لا تريد الولايات المتحدة الأميركية للثورة السورية أن تنتصر في ساحات القتال. تجربتها في العراق، والنظرة الاستشراقية الكلاسيكية للمشرق العربي التي تحضر في دوائر قرارها، تجعلها كاملة القناعة اليوم أن نصراً كهذا لن يتبعه إلا حروب ومذابح طائفية مروعة، وصعود لقوى إما أن تكون مجهولة فيصعب الحديث معها، أو إسلامية متشددة تهدد أمن المنطقة، وأمن إسرائيل أكثر تحديداً.

لكن الإدارة الأميركية لا تستطيع في الوقت عينه تجاهل الملف السوري أو ترك الثورة وحيدةً تماماً. ليس فقط لأن خياراً كهذا يعني ميدانياً تعزيزاً لسيطرة وشرعية من تعتبرهم واشنطن متطرفين معادين لمصالحها، بل أيضاً لما للمسألة السورية من تبعات على المواجهة الإقليمية المستمرة مع إيران التي يشكل ملفها النووي، كما هو معلوم، القضية الخارجية الأولى على سلم أولويات أوباما.

بين هذا وذاك اختار الساسة الأميركيون طيلة السنة الماضية الحديث عن حل سياسي عجزوا هم أنفسهم عن تفصيل ملامحه أو آليات تنفيذه. وكان غطاءً لتخبطهم أكثر منه عنواناً لتصور منجز التفاصيل. سمحوا بدخول أسلحة نوعية أمّنت لـ’الجيش الحر‘ القدرة على الاستمرار، لكن ما إن تسارعت انتصارات هذا الأخير خلال الصيف حتى بادروا للعمل على ثلاثة أصعدة مختلفة: الأول كان دعم مبادرة الأخضر الإبراهيمي؛ الثاني كان العمل قدر الإمكان على مركزة تمويل ’الجيش الحر‘ ليسهل التحكم باندفاعه؛ أما الثالث فكان تجاوز ’المجلس الوطني‘ لصالح جسم سياسي تقوده شخصيات ليبرالية غير حزبية افترضها الأميركيون أكثر تمثيلاً وتعاوناً.

ذروة هذه الجهود تجلت مؤخراً بعد تقهقر عسكري للنظام اعتبره الأميركيون كافياً لكي يرضخ. تبخرت المساعدات الموعودة لـ’الائتلاف الوطني‘ وبدأت ذخائر ’الجيش الحر‘ بالتناقص لسَوق الأخيرين أيضاً إلى تسوية سياسية ما كان ليكتب لها النجاح لأنها بالأساس قامت على فهم تقاسمي للعدالة (distributive justice) يجمع بين نظام تتناقض بُنيته مع أي صورة من صور التشارك وثورة لم تقم من أجل السلطة أصلاً، بل من أجل هدم بنى الاستبداد والاقتصاص من المستبدين (corrective and retributive justice). أطلق خطاب الأسد رصاصة الرحمة على صفقة الإبراهيمي هذه، لكنه لم يدفع واشنطن إلى مقاربة مختلفة نوعياً، أقله حتى الآن. وما رشح من معلومات مؤخراً يشير إلى السماح بدفعة جديدة من الأسلحة النوعية لتصل لـ’الجيش الحر‘ ومساعدات مالية قطرية لـ’الائتلاف الوطني‘ شرط الإسراع في تشكيل حكومة انتقالية ترأسها شخصية من أحد كبار المنشقين. الأميركيون يعوّلون إذاً على جولة جديدة من القتال، يتقدم فيها ’الجيش الحر‘ دون أن ينتصر، ويتلوها محاولة أخرى لتمرير حل سياسي ترتبط تفاصيله بالمستجدات الميدانية والدولية.

ماذا نحن فاعلون إذاً تجاه هذا المزيج الأميركي من التحيز والتباطؤ وقصر الرؤية؟ أو بالأحرى، ماذا لدى قيادات ’الائتلاف الوطني‘ (ومن ضمنها قيادة ’المجلس الوطني‘) من تصور لتحدّيات المرحلة المقبلة؟ المواقف الحالية يطغى عليها تصوّران يتباعدان في المضمون، ويتساويان في العجز وقلة الحيلة. قد يصحّ وضع التصور الأول تحت عنوان مجاراة الأميركيين ووكلائهم الإقليميين قدر الإمكان للإبقاء على الدعم المادي والعسكري أولاً وأخيراً، ومن باب أن «أصدقاء» الثورة هؤلاء لا شك ملتزمون بالإطاحة ببشار الأسد في نهاية المطاف، بطريقة أو بأخرى. هنا يتم التهرب من التفكير في مآلات صفقة الإبراهيمي فيما لو كان النظام قد قبل ببنودها (مناورةً أو إذعاناً) كما لا يتم التفكر أو التخطيط لما هو وراء ثنائية الهزيمة والنصر، أي في احتمال استطالة الصراع في سوريا وما قد يعنيه هذا من خطر على كيانها، في ظل توجّه أميركي لا يعترف بعدم قدرة روسيا على إجبار الأسد على التنحي، ولا يقدم للإيرانيين أي تنازلات على صعيد ملفهم النووي.

في المقابل تحضر هذه الهواجس جميعها عند المدافعين عن التصور الثاني الذي يتمحور حول عرقلة المخططات الأمريكية المطروحة، إنما دون اقتراح تصورات عملية بديلة. هنا يتحول العمل على إسقاط مشروع الحكومة الانتقالية اليوم –ولـ’الائتلاف الوطني‘ في الأمس– بديلاً عن مجابهة أسئلة أهمّ وأجدى: هل تستطيع الثورة اليوم الاستمرار من دون دعم حلفائها المفترضين؟ هل من وسائل أخرى لتأمين السلاح لـ’الجيش الحر‘ والمال لأجسام الثورة الإغاثية؟ وهل من الممكن استثمار القليل جداً من الجهد والمال لخلق «لوبي» ثوري (سوري-أميركي) مؤثّر في واشنطن؟ التوجّس من التوجهات الأميركية بمعنى آخر لا يمكن أن يتوقف عند حدّ «الحَرَد» وردّ الفعل، وإذا كان على البعض أن يعي خطورة مجاراة الأميركيين على طول الخط، فكذلك يجب على البعض الآخر تجاوز حالة التوجس والنقد السلبي.