تتقاطع، في الحديث عن «جبهة النصرة» خصوصاً والتيارات السلفيّة الجهاديّة عموماً، كلّ الملفات الشائكة التي يمكن أن نجدها في بلدنا والمنطقة ككل، فالشؤون السياسيّة والعسكريّة تتلاطم بقسوة مع التعريفات الهوياتيّة، وتختلط أيضاً دهاليز السياسة الإقليميّة والدوليّة مع أبسط نقاط الشؤون المحلّية، ويصعب الهدوء في النقاش بقدر الحاجة الماسّة له. في الأفق، وفي عمق المسألة، دمارٌ يتراكم ودمٌ يجري يحمّلان كلّ نقطة نقاش صعوبةً مضاعفة.
يبدو واضحاً أن «جبهة النصرة» غير معنيّة، على الإطلاق، بالممارسة السياسيّة وﻻ تكترث، أقله في الوقت الراهن، لأي مسارات عمل سياسي، كما أنها تتجاهل كلّ مستويات السجال الإعلامي حولها، ويقتصر عمل إعلامها «الحزبي» (مؤسسة المنارة البيضاء للإنتاج الإعلامي) على إصدار البيانات العسكريّة التي تسلّط الضوء، بتفصيل، على ما تريد الجبهة إظهاره من جهادها. وحدها عناوين البيانات وبعض العبارات الواردة فيها، بالإضافة إلى التعاطيات القليلة جداً لمسؤولي الجبهة مع الإعلام، تسمح لنا باستشفاف البنية الإيديولوجيّة المحرّكة ل«جبهة النصرة»، وتدوين ملاحظاتٍ قد تصلح كعناوين رئيسيّة في هذا الشأن: اﻻقتداء الكبير ب«تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين»، والإجلال الكبير لشخص أبو مصعب الزرقاوي أولاً، اﻻستقالة الكاملة من عناوين المستوى الوطني السوري لصالح البُعد الجهادي العالمي في سبيل إقامة الخلافة كتعبيرٍ عن الأمّة الإسلاميّة ثانياً، وطائفيّة بنيويّة تبدو منبثقة من عمق تحليلها لدوافع الجهاد في سوريا حين تتحدّث عن «احتلال نصيري» بنفس المفردات التي كانت «القاعدة في بلاد الرافدين» تتحدّث بها عن «الغزو الصليبي» ثالثاً.
تفتخر «جبهة النصرة» بارتفاع عتبة التطوّع فيها، وانضباط عناصرها في ابتعادهم عن السرقات وغيرها من السلوكيّات الشائنة. عدا ذلك، ﻻ تُخفي «جبهة النصرة» أصوليتها الدينيّة، أكان ذلك في ما يرشح من أدبياتها وتعبيراتها أو من السلوك العام لعناصرها، إﻻ أنها تبدو أكثر حذراً وأقل استعراضياً من الكتائب السلفيّة الجهاديّة الأخرى فيما يخص فرض هذه الأصوليّة على السكان المحليين في المناطق التي تنشط بها، ولعلّ لهذه الملاحظة علاقة برغبتها في تجنّب تأليب الوسط الاجتماعي ضدها، ما يمكن أن يكرر ظاهرة «الصحوات» العراقيّة.
ما سبق قوله يكفي كي تكون المواقف المتوجسّة والحذرة والرافضة لمنطلقات وآليات ومقاصد «جبهة النصرة» مشروعة، وكي لا تُوضع هذه المواقف في محور درجات جذريّة اﻻنحياز للثورة السوريّة. هذه المواقف ليست إيديولوجيّة فحسب، بل تتعدى ذلك إلى تعارض «جبهة النصرة» مع رؤى الكثير من المنحازين الجذريين للثورة السوريّة بما يخص مستقبل النظام السياسي للدولة السوريّة مستقبلاً، بل ومع التصوّر حول الكيان الوطني السوري ككل. المسألة أعمق من مناكفاتٍ بين إسلاميين وعلمانيين تحمل دوماً طابع المزاودة.
لكن هذا ليس إلا أقل من نصف الكلام…
ﻻ يكفي الرفض الإيديولوجي وتوجس الرؤية السياسيّة للإحاطة بما تمثله «جبهة النصرة»، فتعميق التفكير والتحليل بما يخص هذه الظاهرة ضروريّ للغاية، فالاكتفاء بالموقف الإيديولوجي، في هذه الحالة، قد يقرّب من «حلفاء» غير مرغوبين بقدر ما يخلق «أعداء» غير مقصودين.
لم تنزل جبهة النصرة من المرّيخ، وليست جمعاً من الأشباح ظهروا من حيث ﻻ ندري. إن «جبهة النصرة»، بكل ما تمثلّه وتعنيه، هي نتاجٌ طبيعيّ جداً للسياق السوري الحالي، بغض النظر عن شكوك محتملة حول ارتباطات خارجيّة، مخابراتيّة أو غيرها، ناتجة عن ما ﻻ تخفيه من ارتباطات بجماعات سلفيّة-جهاديّة أخرى أو عمّا يمكن ملاحظته من وفرة مصادر تمويلها وتسليحها. نعيش واقعاً يتصرّف «النظام» به كجيش احتلال شديد الهمجيّة يشنّ حرب إبادة ضد ما يعتبره حاضناً اجتماعياً لأعداءٍ وجوديين لهيمنته، حربٌ تُدار بحقدٍ ودمويّة بالغتين، تختلط فيه الأحقاد الطبقيّة بالكراهيات الطائفيّة، وﻻ تُذكّر إﻻ بأسوأ أنماط سلوك القوى الاستعمارية حيال «السكان الأصليين»… أين الغريب في أن تظهر جماعة مسلّحة تحمل فكراً إيديولوجياً متعصباً يوفّر لها سنداً نظرياً للثبات واﻻستماتة في القتال، ويشرعن لها اللجوء إلى العنف، رمزياً وجسدياً، في معركة وجودٍ ضد قوّة أكبر؟ وأين الغريب في أن تنال هذه الجماعة استحسان حاضنٍ اجتماعيٍ، أكان نتيجة التضامن الإيديولوجي أو الإعجاب بالفعاليّة القتاليّة، أو كليهما معاً؟ بل وأين الغريب في أن تحمل إيديولوجيا الجماعة المسلّحة نواحٍ توحي بالكراهية تجاه ما تعتبره إيديولوجيا القوّة التي تمارس فعل الإبادة ضدها وتجاه ما تعتبره حاضناً ومورداً بشرياً، أكان جماعةً أهليّة أو طبقة اقتصادية-اجتماعيّة؟ ما هو، في هذه الحالة، سلفيّ- جهادي كان ماركسياً- لينينياً في أماكن كثيرة، وماويّاً في غيرها، وقومياً في كثيرٍ ممّا عداها، وهذا يشمل ظاهرة «المتطوعين الأجانب» أيضاً.
الموقف الإيديولوجي الرافض ل«جبهة النصرة» وما تمثّله مشروع وﻻ ينتقص من ثوريّة أحد، لكنه بحاجة لأن يقترن برفضٍ سابق وأكثر مبدئيّة لمن تسبّب في قيام كلّ الظروف اللازمة لانبثاق ظاهرة ك«جبهة النصرة»، أﻻ وهو النظام السوري متحالفاً مع كلّ البُنى الفكريّة والإيديولوجيّة التي تلزم لإقامة هكذا ضرب من ضروب الفاشيّة الهمجيّة، ودون هذه الإضافة على ما هو إيديولوجيّ بحت قد نقع في مطبّ الخلط بين العداء المشروع لجماعة جهادية تحمل إيديولوجيا نرفضها والعداء لحاضن اجتماعي فيه، بلا شك، من يتضامن مع الجبهة إيديولوجياً (وهذا حقّ يجب أن يُحترم لمن يحترم حقّ الآخرين)، ولكن أيضاً فيه من انحاز للجبهة ﻷنه وجدها تقاتل ببسالة من يريد إبادته، وﻻ إيديولوجيا تبرر معاداة هذا الشخص إﻻ الفاشيّة، ولا إمكانيّة لممارسة السياسة معه أو عنده دون إزالة الحرب الإباديّة التي يعانيها، أكان في طورها البارد عبر عقود الاستبداد الإفقاري الشنيع الذي مارساه النظام على البلد، أو في طورها المشتغل حيث تُمحى القرى والبلدات والأحياء من الوجود ليس فقط بسهولة، بل ببهجة وفرحة.
…
لم تثبت الحرب الأمريكيّة على «الإرهاب الإسلامي» إﻻ عدم أخلاقيتها ودمويتها وعدم اكتراثها بإنسانيّة الشعوب التي اعتبرتها نظريات “صراع الحضارات” منطلقاً اجتماعياً وثقافياً لهذا «الإرهاب»، عدا عن أنها فشلت بشكل ذريع في تحقيق أهدافها، بل وحققت نتائج عكسيّة تماماً في غير مكانٍ وزمان. «الحرب على الإرهاب» تشبه إسرائيل، وتشبه روسيا وحروبها الشيشانيّة، وتشبه النظام السوري كثيراً: كم عضواً في «حزب الشاي» الأمريكي كان سيصفّق لخطاب النظام واعتذارييه ضد «المتطرّفين والظلاميين والسلفيين والتكفيريين»؟ وكيف يقيّم اليسار الاعتذاري للنظام السوري تعابير الإعجاب والتضامن التي ﻻ تكفّ عن الصدور عن اليمين الفرنسي العنصري تجاه ما يفعله ابن حافظ الأسد من «وقوفٍ بوجه الظلاميين»؟
من هذا المنطلق، بين منطلقاتٍ أخرى من بينها أن هكذا إجراء له اعتبارات سياسيّة أمريكيّة خاصّة بها، يصحّ اعتبار إدراج الإدارة الأمريكيّة لجبهة النصرة ضمن قائمة «المنظمات الإرهابيّة» خسيساً للغاية، وليس في هذا اﻻعتبار دفاعٌ عن «جبهة النصرة» أو انحيازاً لها، بل رفضٌ لعقليّة «الحرب على الأرهاب» الأمريكيّة، والتي ﻻ تختلف عن عقليّة النظام السوري إﻻ كالفرق بين الأناقة التكنولوجيّة للطائرات دون طيّار، والتي توقع المجزرة تلو المجزرة في أفغانستان وباكستان واليمن، ورثاثة براميل المتفجرات. «الائتلاف» و«المجلس» كانا على حقّ في رفض هذا الإدراج من حيث المبدأ، لكنه حقّ يبدو نقطة معزولة ضمن سياق تعامل خاطئ مع الظاهرة، ما يُفقد هذا الحقّ معناه.
تعامل «المجلس الوطني» (ومن ثم الائتلاف) سياسياً وإعلامياً مع ملف «جبهة النصرة» كمن يتطيّر من اسم مرض فلا يتحدّث عنه، وصرّحت شخصيات معارضة في غير مرّة عن شكوكها في أن تكون الجبهة نتاجاً مخابراتياً من قبل النظام على غرار جماعاتٍ ظهرت خلال العقد الماضي في لبنان والعراق وسوريا، واتُهم النظام السوري باختراعها. لم تختر المعارضة توقيت إظهار موقفٍ بخصوص «جبهة النصرة» تبعاً للظروف الذاتيّة والموضوعيّة، بل فعلت ذلك حين أجبرها توقيت السياسة الأمريكيّة، وهنا كان الخطأ الأكبر، وأدّى أيضاً إلى فشل المعارضة في التخلّص من مظهر الانتهازيّة في موقفها، الذي بدا وكأنه «مجاكرة» للأمريكيين على برود موقفهم ومحاولةً للاستثمار في النجاح العسكري ل«جبهة النصرة» واستحسان قطاعاتٍ واسعة من الجمهور المعارض لهذا النجاح أكثر مما بدا موقفاً مبنياً على مقاربة سياسيّة صلبة.
ما زال التحدّي قائماً بالنسبة للمعارضة: عليها أن تتحرّك، أن تفعل شيئاً، لكن ماذا تستطيع أن تفعل حيال تنظيمٍ مسلّح ﻻ يبدو معنياً، عدا إسقاط النظام، بأيّ من الشعارات والتصورات والأهداف التي تطرحها؟ كيف سيتعامل «الائتلاف» مع الجبهة التي عبّرت عن أنها ﻻ تكنّ له الود؟ بل إلى متى ستستطيع قوى الاسلام السياسي السوري، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، اﻻختباء خلف المناكفات الإسلاميّة-«العلمانيّة» قبل أن يبدأ ظهور تخبطها السياسي حيال خصم يستثمر عند نفس الجمهور الإيديوجي، خصمٌ يهدد تضامنها غير النقدي معه كلّ الجهود المبذولة على مدى السنوات السابقة للدخول في الطيف السياسي المقبول دولياً، ويتعذر نقده خشية الخسارة في الملعب الإيديولوجي؟
التحديات كثيرة، والأسئلة أكثر، لكن منطق «الحرب على الإرهاب» غير مقبول مبدئياً، ولن يجدي نفعاً عملياً، ومطالبة المعارضة بتبنّيه ليس إﻻ تعجيزاً. نحتاج لكثيرٍ من التفاؤل كي نعتقد بإمكانيّة التعاطي سياسياً مع «جبهة النصرة»، لكن الواقع يقول أﻻ خيار إلا المحاولة والمحاولة والمحاولة، فلا إمكانيّة لغير ذلك، خاصّة في ظروف الحرب الإباديّة الفاشيّة.