروف في مدى فهم معاذ الخطيب أو غيره للسياسة مهماً، بل مفهوم السياسة الذي يراد فرضه علينا: هل هي مجرّد شرعنة لأوضاع قائمة نتيجة المصالح الدولية وموازين القوى، مهما كانت هذه الأوضاع القائمة ﻻ إنسانيّة؟ ﻻ فخر لمن “يفهم” في السياسة إذاً. من المؤكّد أن السياسة بوصفها الطريق الأقصر والأقل كلفة للوصول إلى ردّ المظالم لأهلها ومحاسبة الظالمين مرحّب بها، وبهذا المعنى ﻻ فرصة لرأس النظام وكبار مسؤوليه في أيّ عمليّة سياسيّة، وكلّ ما يتعلّق بالصفح والمسامحة بيد الشعب السوري وحده، وحصراً بعد عودة حقوقه إليه وليس كشرطٍ لعودة هذه الحقوق. أما المُسايسة على الطريقة الإبراهيميّة-اللافروفيّة فليهنأ بها من يخدع نفسه ويعتقد أنه بإمكان الابتزاز بضرورة “الحفاظ على الدولة السوريّة” أن يتغلّب على توق ملايين عريضة من السوريين للخلاص الكامل ممن دمرّ كلّ ما بحياتهم، ومن أفنى حياة ستين ألف مواطنٍ سوري.