أثار التحفظ الذي عبر عنه قبل شهر ونيف كل من معاذ الخطيب، رئيس «الائتلاف الوطني السوري»، وجورج صبرا، رئيس المجلس الوطني السوري، على إدراج الولايات المتحدة «جبهة النصرة» في قائمة المنظمات الإرهابية امتعاضاً مسموع الصوت في أوساط مؤيدة للثورة السورية ومتعاطفة معها. تحيل المواقف المستاءة من كلام الرجلين إلى الصفة فوق الوطنية للمنظمة، وإلى طائفيتها المبدئية والنضالية، وما تجسده من «استنكاف عن القيم العالمية» على ما كتب الصديق حازم الأمين، ثم المجازفة بخسران أي مساعدة أميركية “فيما أحد المستفيدين من المساعدة طرف يمتّ بصلة حميمة إلى «القاعدة»”، في قول الصديق حازم صاغية. وفي خلاصة ذلك أن تحفظ الائتلاف الوطني يفتقر إلى الحس السياسي: «فأين السياسة والحال هذه في رفض الائتلاف قرار واشنطن؟» (حازم الأمين، الحياة 15\12\2012).

وفي سورية قيل ما يقارب ذلك، مع تركيز على الصفات التكفيرية والطائفية والإرهابية للمنظمة، أكثر من الإحالة إلى اعتبارات الحساسية والسياسة العالمية، التي لطالما اعتنى بها اللبنانيون أكثر من السوريين لأسباب تخص تكوين البلدين وفوارق الثقافة السياسية بينهما.

لكن أريد أن أدافع عن موقف «الائتلاف الوطني» استناداً إلى اعتبارات سياسية عملية، تبدو لي غائبة في مناقشة الأمر، ولا تبدو ظاهرة في موقف الائتلاف ذاته.

فمن شأن تسليم «الائتلاف الوطني»، بوصفه اليوم المظلة الأوسع للمعارضة السورية والمعترف بها دولياً، بالقرار الأميركي أن يعني استعداء المجموعة الإسلامية التي يقتصر «جهادها» اليوم على مواجهة النظام، وتالياً نقل العلاقة معها من حيز السياسة إلى حيز الحرب. وهذا ما لا تطيقه الثورة اليوم لكل أنواع الأسباب، وما لا يصح فيه التعويل على أن اعتبار الجبهة «منظمة إرهابية»، كما يريد الأميركيون، ولا يزالون الطرف العالمي الوحيد الذي يقول ذلك، لا يعني استعداءها والحرب عليها. إنه يعني. وهو بمثابة استيراد لمشكلة إلى داخل الثورة السورية، بينما هي بالكاد تتدبر مشكلتها الكبرى في مواجهة النظام. وفي ميادين المواجهة الحقيقية، حيث المجموعات المقاتلة تنشط قرب بعضها، هل ينتظر من مجموعات المقاومة المسلحة أن تقاطع “جبهة النصرة” فعلا التزاما بالأمر الأميركي؟ لن يفعل أحد ذلك بالقطع، وليس بتناول أحد مبرر وجيه لفعل ذلك اليوم.

وبالتالي فإن قبول أي سياسيين بهذا القرار يعزلهم بقدر ما عن المقاومة المسلحة ككل، ويضعف في المحصلة موقفهم السياسي.

لكن ليست هذه الاعتبارات السياسية العملية الراهنة وحدها ما تشكك في حكمة الانضمام إلى الموقف الأميركي من «جبهة النصرة». هناك ما هو أهم. فليس في سجل السياسة الأميركية من التعامل مع منظمة القاعدة، و«الحرب ضد الإرهاب» التي تجاوز عمرها 11 عاماً، ما يستند إليه كنهج مثمر يستحسن تقليده. لا يبدو أن أفغانستان، وهي «فترينة» عرض سياسة محاربة الإرهاب الأميركية، مثال إيجابي أو نصف إيجابي على جدوى هذه السياسة. ولا يبدو حال مقاطعات باكستان المجاورة لأفغانستان مثالاً يقتدي به، ولا أن اليمن مثال طيب. ربما لدى الأميركيين موانع نفسية تحول دون أن يقبلوا التفاوض مع منظمة ألحقت طعنة نجلاء بكبريائهم وهيبتهم العالمية، لكن حتى القوة العالمية الكبرى، وخصوصاً بعد أن شفت شيئاً من غليلها باغتيال أسامة بن لادن، يستحسن أن تصغي لصوت العقل، وتبدأ بالسياسة مع «القاعدة». من شأن ذلك أن يشجع الميول الأقل تطرفاً في الجماعة، ويطوي معركة لا يمكن النصر فيها بهذه الطريقة، بل إنها تعطي تشكيلاً شاذاً، كان يمكن أن يكون بلا مستقبل، أهمية تاريخية كبرى. «الحرب ضد الإرهاب» في حاجة إلى «الإرهاب» كي تدوم، ومن شأنها في سورية الجديدة أن تكون قاعدة تأهيل نظام أمني جديد وحالة طوارئ جديدة. هذا فوق أن هناك شريك واحد دائماً في «الحرب ضد الإرهاب»، هو الأميركيين، إلى درجة تبيح التساؤل عما إذا لم تكن الحرب ضد الإرهاب استراتيجية أميركية للشراكة في العمليات الأمنية العالمية ضد عدو للأميركيين، يراد تعميمه عالمياً أيضاً؟

وفي العموم، لا نرى غير واحدة من ثلاث سياسات ممكنة حيال «جبهة النصرة» وأشباهها في شروط الثورة، اليوم: (1) اعتبار الصراع مع النظام أساسياً ووجودياً، ومع النصرة ثانوياً، ويُعالج بالسياسة؛ (2) اعتبار الصراع مع النصرة أساسياً مثل الصراع مع النظام، وخوض صراعين في آن معا؛ (3) اعتبار الصراع مع النصرة هو الأساسي والوجودي، والصراع مع النظام ثانوي، ويعالج بالسياسة.

الخيار الأول هو ما يبدو متوافقا مع الثورة، وهو ما تسير وفقا له اليوم.

الخيار الثاني غير عقلاني من وجهة نظر الهدف المتمثل في إسقاط النظام، وهو بمثابة استدراج النفس إلى الهزيمة.

أما الخيار الثالث فهو بكل بساطة تخلٍّ عن هدف إسقاط النظام وإعلان لنهاية الثورة، وهو بالطبع المفضل من النظام والمعادين للثورة.

ليس هناك غير هذه الخيارات. وإذا كان الأخير مرفوضاً، والثاني غير عقلاني، لا يبقى غير الأول اليوم. حين تختلف الظروف، كأن يسقط النظام أو تنقلب النصرة إلى مواجهة مجموعات المقاومة المسلحة الأخرى، يتغير التقييم والموقف.

يفرض نفسه هنا اعتراض وجيه: لنفترض أننا رضينا بالسياسة مع «جبهة النصرة»، هل ترضى «جبهة النصرة» بالسياسة معنا؟ «الجهاد»، أي مزج الدين والحرب، ليس شيئاً تفعله “«جبهة النصرة»، بل هو شيء تكونه. إنها جهاد مستمر، إلى حين تفرض نموذجها. وطائفيتها مبدئية كما سبق القول، وليست أداة حكم مثل النظام الأسدي، أو أداة سياسية محتملة مثلما قد تكون عند قوى سياسية متنوعة.

هذه مشكلة كبرى بالفعل.

لكن هنا أيضاً تلتقي الاعتبارات العملية اليوم وبعد سقوط النظام (ضعف الموارد وضرورة تجنب صراعات إضافية) مع الاعتبارات المبدئية (أولوية السياسة في كل حال) على تزكية استنفاد سبل السياسة قبل أية مواجهة عنفية، هي «أبغض الحلال» في كل حال، وأبغض أبغض الحلال في بلد بالكاد يلملم أشلاءه بعد ثورة دامية.

وليس المقصود بالسياسة التفاوض وحده. هذا بُعد السياسة الإجرائي. المقصود مزيج من استيعاب وإعادة تأهيل من يمكن من مقاتلي الجبهة في الجيش أو في الحياة المدنية، والمقصود ما قد يلزم من «تأليف قلوب» البعض منهم، قادتهم الفكريين والسياسيين بخاصة، وهو مبدأ الاستيعاب السياسي الذي يحتاجه أي عهد جديد. والمقصود أيضاً ما قد يلزم من عمليات أمنية اضطرارية، تُظهر عزم الحكم الجديد على احتكار العنف في سورية الجديدة. وبما في هذه العمل على إبعاد أي مقاتلين غير سوريين. ما لا يمكن قبوله هو وجود تنظيم مسلح يخاصم الجهات العامة أو أية قطاعات من المجتمع. ولا ينبغي أن تكون هناك مشكلة إذا تحولت النصرة إلى تنظيم سلفي منزوع السلاح.

المقصود بعد هذا كله وضع عموم السوريين، مناصري «النصرة» ومخاصميها، في صورة جهود الحكم الجديد لمعالجة المشكلة وكسب أوسع قطاعات الرأي العام إلى جانب سياسته في هذا الشأن.

حتى إذا استنفِدت السبل السياسية في التعامل مع الجبهة دون جدوى، يكون أكثرية السوريين قد اقتنعوا بتعنت الجماعة وامتناعها عن الجنوح إلى السلم. وهذا بالغ الأهمية لأنه إذا كان لا بد في النهاية من مواجهة «جبهة النصرة» أو غيرها بالقوة، فينبغي أن تكون هذه المواجهة مؤثرة، تحقق تقدماً حاسماً في إضعاف منظمة معزولة، يُقِر الرأي العام السوري أنها عدوانية ومتطرفة، وتريد أن تفرض منطقها بالقوة على البلد وعموم السكان.

قول هذه الأشياء أسهل من فعلها للأسف. الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية تجعل كل شيء بالغ الصعوبة، لكن هذه الأوضاع ذاتها تسوغ بدرجة أقوى اجتناب مواجهة إضافية مع «جبهة النصرة» من شأنها أن تزيد الأوضاع الصعبة صعوبة واستعصاء على المعالجة. وقد يكون من شأن المواجهة أيضاً أن تتسبب بانتشار أوسع لبؤر الجبهة وغيرها من المجموعات الجهادية الإسلامية، بدل أن تكون خطوة إلى الأمام في ضبطها والتحكم بها.

سورية محتاجة في كل حال إلى إطلاق عملية مصالحة وطنية على مستويين رسمي وشعبي بعد سقوط النظام. ولا يعقل إطلاق هذه العملية بينما يجري خوض حرب ضد «منظمة إرهابية»، لم تكد ترهب أحدا حتى اليوم غير النظام، ولها متعاطفون لا يبدو أنهم قلة ضئيلة.

وفي هذا السياق من الكلام على السياسة العملية، من المهم منذ الآن أن يكون «للائتلاف الوطني» سياسة حيال النصرة تتجاوز مجرد الاعتراض على القرار الأميركي، أو اعتبار الجبهة مجرد جزء من المقاومة المسلحة مثل غيره. ليست كذلك، والجبهة لا تعتبر نفسها كذلك. ويلزم منذ الآن أن تبني قيادة «الائتلاف» قناة اتصال رسمية مع الجبهة، ومطالبتها بتوضيح رؤيتها وأهدافها، وأن تلتزم علانية بالعمل حصراً ضد النظام إلى حين التخلص منه. وكذلك التباحث حول اعترافها به كإطار للشرعية الوطنية بدل عن النظام. معلوم أن الجبهة رفضت الائتلاف وقت تشكيله، واعتبرته أداة للقوى الدولية التي تدعمه. وهذا نذير بصراعات مستقبلية مكلفة.

أما أن يدافع الائتلاف عن تشكيل ديني سياسي عسكري لا يعترف به، ولا يلتزم حياله بشيء، فهذا من سوء السياسة لا من حسنها. ووقت التفاوض على ذلك هو الآن، وليس «بعدين».

ختاماً، يقيد هذا التحليل نفسه بدائرة السياسة العملية في شروط الثورة اليوم. خارج هذه الدائرة، عند النظر في دوائر المجتمع أو الثقافة، تختلف المقاربة ومعايير الحكم والموقف.