لا يتطلب الأمر نباهة بالغة، بل من البديهي القول أن طريق المجتمعات العربية المنتفضة إلى الديموقراطية مختلف عن طرق باقي المجتمعات والنماذج التاريخية، فلم يأت الربيع العربي، على سبيل المثال، عقب مرحلة تحديث صناعي ليكسر قشرة الاستبداد العسكري وينقل مجتمعاته إلى نعيم سلطات ديموقراطية تتداول عليها نخب سياسية ذات بداهات وتقاليد ديموقراطية راسخة في إطار دولة دستورية مستقرة، بل لازالت مجتمعاته غارقة في اقتصاد ريعي يحول المجتمع إلى هيولى طبقية متمفصلة مع بنى عصبوية تهيمن عليها نخب بائسة تنبذ من ثقافتها قيم العمل والانتاج والحرية، وبالتالي التقدم. ويتموضع، هذا الاقتصاد، في محرق شبكة علاقات نظام النهب العالمي. ومن هنا تنفجر أسئلة محيرة عن طبيعة الطريق إلى الديموقراطية وعن استحقاقات هذه الرحلة.

ورغم هذا السياق المغلق، تمكنت الانتفاضات العربية من فرض وقائع جديدة. لقد أعلنت عن ولادة مناخات ثقافية واجتماعية وسياسية جديدة، فقد تمكنت الجماهير إثر الطفرة التكنولوجية من التحول إلى شعب ذو عفوية خلاقة ونباهة بالغة وفردانيات سامقة، كما جاءت لتعلن عن احتضار البنى البطريركية والعصبوية والعقليات المركزية وكافة ترجماتها السياسية، وقد ظهر ذلك كله جلياً في المشهد المصري، ولكنه ظهر على شاكلة مسألة لم يكتمل متنها ولا يمكن بالتالي معرفة مصائر أجوبتها، ففي الوقت الذي تسببت نباهة الشعب بالتراجع السريع في شعبية قوى الإسلام السياسي السلطوية لم تتمكن القوى الثورية، بسبب شيوع الروح الفردانية وفقدان مقولات الحزب والزعيم وغيرها من تعبيرات العقلية المركزية لهيبتها، من التداول على السلطة أو تحقيق تقدم سياسي ملحوظ.

قد يساهم الزمن في حلحة هذا المشهد وتبسيط المسألة، فمع الوقت ستصل القوى السياسية إلى حجم مستقر وبرنامج واضح وستساهم كل منها حسب وزنها في تداول السلطة وصناعة القرار، وهذا على ما يبدو مصير المشهد المصري، ولكن ذلك لن يقود إلى انتقال ديموقراطي راسخ فأغلب الظن أن القوى الإسلامية السلطوية سنتجح في الهيمنة على المشهد السياسي عبر التحالف مع العسكر لإعادة إنتاج الاستلاب السياسي والاقتصادي والحقوقي للمواطن المصري ضمن إطار ديموقراطية هشة تتعمق تدريجياً وعلى إيقاع بطيء تنظمه نضالات القوى المدنية واليسارية.

أما في سوريا فالحال مختلف، ولاشيء ينفع للوهلة الأولى في تبسيط المسألة، فكيف إن كان المطلوب حلها. فبعد أن اضطرت الانتفاضة إلى اللجوء إلى العنف، احتكر الريف ميدانها وذخرت بتعبيراته الأهلية، وانسحبت القوى المدنية والديموقراطية إلى الصف الثاني وذلك، في كليته، ما ساعد القوى الإسلامية السلطوية على تمكين مواقعها، بل واستحالت الكثير من القوى السياسية إلى رهائن بيد القوى الإقليمية والدولية. يمكن لكل ذلك أن يندرج في سياق صعوبات الانتقال الديموقراطي ليس إلا، ولكن همجية التظام في قمع الانتفاضة، وما استتبعته من كوارث إنسانية وخراب في العمران والبنى التحتية والنسيج الوطني أبعد السوريين عن وارد التفكير بمسألة الانتقال الديموقراطي وأصبح شغلهم الشاغل التفكير في تدبر سبل الحياة والمقاومة وفي إعادة إنتاج الدولة بالمعنى الخدمى والأمني. وقد ظهرت في هذا السياق فكرة المجالس المحلية والمدنية التي أطلقتها قوى الحراك الثوري بعد مضي عام على الانتفاضة وتبناها «المجلس الوطني» وقيادات الجيش السوري الحر منذ منتصف العام المنصرم لتقوم بتأمين «الخدمات المدنية وحفظ الأمن أولا واستعادة الاستقرار والسلم الأهلي».

في أحشاء هذا الواقع المظلم الذي أجبرنا على الهروب من سؤال الانتقال الديموقراطي إلى الأمام، يمكن للانتفاضة السورية أن تنضج أولى ثمرات الربيع العربي والعلامة الفارقة على تحوّل انتفاضاته إلى انقلابات ثورية عميقة في بنى المجتمع والدولة بل وأن تعيد عموم السوريين إلى التفكر والمشاركة في مسألة الانتقال الديموقراطي. فبعد فصل هذه المجالس المحلية والمدنية عن حاضنها السياسي وربطها بحاضن وطني، مجلس حكماء يضم أبرز الوجوه الوطنية، يمكن أن تتحول إلى جنين مؤسسي لتأهيل وإعادة انتاج النخب المجتمعية، فهي من خلال المهمة الوطنية التي تقوم بأدائها، إعادة انتاج الدولة خدمياً وأمنياً والحفاظ على السلم الأهلي، تكتسب المشروعية الوطنية الجاذبة للطاقات وتتحول في نفس الوقت إلى مخبر عمل مستمر لهذه الطاقات والكفاءات، وهو ما يساعدها على تمكين صلاحياتها لتطلق ديناميكية غايتها التكامل مع الدولة وإعادة إنتاجها، وهو أيضاً ما يمنحها القدرة على توسيع نشاطاتها والتحول إلى ميدان لإطلاق الفعاليات والمبادرات المجتمعية ومنبر للمثاقفة السياسية والوطنية وإلى مؤسسة لتأهيل النخب وإعادة إعمار المجتمع المدني.

تأتي راهنية هذه الصيغة من تماشيها مع المناخات المعقدة التي أفرزتها الانتفاضة السورية خصوصاً والربيع العربي عموماً، ففي ظل الطابع الشعبي الشامل والبعد الأهلي والريفي للانتفاضة والخنق المنهجي والتاريخي لكافة تعبيرات المجتمع المدني ما قبل الانتفاضة يصعب التعويل على التعبيرات التقليدية من أحزاب ونقابات في اجتذاب النخب وإرساء استقرار سياسي، وفي ظل انتشار  ثقافة الهويات الصغرى، وتذرر الأقليات والاختلاط الطائفي والقومي وفوضى السلاح يصعب الاعتماد على سطوة حكومة مركزية كما يستحيل في الوقت نفسه نظراً للجغرافيا والديموغرافيا السورية والجيوسياسة الاعتماد على الفيدرالية لتأتي هذه المجالس كصيغة وسطية غير سلطوية تذلل عقبات هيمنة حكومة مركزية على البلاد وتقوم، مؤقتاً، بالعديد من المهام بالنيابة عن هذه الحكومة.

ليست هذه التجربة تعبيراً عن أفضل الممكن السيء، فما توفره هذه التجربة من مشروعية وطنية وحاضن عملي وبعد غير سياسي يمكن أن يشكل ثمرة إبداعية للانتفاضة السورية عبر الربط بين الديموقراطية التمثيلية والديموقراطية المباشرة ويمكن أن يحولها إلى أول ترجمة جدية للفكر الفوضوي وأول إفراز تاريخي جديد للربيع العربي. إنها يمكن أن تتحول إلى «لجان لإحياء المجتمع المدني» بقوة الواقع لا برغبة الفكر!