قبل كل شيء، خفض سقف التوقعات من الثورة.

بتنظيم جهادي يجمع بين كثير من الحرب وكثير من الدين لا يعد هذا النموذج السوريين إلا بحالة طوارئ مؤبدة جديدة وبمعارك وحروب وصراعات لا تنتهي. النظرة الإسلامية المعاصرة إلى العالم الحديث متشائمة، ترى فيه مكاناً شريراً وخطراً وفاسداً وخبيثاً ومتآمراً، وهو ما يؤسس لعلاقة عدائية، ولسياسة انعزال وتجنب المشابهة، وفي الداخل لقمع من يحتمل أن يوصفوا بالعلمانيين أو التغريبيين أو المنبهرين بالغرب.

في هذا جميع الإسلاميين شركاء، لكن التيار السلفي الجهادي الذي تنتسب له «جبهة النصرة لأهل الشام» يتفوق على غيره، ويحول هذه النظرة إلى العالم إلى سياسة مباشرة تقوم على المجابهة الدائمة. مشروع هذا التيار هو الحرب المستمرة، أو «الصراع المستمر» بهدف «ترويض الواقع»، على ما يقول عبدالله بن محمد في كتيب هاذٍ بعنوان «استراتيجية الحرب الإقليمية على أرض الشام». الحرب هنا، أو «الجهاد»، ليست وسيلة لغاية تتخطاها، بل يبدو أنه هو الغاية، ونظام «الخلافة» ذاته الذي هو الغاية المعلنة يبدو جهاداً مجسداً موصولاً.

ليس من أجل هذا تفجرت الثورة السورية.

إنها جهد قام به بشر عاديون أساساً، ودفع ثمنه بشر عاديون أساساً، ومن أجل عيش حياة عادية. لم تكن مشكلة السوريين مع النظام الأسدي أنه يمنعهم أن يكونوا أبطالاً أو مجاهدين جوالين، بل أنه لم يعد يتيح لأعداد متزايدة منهم العيش كأناس عاديين في ظله، بالحد المقبول من الكرامة المادية والسياسية. أظهر السوريون بطولات عظيمة أثناء الثورة، لكن أكثرها ليس في المجال الحربي، وكلها، المدنية منها والحربية، كانت اضطراراً فرض عليهم. كان بودّ الجميع كبشر أسوياء لو ينتهي هذا الصراع بأكلاف أدنى وفي وقت أقل، ولو أمكن تجنب الصراع المسلح، وما يتسبب به من تمزقات اجتماعية ووطنية نحن في غمارها اليوم.

ما كان لهذه التطلعات السوية أن تصمد في مواجهة نظام متوحش، ونعرف ملابسات ظهور وصعود المقاومة المسلحة، وصولاً إلى ظهور «جبهة النصرة» ذاتها قبل عام من اليوم. لكن هذا لا يجعل هذه التطورات شيئاً مرغوباً بحد ذاته، على ما يقول الكراس المشار إليه فوق، الذي يذكر ببعض الأدبيات الشيوعية حتى 3 أو 4 عقود مضت. كانت تلك الأدبيات ترى أنه كلما كانت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أسوأ في بلد ما كان هذا بيئة أنسب لتفجر الثورة، ولصعود نجم الثورين الحقيقيين. المشترك بين الحالين أن التدهور العام يغدو هدفاً مرغوباً، ولو مرحلياً، من أجل أن يعشش المجاهدون أو المناضلون في هذه البيئة، كخطوة على الدرب الطويل نحو الطوبى: الشيوعية في حالة، والخلافة الإسلامية في حالة.

لا نستطرد في نقطة الشبه هذه عرضاً، بل للقول إنه يحتمل لأناس مختلفي الجذور الإيديولوجية أن يسلكوا ويفكروا بطرق متقاربة في بعض الظروف التي قد تكون متقاربة. أي لإرجاع الأمر إلى الشروط الواقعية التي تظهر في ظلها مثل هذه المجموعات ومثل طرق التصرف هذه.

هذا التقارب البنيوي بين مجموعات إسلامية وشيوعية يفيدنا أيضا لتقدير المآلات المحتملة للنصرة وأشباهها، وتحديدا من حيث كونهما منتجتين لكثير من الطغيان واليأس.

ليس هناك أدنى احتمال في تقديرنا لأن يكون الأمر مختلفاً بخصوص الإسلاميين، وبدرجات متناسبة مع تشددهم الديني. كلما كانوا أكثر تشدداً، والنصرة من الأكثر تشدداً، كان الطغيان أشد واليأس أعمق. أفغانستان طالبان وتنظيم القاعدة لم يكونا مثالاً إيجابياً لأي شي في الدنيا من وجهة نظر إنسانية سوية. وتعليب الناس وفق نموذج واحد بحيث يكونون نسخاً متماثلة عما يفترض أنه المثال الصحيح العابر للعصور هو اليأس بعينه، والموت بعينه أيضاً. معقد الأمل هو تغير الحال نحو الأحسن، ولا مجال للأحسن في النموذج السلفي الجهادي لأنه الحسن ذاته والكمال ذاته. لكن هذا أنسب تعريف لليأس.

والحياة إنتاج مستمر للتنوع والمغايرة. والتشابه تعريف للموت.

وبقدر ما إن المثال الذي تتطلع إليها «النصرة» منفصل عن الواقع وممكناته، فإن الفجوة بين الواقعي والمثالي لن تجسر بغير الإرهاب، عنف لا حدود له بغرض «تهذيب وإعادة ترتيب أوضاع المنطقة» (الكتيب نفسه).

إلى ذلك يمكن للنموذج الذي تمثله «النصرة» أن يكون ركيزة لنظام قائم على امتيازات نخبة ضيقة، تسوغ امتيازاتها بالإسلام والشريعة وإرادة الله، لكنها لا تقل جشعاً واستهتاراً وقلة أخلاق عن أية نخب مماثلة، ومنها طغمة السلطة الأسدية اليوم. ليس هذا احتمالاً يمكن أن يقع أو لا يقع، بل إنه محتم إذا لم توازنه قوى أخرى أو يواجه بمقاومات اجتماعية مؤثرة. النظم العقدية التي تحتكر الصواب تؤول جميعاً إلى الطغيان السياسي، وإلى تكون نخبة صاحبة امتيازات خاصة، وإلى استخدام الدين من وراء قناع خدمته.

وتسهل عقيدة الولاء والبراء السلفية التي تجعل الدين، أو بالأحرى الحزب الديني، إطاراً للولاء، ومن هم خارجه أناسا يتعين التبرؤ منهم، تسهل أمر الطائفية ونشر الشقاق الاجتماعي، أو جعل الحرب مبدأ للعلاقات الاجتماعية داخل البلد. وفقاً لهذا النموذج سيكون إخوتنا من السلفين الجهاديين هم أهل الولاء ومستحقوه، مواطنو الدرجة الأولى، أو البعثيون الجدد. فيما الأغراب من عموم السوريين الآخرين هم رعايا أدنى مكانة، تتفاوت درجة اضطهادهم.

وبدل التخوين البعثي سيكون لدينا التكفير الإسلامي، وهما أداتان إيديولوجيتان لاحتكار السياسة والسلطة، أو تسويرها بالمبدأ الوطني السامي مرة، والمبدأ الديني المقدس مرة أخرى، بحيث لا يتجاسر عليها الخصوم، وبما يبيح للمتسلطين تجريم أي اعتراض عليهم، وربما إباحة دم الخصوم السياسيين.

وخلاصة القول أن النمط الفكري لـ«جبهة النصرة» لا يشكل قطيعة مع النمط البعثي، أو مع الطغيان كنظام سياسي، بل هو استمرار لهما على أسس إيديولوجية مختلفة، أكثر شباباً، وفي اتجاه أكثر تشدداً وتضييقاً.

* * * * *

لكن «جبهة النصرة» هذه التي تمثل خصماً من الثورة كقيم، كتطلع إلى سورية جديدة ديمقراطية، هي في الوقت نفسه سند للثورة كفاعلية مقاومة أو كصراع ضد النظام.

وبخصوصها تنضاف معضلة جديدة إلى نسيج المعضلات الكثيرة التي تواترت منذ بداية الثورة. فجبهة النصرة من المجموعات المقاتلة الأكثر انضباطاً وكفاءة، وهي صعدت باطراد مع تقدم الهدف السلبي للثورة، التخلص من النظام، على هدفها الإيجابي، سورية الجديدة الديمقراطية. علماً أن هذا التقدم حصل هذا بفعل تمادي النظام في العنف ضد بيئات الثورة وتصاعد أعداد الشهداء والدمار، أي مع ارتفاع الطلب على مقاومة النظام.

في هذا، الجبهة قوة فعالة منضبطة.

فإذا كان مدخلنا إلى الحكم عليها هو المدخل السياسي العملي الذي انطلقتُ منه في مقالة سابقة– بدت لنا الجبهة في ضوء أكثر إيجابية في شروطنا الحالية من مواجهة النظام الأسدي. أما إذا كان مدخلنا هو ما بعد النظام والاحتمالات الاجتماعية والسياسية والثقافية المكنونة في النموذج السلفي الجهادي كان محتما للحكم أن يكون سلبياً.

والمعضلة، تعريفاً، هي وضع يطرح علينا خيارين متناقضين، لا نستطيع الاكتفاء بأحدهما ضد الآخر، ولا الجمع بينهما. لا نستطيع أن نرحب بفاعلية «النصرة» القتالية ضد النظام، ونعمى عن تكوينها وتفكيرها؛ ولا أن نثبِّت أنظارنا على التكوين والتفكير، ونغفل عن دور «الجبهة» المهم في مقاومة نظام مستمر منذ عامين في قتل السوريين دون توقف. يركز بعضنا على أحد الوجهين دون الآخر، فيتعذر بناء سياسة عامة فعالة حيال هذه الظاهرة. في الوقت نفسه يتعذر بناء سياسة متماسكة تجمع بين تأييد النصرة قتالياً ونقدها فكرياً، وإن يكن هذا المسلك هو الأعدل ذاتياً في شروطنا الراهنة.

في مواجهة هذه المعضلة المتعذرة الحل اليوم يتراجع التماهي بالثورة أو تشيع المواقف الفاترة.

هذا المسلك الهروبي شائع في أوساط الطبقة الوسطى المتعلمة.

من جهتنا لا نرى أنه يمكن مواجهة «جبهة النصرة» بالهروب وإشاعة التشاؤم، ولا بالنقد الليبرالي، ولا بالوعظ الوطني والعلماني. يمكن مواجهتها، ويجب، بجبهة اجتماعية سياسية قوية، تتطلع إلى أوسع انخراط للسوريين في الحياة العامة لبلدهم. ملايين السوريين الناشطين سياسياً هم القوة الأمنع أمام مصادرة الثورة لأي طرف سياسي أو ديني.

وحده ما هو جيد في مواجهة نظام الطغيان هو الجيد لمواجهة «جبهة النصرة» وأشباهها.